إقتصاد الأسرة.. بين فكّيْ بخيلٍ ومسرف

أبو بدر
1435/05/12 - 2014/03/13 23:54PM
إقتصاد الأسرة.. بين فكّيْ بخيل ومسرف

الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا دِينَه، وأتم علينا نِعمَته، ورضي لنا الإسلامَ دِينا، نحمدُه حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من خيره العظيم، فكم غفر للمستغفرين وكم زاد فضلَه على الشاكرين، وكم عم بإحسانه السائلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقو الله عباد الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

أيها الأحبةُ في الله: تراه في مظهره، وتسمع شكواه وتذمره، فتحمدُ اللهَ على ما أنت فيه من لباسٍ حسّن، وقناعة بما رزقك الله وفيه حسنِ ظن.. أولادُه يسيرون في الطرقات بلا أحذية، وبثيابٍ ممزقة، وربما سألوا الناس بعضَ الريالات لشراء ما يشتهون، ترحمُ هذا لما ترى من شدة فقره، وحاجته، وسوء حال أولاده وفاقته.. ولكن تمالك نفسَك، ولا تستغرب عندما تعلم بأن رصيده من الأموال يفوق العشرة ملايين ريال، بشهادة الثقات.. هذه صورة من مجتمعنا لماذا نراها يا ترى؟

ولماذا البعض منا راتبه يفوق العشرةَ آلافِ ريالٍ شهريا، وقبل منتصف الشهر يعلن إفلاسه ليستدين ممّن راتبه قد لا يصل الثلاثة آلاف.. بل ربما استدانَ المئة والمئتين ممن لا وظيفة عنده ولا راتب؟
صورتان أضاعتا كثيرا من الحقوق المالية، وانهارت بعض أسر مجتمعنا بين فكي بخيلٍ ومسرف.
لماذا تكثر الهموم عند بعض الأحبة عندما يفكرون في المال مع أن لديهم مصادر دخلٍ لا بأس بها؟
لماذا وكيف وما الحل؟

أليس سبب ذلك هو سوء تدبير ربِ الأسرة أو الأسرةِ كلها لمصادرها المالية وإدارتها وحسن تصريف الدخل الشهري؟ وعلاجُ ذلك أحبتي في الله وضعُ خطةٍ لميزانية الأسرة وتدبير دخلها.

أيها المسلون: بعد أن تحدثنا في الخطبة الماضية عن التجارة ودخول السوق وطلب الرزق الحلال، اقترح بعض الأحبة أن يكون موضوع خطبتنا اليوم عن الإنفاق وطرق الإنفاق السليمة، التي تكون بإذن الله عونا على حسن إدارة الجوانب المالية للأسرة.. فاسمحوا لي أن أرتب لكم بعض الوصايا التي أسأل الله عز وجل أن تكون عونا لكل مسلم ومسلمة في إدارته المالية لأسرته:

أول وصيةٍ مالية أوصي كل ربِ أسرةٍ بها: هي الوصية التي من تمسكَ بها ونفذها كانت بركةً وزيادةً ونماءً له في ماله.. ألا وهي أداءُ حقوق الله التي شرعها لعبده في ماله، ألم يقل الله عز وجل عن الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]، فقد وصفها الله عز وجل بأن الزكاة تطهير لصاحب المال وتزكية ونماء لماله.. أوما سمعتم بحديث من لا ينطق عن الهوى r حين قال: ((ما نقص مالُ عبدٍ مِن صدقة))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني.

فإن كان على المال زكاةٌ واجبة فلتؤدها حال وجوبها، وإن لم يكن عليه زكاة.. فبالله جرب أن تجعل من راتبك أو دخلك نصيباً محددا معلوما.. تدفعُه قرضاً حسنا وصدقةً مستحبة لمستحقيها من الفقراء والمساكين والمحاجين.. جرب ووالله لتجدنّ ثمرة ذلك قريبا في زيادة مالك وبركته، وحفظك ومالك وأولادك من كثيرٍ من البلاء والمصائب (داووا مرضاكم بالصدقة).

وكلما دعتك نفسُك للشح، وخوفك شيطانُك من الفقر، فألجمهما بحديث المصطفى r: ((ما من يوم يُصبح العباد فيه، إلا ملكانِ ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))؛ رواه البخاري ومسلم.

