إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي. 1442/9/11هـ
عبد الله بن علي الطريف
إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي. 1442/9/11هـ
الحَمدَ للهِ الذي من علينا بإدراك شر رمضان، ووفقنا فيه للصيام والقيام وقراءة القرآن، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ: أيها الإخوة اتقوا الله حق التقوى ولشكر الله على ما انعم به علينا من إدراك هذا الشهر لعلنا نحوز على وعد ربنا الجزل؛ ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" " لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ " رواه مسلم وغيره
يا الله أيُ عنايةٍ إلهية منك إلهي بالصوم، وأيُ تعظيمٍ لجزاء الصائمين يَدُلُ عليه هذا الوعدُ من لدنك.. وأي مقدارٍ لهذا العرض الضخم يمكن أن يتصوره بشر.!
إلهنا إذا كنت توفيهم أجورَهم على كل أعمالهم مضاعفة فأنت القائل: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160] وانت القائل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261] ثم تستثني بفضلك وجودك الصيام من أعمالنا وتخرجه من المضاعفة، لتجعل جزاءه لك سبحانك وبجمدك.. فلا شك أنه جزاء لا يقدر بعدد وقد أحسن الإمام الأوزاعي رحمه الله لما قال: "ليس يوزن لهم ولا يُكال، إنما يغرف غرفاً". فاللهم لك الحمد..
أيها الإخوة: جَمِيعُ الطَّاعَاتِ للهِ تَعَالَى؛ فما سر هذه الإضافة.؟ لقد أبحر علماء الأمة بتلمس السبب، وذكروا أقوالاً كثيرة، لا أرى مانعاً من أخذها كلها.. فَقِيلَ: سَبَبُ إِضَافَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى بِالصيامِ.. ولَمْ يُعَظِّمْ الْكُفَّارُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ مَعْبُودًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ، وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ، وَالسُّجُودِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالذِّكْرِ، وَغَيْر ذَلِكَ.
وقِيلَ: بأن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى عن أجر الصابرين: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10] قال السعدي رحمه الله: أي بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند الله، وأنه معين على كل الأمور.
وقال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: قال أهل العلم ولأن الصوم اشتمل على أنواع الصبر الثلاثة ففيه صبر على طاعة الله وصبرٌ عن معصية الله وصبرٌ على أقدار الله.
أما الصبر على طاعة الله: فلأن الإنسان يحملُ نفسَه على الصيام مع كراهته له أحيانا؛ يكرهه لمشقته لا لأن الله فرضه؛ فلو كره الإنسان الصوم لأن الله فرضه لحبط علمه لكنه كرهه لمشقَتِه ولكنه مع ذلك يحمل نفسه عليه؛ فيصبر عن الطعام والشراب والنكاح لله عز وجل، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي"..
النوع الثاني: الصبر عن معصية الله، وهذا حاصل للصائم فإنه يصبر نفسه عن معصية الله عز وجل فيتجنب اللغو والرفث والزور وغير ذلك من محارم الله.
النوع الثالث: الصبر على أقدار الله وذلك أن الإنسان يصيبه في أيام الصوم ولاسيما في الأيام الحارة والطويلة من الكسل والملل والعطش ما يتألم ويتأذى بِهِ ولكنه صابرٌ لأن ذلك في مرضاة الله.
فلما اشتمل على أنواع الصبر الثلاث كان أجره بغير حساب قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
وَقِيلَ: لِأَنَّ الصَّوْمَ بَعِيدٌ مِنْ الرِّيَاءِ، لِخَفَائِهِ، لأن ترك الشهوة والطعام والشراب من أجل الله تعالى عملٌ باطني ونيةٌ خفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَغَيْرهَا مِنْ الْعِبَادَات الظَّاهِرَة، التي يراها الناس.. أما الصيام فلا يراه أحد؛ لأنه ليس معنى الصيام ترك الطعام والشراب فقط أو ترك المفطرات لكن مع ذلك لا بد أن يكون خالصًا لله عز وجل، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: والصوم لا يدخله شرك بخلاف سائر الأعمال فإن المشركين يقدمونها لمعبوداتهم كالذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، وكذلك الدعاء والخوف والرجاء فإن كثيرًا من المشركين يتقربون إلى الأصنام ومعبوداتهم بهذه الأشياء بخلاف الصوم، فما ذكر أن المشركين كانوا يصومون لأوثانهم ولمعبوداتهم فالصوم إنما هو خاص لله عز وجل فعلى هذا يكون معنى قوله: «إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» أنه لا يدخله شرك؛ لأنه لم يكن المشركون يتقربون به إلى أوثانهم وإنما يتقرب بالصوم إلى الله عز وجل. أهـ. جعل الله صيامنا خالصاً لوجهه.. أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة اتقوا الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. وَمما قِيلَ: إن أعمال ابن آدم قد يجري فيها القصاص بينه وبين المظلومين، فالمظلومون يقتصون منه يوم القيامة بأخذ شيء من أعماله وحسناته كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» والمقصود إلا أجر الصيام فإنه لا يؤخذ للغرماء يوم القيامة منه شيء، وإنما يدخِره اللهُ عز وجل للعامل يجزيه به ويدل على هذا قوله في إحدى روايات الحديث: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» أي أن أعمال بني آدم يجري فيها القصاص ويأخذها الغرماء يوم القيامة إذا كان ظلمهم إلا الصيام ، فإن الله يحفظه ولا يتسلط عليه الغرماء ويكون لصاحبه عند الله عز وجل..
قال شيخنا رحمه الله: إذا كان يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد فإنه يؤخذ للعباد من حسنات العبد، إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء لأنه لله عز وجل وليس للإنسان وهذا معنى جيد أن الصيام يتوفر أجره لصاحبه ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيئا.
وقال ابن بطال: إنما خص الصوم بأن يكون هو الذي يتولى جزاءه، لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب، فيقول: أنا أتولى جزاءه على ما أحب من التضعيف، وليس على كتاب كتب..
أيها الإخوة: ولعل هذا السبب هو سبب فرح الصائم بالصيام عند لقاء ربه.. أسأل الله تعالى أن يتم لنا الصيام والقيام ويتقبله منا وصلوا وسلموا على نبيكم..