إلى المتخوضبن في مال الله
سامي بن محمد العمر
إلى المتخوضين في مال الله
أما بعد:
أما لو كان قادرًا على الكلام لقال:
أنا عصب حياتكم، وقوام شؤونكم
أنا زينة دنياكم، ومُيَسر بهجاتها، ومقرب لذاتها
أنا الخير الذي تحبونه وتتعبون من أجله وتعرقون في كسبه
أنا مال الله الذي آتاكم، وجعلكم مستخلفين فيه
أنا المال ... فتنة هذه الأمة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لكلِّ أمَّةٍ فتنةً، وإنَّ فتنةَ أُمَّتي المالُ))
أنا المال ... الذي ستسألون عنه في القيامة مرتين (من أين اكتسبه، وفيم أنفقه)
أنا المال... الذي حرم الإسلام الاعتداء عليه بغير حق، فقال صلى الله عليه وسلم-: (...كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) مسلم
أنا المال الذي تارة ينفرد بملكي شخص واحد فأكون له خاصة، وتارة أكون ملكا لجميع الأمة يتصرف بي ولي الأمر بما فيه مصالح العباد والبلاد باسم المال العام.
عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا، فَجَاءَهُ العَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ: «أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ؟» ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ العَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ: هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ "([1])
وفي رواية: ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ :(اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا)([2]).
عباد الله:
أراعكم ... في هذا الزمان أن تمادى بعض ضعاف الإيمان في العبث بمال الله العام في غير وجهه، بذلا وصرفا، سرقة وانتهابا، رشوة وهدية، تكسيرا وإفساداً؟
لقد حقر البعض صورًا من السرقات، وسماها بغير اسمها؛ ثم سوّل له الشيطان تعاطيها والولوج فيها؛ حتى تكاثرت تلك الانتهابات في الناس فصدق فينا قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ، لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ: أمِنَ الحلال أم من الحرام)) البخاري
عباد الله:
لئن كان التصرف بغير حق في مال المسلم الخاص جُرمًا عظيمًا وذنبًا كبيرًا، فإنه في مال الله العام أعظمُ جُرمًا، وأكبرُ ذنباً
وإن عذاب من يكون خصمه يوم القيامة شخص واحد لأهون بكثير من عذاب من يكون خصمه حينذاك: الأمةُ كلُّها.
فقد أخرج البخاري وأحمد من حديث خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ ـ يتصرفون ـ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
وإنما عظم الإسلام أمر المال العام، لأمور منها:
= أن ذمم جميع الأمة تتعلق به فمن أخذ شيئا منه سرقة واغتصابا ونهبا، أو صرفه في غير مصارفه إسرافا وتبذيرا، أو قام بإفساده تكسيرًا وتخريباً فكأنما عبث بمال كل واحد من الأمة.
= ولأن التطاول عليه يلحق الضرر بدولة الإسلام، ويضعف قوتها بين الأنام؛ حين يقدِّم أفرادُها مصلحتهم على مصالح أمتهم.
وفي الصحيحين أن سهما أصاب غلاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلاَّ والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلَة التي أخَذَها يومَ "خَيْبَر" من المغانم لَم تُصِبْها المقاسِمُ، لتَشْتَعِلُ عليه نارًا))
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إن من عظم اهتمام الإسلام بأمر الأموال وصيانتها وحفظها لأهلها
أن النبي r كان يبايع الناس عند الدخول في الإسلام على ذلك:
عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا...) متفق عليه
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه بريء من أهل السرقة والغلول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظَّم أمره، قال : ( لا أُلفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك......"([3]) صحيح البخاري.
قد أبلغتك.. أيها الطالبُ رشوةً في معاملة، أيها المزور ورقةً في اختلاس، أيها المستغل سلطةً لانتهاب وفساد.
قد أبلغتك... أيها المقدِّمُ مصلحتك على مصلحة أمتك بكل خِسة ودناءة، أيها المودي بها إلى موارد الشر والهلاك والعقوبة...
قد أبلغتك... لعلك ترعوي الآن، قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وإنما هي الفضيحة والعذاب:
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]
فهم بين يدي الله موقوفون، وبأعمالهم مجزيون، وعن أفعالهم محاسبون، وعلى تفريطهم وإهمالهم نادمون، وعلى رب العزة سيُعرضون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]
الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
([1]) صحيح البخاري (8/ 130)
([2]) البخاري،كتاب الهبة..،ح(2407)
([3]) البخاري (3073) ومسلم (1831)