إلى الرفيقِ الأعلى
راشد بن عبد الرحمن البداح
إلى الرفيقِ الأعلَى (راشد البداح- الزلفي) 1 شعبان 1446 هـ
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْأَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَوَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، صلى اللهُ عليهِ وسلمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ:
أيُها المؤمنونَ: أتدرونَ أيَّ رجلٍ عُمُرُهُ أبْركُ الأعمارِ؟! إنهُ لَلَذي أقسمَاللهُ بعُمُرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَمِعْتُ اللَّهَ -تبارَكَ وتعالَى- أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}().
ماتَ أبْرَكُ الخلائقِ عُمْراً، وهو ابنُ الثلاثةِ والستينَ سنةً، ولكنهُ حققَأعظمَ إنجازٍ في تاريخِ البشريةِ، وهو بلاغُ رسالاتِ اللهِ للجِنِّ والإنسِ، وإخراجُهم من الظلماتِ إلى النورِ.
عاشَ بعدَ حَجةِ الوداعِ ثلاثةَ أشهرٍ فقطْ، وفي آخرِ شهرِ صفرَ من السنةِ الحاديةَ عشرةَ للهجرةِ بدَتْ عليهِ أولُ بوادرِ المرضِ، فدخلَ بعدَالعصرِ على عائشةَ وهي تجِدُ صداعاً في رأسِها وتقولُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ: بَلْ أنَا وَارَأْسَاهُ().
وصلَّى بهمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاةَ المغربِ، وهو عاصبٌ رأسَهُ، يُغالِبُ الصداعَ والحُمى، والناسُ قيامٌ يستمعونَ لأطيبِ الذكرِ من أطيبِ فمٍ بقراءةٍ مترسِّلةٍ، وما كانَ يدورُ بخَلَدِ أيٍ منهم أنَّ هذا آخرُ مَقامٍيسمعونَ فيه قراءتَهُ.
فلما صلَّى انقلبَ إلى بيتهِ، وجعلَتْ حرارةُ الحُمى تتسعَّرُ على بدنهِالشريفِ، حتى كانُوا يجدونَ حرارتَه من فوقِ غطائهِ، فغُشِيَ عليه؛ وأُذِّنَ للعشاءِ، فأفاقَ وتَحامَلَ على بدنهِ؛ ليصلِّيَ بهم، ولكنهُ سقطَ مرةً أخرَى مُغمىً عليهِ، فلما أفاقَ عَلِمَ أنه لن يستطيعَ الخروجَ فقالَ: مُرُوا أبَا بَكِرٍ فَليُصَلِّ بالناسِ().
فصلَّى بهم أبُو بكرٍ خمسَ ليالٍ، حتى إذا كانَ يومُ الاثنينِ، والصحابةُ وقوفٌ خلفَ أبي بكرٍ يُخيِّمُ عليهمُ الحُزنُ واللوعةُ؛ لغيابِأحبِ مخلوقٍ إليهم، فبينما هم كذلكَ إذ فَجَأَهُم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَرفعُ سِترَ حُجرتهِ قائمًا يَنظرُ إليهم، متراصةٌ صفوفُهمْ، مؤتلِفةٌ قلوبُهمْ، يُقيمونَ أعظمَ شعائرِ الدينِ خلفَ أفضلِ أصحابهِ.
وإذا بالوجهِ الشاحبِ من المرضِ تعودُ إليه نَضرةُ النعيمِ، فيُشرِقُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بابتسامةِ الرضا والسرورِ، حتى كادَ الصحابةُأن يُفتَنُوا من الفرحِ وهم يَنظرونَ إلى وجههِ يُزهِرُ كأنهُ ورقةُ مِصحفٍ، وتأخرَ أبُو بكرٍ ظانًا أن رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُريدُ الصلاةَ، فأشارَ إليهم أنْ: أتِمُّوا صلاتَكُم، ثم أرخَى سِترَ حُجرتِهِ، فكانت تلكَ آخرَ نظرةٍ نظَرَها أصحابُه إليهِ وهم يصلُّونَ الفجرَ.
حتى إذا تعالَتْ ساعاتُ الضُّحَى كانَ نَفَسُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَتَصعَّدُ، وكُرُباتُ الموتِ تَشتَدُ، فجعلَ يُدخِلُ يديهِ في إناءِ ماءٍ، ثم يَمسحُ بها وجهَهُ ويقولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ().