الوصية الثانية: احذر كل الحذر من أن يدركك ما استعاذ منه النبي r(غلبَة الدَّين وقهر الرجال) فاحذر الدَين قدر المستطاع، ومع هذا فإن كثيرا منا عليه ديون، قد تكون لحاجة يوم أخذناها وقد تكون تهورا وعبثا بلا حاجة، وفي كلا الحالين إبدأ طريق النجاح والتوفير وحسن إدارة أموالك بالمبادرة إلى سداد ديونك وحقوق الناس عليك قدر الإمكان، واحذر من المماطلة في سدادها مع القدرة، وتذكر قول النبي r ((مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله))؛ "صحيح البخاري"، فبادر بسدادها كلما توفر لديك المال أعانك الله.
وبالمناسبة احذر الربا إقراضا واقتراضاً.. مهما زخرفته المرابون، ولووا له أعناق الفتاوى، فكم من مالٍ أهلكه الربا، وكم من اقتصادٍ دمره الربا، وكم من غنيٍ افتقر بسبب الربا (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)

ثالثاً: عود نفسك على توفير جزءٍ ولو يسيرٍ من دخلك الشهري يكون للحاجة أو يفيدك في تكوين رأسِ مالٍ يفيدك في إنشاء مشروعِك الصغير الذي قد يكون بداية نجاحك في السوق. وتوفير هذا الجزء من مالك قد يكون صعباً في بداية الأمر ولكن ابدأ بالتدريج وارفع نسبته شيئا فشيئاً.
وليعلم كل مسلمٍ ومسلمة بأن ديننا يأمرنا ببذل الجهد للاستغناء عن سؤال الناس، ويدعونا لإغناء من تحت أيدينا من الأولاد وغيرهم، فقد قال النبي r لسعد بن خولة - رضي الله عنه – كما في صحيح مسلم: ((إنك أنْ تذر ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِن أن تذرهم عالة يتكففون الناس)).

رابعا: وهي من أهم الوصايا: لكل نفسٍ أيها الأحبة شهوة في شراء بعض الأشياء، ومن المشكلات أن تقوى هذه الشهوة عندما يتوفر المالُ في جيبك، وقد يكون ما تشتهي شراءه شيئا حاجتك إليه ليست ملحة وغيره من الضروريات أولى منه، وتعظم المشكلة إذا كان باهض الثمن.. فما الحل والعلاج؟
النفس أيها الأحبة كالطفل إن رغب في شيئ أراد الحصول عليه في وقته حالا، فعود نفسك كلما اشتهت شيئا أن تحسب مضاره ومنافعه وأولوياتك وضرورياتك.. ثم أجل الشراء أياما.. أسبوعا على الأقل.. ستجد هذا الشيء قد قلت أهميته بالنسبة لك.. وزاد فيه زهدُك وصرفت النظر عن شرائه.. ولذلك إخوتي في الله كم في منازلنا من أشياء لا نستخدمها وقد يكون آخر علمنا بها وقت شرائها.. لأننا اشتريناها ليس لحاجتنا لها وإنما لأن أنفسنا في ذلك الوقت اشتهت فاشترت، فاندفن كثير من مشترياتنا دون استخدام.. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجابر لما رأى معه لحمًا: ما هذا يا جابر؟ فقال جابر: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: أَوَكلما اشتهيتَ اشتريتَ؟!

وإن كان لديك أشياء ضرورية ترى أنك بحاجتها فما أجمل أن تضعها في قائمة شهرية.. تبدأ بشراء المهم منها كل شهرٍ وهكذا..

خامساً: احذر من النزهة الهادمة.. أعني هادمة اقتصادك.. وهي ذهابك للتسوق بناءً على طلب عينيك.. لا على طلب حاجتك، فالبعض يذهب للتنزه في الأسواق ويعود وقد صفر رصيده واشترى مالا حاجة له فيه.. ليخزنه وقد يخربُ قبل استهلاكه.. فلا تذهب للتسوق إلا وقد حددت قائمةً بمشترياتك التي من أجلها أتيت، وعود نفسك أن لا تأخذ كل ما رأت عينك..