ثم شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ البَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى().
وفاضَتْ أطهرُ روحٍ، وصعدَتْ إلى بارئِها راضيةً مَرضيةً، وبوفاتهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انقطعَ الوحيُ من السماءِ، وأظلمَ من المدينةِ كلُشيءٍ، وكانتِ المصيبةُ بهِ أعظمَ المصائبِ على الأمةِ، كما قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَإِنَّ أَحَداً مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي().
ومَا فَقَدَ المَاضونَ مِثلَ محمدٍ ** ولا مِثْلَهُ حتى القِيامةِ يُفقَدُ()
الحمدُ للهِ هدَانا للإسلامِ خيرِ دينٍ، وأنزلَ علينا القرآنَ خيرَ الكتبِ،وأرسلَ إلينا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيرَ الرسلِ أما بعدُ:
فقدْ خرجَ أكرمُ إنسانٍ على اللهِ -تعالَى- من الدنيا كما جاءَ إليها، ولم يَتركْ مالاً ولا متاعاً، وإنما تركَ هدايةً وإيماناً، وميراثاً من العلمِ عظيماً.ذهبَ الرسولُ وبقيَتِ الرسالةُ، وتوفيَ الداعيْ ودامَتِ الدعوةُ. وكانَ آخرُما أُنزِلَ عليهِ: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً﴾. فنَشهدُ أنه بلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، وتركَ أمتَه على المَحجةِ البيضاءِ، ليلُها كنهارِها، لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ.
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} فاتَّبِعُوا ولا تَبتدِعُوا، و{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (فلَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا تَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ، وَلَا تُفْتُوا حَتَّى يُفْتِيَ، والتّقدُّمُ بين يَدَيْ سُنّتهِ بعدَ وفاتهِ كالتّقدُّمِ بين يديهِ في حياتهِ)().
ولْتُكثِرُوا اليومَ وكلَ يومٍ من الصلاةِ والسلامِ على إمامِنا محمدِ بنِعبدِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والدعاءُ مَوقوفٌ بين السماءِ والأرضِحتى يُصلَى عليهِ.
(فصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا كلَّما ذكرهُ الذاكرونَ، وغفَلَ عن ذِكْره الغافلونَ، وصلَّى عليهِ في الأوَّلينَ والآخِرِينَ، أفضلَ وأكثَرَ وأزكَى ما صلَّى على أحدٍ مِنْ خَلْقِه، وجزاهُ اللهُ عنا أفضَلَ ما جزَى مُرْسَلاً عَمَّنْ أُرْسِلَ إليهِ، فلم تُمْسِ بنا نعمةٌ ظهرَتْ ولا بطنَتْ، نِلْنا بها حَظًّا في دينٍ ودنيا، أو دُفِعَ بها عنا مكروهٌ فيهما؛ إلا ومحمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-سَبَبُهَا، القائدُ إلى خَيْرِها، والهاديْ إلى رُشْدِها)().
• اللهم صَلِّ وَسَلِّمَ عَلَى مَنْ آمنا بهِ واحببناهُ، واتبعناهُ وما رأيناهُ، اللهم فلا تَحرِمنا يومَ القيامةِ رؤيتَه، واجعلْنا من إخوانهِ الذينَ تمنَّى رؤيتَهم يومَ قالَ: وَدِدْتُ أنِّيْ رَأَيتُ إخْوَانيَ الذِيْنَ لَمْ يَأتُوا بَعْدُ.
• اللهم اقبلْ تَوباتِنا، واغسلْ حَوباتِنا، وأجِبْ دعواتِنا، وسددْألسِنتَنا، واسلُلْ سخيمةَ قلوبِنا.
• اللهم وبارِكْ في عُمُرِ وعمَلِ وليِّ أمرِنا ووليِ عهدِهِ، وزِدْهُم عزًا وبذلاً لنصرةِ الإسلامِ، واجزِهم خيرًا على إقامةِ الشرعِ، وخدمةِ الحرمينِ،ونَجدةِ المسلمينَ، وراحةِ رعيتِهم.
• اللهم صلِ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
المرفقات
1738230719_إلى الرفيق الأعلى.docx
1738230719_إلى الرفيق الأعلى.pdf