سادساً: من الأفكار المتعلقة بإدارة ميزانية الأسرة تخصيص مصروفٍ شهري شخصي ثابت للزوجة، يكون مصدرها لشراء حاجاتها الشخصية.. ويكون هذا المصروف معتدلا لا يضر بميزانية الأسرة.. ويكون كافيا لحاجات الزوجة.. كل بحسب استطاعته قال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]. ويتم قبله الاتفاق على عدم تجاوز هذا المصروف وأنَّ هذا راتبها، تلبس منه، وتَتَزَيَّن منه، وتهدي وتَتَصَدَّق منه. علِّمْها الاقتصاد والتوفير بهذه الطريقة، إنْ طلبتْ منك زيادة في شهْر، فأخْبِرْها ألا مانع أن أقدم لك مصروف الشَّهْر القادم أو جزءًا منْه، ومع الوقت سترتاح أنتَ منَ المطالِب المُتَكَرِّرة، وترتاح هي مِن مطالبتك في كلِّ مناسَبة.

وينبغي على الزوجة مراعاة ميزانية الأسرة وعدم إثقال كاهل الزوج بطلبات قد لا تكون ضرورية، تتعبه نفسيا وقد يلجأ إلى حلول تزيد إعساره إعسارا..
والأولاد كذلك أيها الأحبة من الجيد تعويدهم على إدارة مصروفهم وإدخاره وحسن صرفه، وهنا أنبه على أن لا نكون ممن يغرق ألاده في توفير كل ما يشتهون ظنا منا بأن هذا حب لهم مع أنه قد يضرنا ويضرهم أكثر مما ينفع، وقد نقع بسببه فيما نهانا الله عنه ﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 26 - 27].

سابعا: فرّق بين البخل والاقتصاد، {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ} [الإسراء: 29].

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ..

الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة:123].

أما بعد: أيها المسلمون: فإن من أعظم الوصايا المتعلقة باقتصاد الأسرة أن مما عمت به البلية وطمت، ظاهرة الإسراف والتبذير، في مخالفة صريحة لنص الكتاب والسنة.. وإن من أطم الطوام أن هذه الظاهرة المروعة لم تعد تقتصر على الأسر الغنية والثرية.. بل غرقت فيها الأسر الفقيرة كذلك.. ليبقى عائل الأسرة بعد حفلة مباهاة وخيلاء يسدد ديونه حتى يدركه الفناء..

ووالله إنها لصور مؤلمة تنوعت في مجتمعاتنا مع الأسف، حتى صار الناصح منا يحتار فيما ينصح عنه، ما بين إسراف وخيلاء حفلات الزواج والأفراح، وحفلات التخرج والنجاح، التي يصرف فيها عشرات الآلاف من الريالات في أمور لا قصد وراءها سوى البحث عن الشهرة وحديث الناس والترفع عليهم.
يليها في المراتب المباهاة في السفرات السياحية، حتى صار هم بعض العامة: إلى أي بلد ستذهبون، وكم ستقيمون، وكم من الأموال ستبذرون.

يقول النبي r: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ))، وَيُخْشَى والله على كل مسرفٍ ومبذرٍ مِنْ سَلْبِ النِّعَمِ، وَحُلُولِ النِّقَمِ؛ لَأَنَّ كُفْرَ النِّعَمِ يُزِيلُهَا، كَمَا أَنَّ شُكْرَهَا يُدِيمُهَا وَيَزِيدُهَا؛ ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7].

ثم صلوا على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين والصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والكفرة والملحدين، ودمر أعداء الدين اللهم احفظ إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.. اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، ووحد صفهم، وسدد رميهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم ووفق ولاة أمور المسلمين وارزقهم البطانة الصالحة اللهم وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

========
المراجع:
الإدارة المثلى للدخل الشهري
أحمد مخيمر
http://www.alukah.net/Social/0/24688/


عشر خطط لتيسير أموركم المالية وحفظ نقودكم
د. سعد بن صالح الرويتع الشريف

http://www.alukah.net/Sharia/0/21348/#ixzz2vsxvRPvn
ميزانية الأسرة .. منهج مفقود لعائلة سعيدة
جابر شعيب الإسماعيل

http://www.alukah.net/social/0/4487#ixzz2vt172C8y
المشاهدات 1729 | التعليقات 0