إضاءات لأئمة المساجد في الوقف والابتداء في القرآن الكريم

عبدالرحمن العليان
1437/08/29 - 2016/06/05 07:23AM
بسم الله الرحمن الرحيم


إضاءات لأئمة المساجد في الوقف والابتداء في القرآن الكريم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:
فهذه أسطر كتبتها قبيل هذا الشهر المبارك: شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، أوجهها إلى أئمة المساجد خاصة، وإلى من أراد الإفادة منها عامة، حول موضوع كان يشغلني مذ سنين عديدة، ألا وهو الوقف والابتداء في تلاوة الكتاب العزيز، وقبل الشروع في المقصود أقدم بأربع مقدمات:
الأولى:أن من نافلة القول التأكيدَ على شرف علم الوقف والابتداء، وارتباطه بتأويل كتاب الله تعالى، فهما وإفهاما، ولذا اهتم العلماء به اهتماما بليغا، وألفوا فيه المؤلفات في أوائل مؤلفات التراث الإسلامي([1])، وكتبوا فيه أبوابا في كتب التجويد، وَقَلَّ أن يخلوَ كتاب تفسير من المطولات من الكلام عن الوقف والابتداء، بل أشار ابن الجزريِّ - رحمه الله - إلى اشتراط كثير من الأئمة على المجيز ألا يجيزَ من لا يعرف الوقفَ والابتداء([2]).
ولو لم يكن من الحضّ عليه من كلام الأئمة إلا ما قاله ابن النحاس - رحمه الله - لكفى، فقد قال: «قد صار في معرفة الوقف والاستئناف التفريقُ بين المعاني، فينبغي لمن قرأ القرآن أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والاستئناف، ويحرص على أن يُفهِم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وقفه عند كلام مستغنٍ أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا»([3])، وقال علم الدين السخاوي - رحمه الله -: «ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دوّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده»([4]).
الثانية:أن فروع هذا العلم كثيرة، فقد تكلم العلماء فيه عن أنواع الوقف، من التام والحسن والقبيح، وكذلك الوقف على رؤوس الآي والخلاف فيه، ونحو ذلك.
إلا أن هذه الأحرف لن تتطرق لهذه التقسيمات وهذه التفصيلات، بل الكلامُ مُتَّجِهٌ إلى ما يهم الإمام في الصلاة من قواعدَ جامعات، أو تنبيهات نافعات، والداعي إليها هو ما يلاحظ من خلوّ قراءة كثير من الأئمة من الاهتمام بهذا الموضوع الشريف، بل والزهد فيه أكبر زهد، فَفَقَدَتِ التلاوةُ عند هؤلاء جمالَهَا، وفارق الأداءَ رونقُه وبهاؤه، وقُطع الكلام المتصل، ووُقِف على ما يؤدي معنى قبيحا، وبُدِئَ من حيث ما يُفهِم باطلا، وربما شَعَرَ ببعض ذلك فاعلُه، ولم يشعر بأكثره، ولا يراعي في ذلك إلا النفس، فيقف حيث انتهى النفس، ويبدأ مما يلي ذلك!.
وقد تناسى هؤلاء - أنار الله بصائرهم - أن حالَ تالي القرآن مع السامع كحال الدليل مع المستدلّ، فالمستدلُّ يتبع أثر دليله حيثما تَوَجَّهَ، ويقف حيث وقف، والتالي لكتاب الله كذلك، فهو بصوته وأدائه ووقوفه يُفَسِّرُ القرآن، ويستخرج المعاني، ويلفت النظر أيان اقتضى الأمر؛ فإذا كان ذلك كذلك فأنّى لنفوس تعطشت إلى كتاب الله في رمضان عَطَشَ الظمآنِ في يوم صائف إلى الماء القُراح، ولربما اقترفت هجرا طويلا عن هذا الكتاب الكريم، أنّى لها أن تتدبر كتاب ربها حق التدبر، وتتعقلَهُ حقَّ التعقل، والقارئ لا يعينها على ذلك؟!
الثالثة: أن الوقف والابتداء علم وثيق العلاقة بعلم التفسير، وعلم النحو، وعلم البلاغة، فلا يمكن أن يَفَقَهَ الوقفَ والابتداءَ حق فِقْهِه من لا يَعِي مفاتيحَ هذه العلومِ وَأُسُسَها، ولكن المأمور المشروع يأتي المسلم منه بما استطاع، وما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَك كلُّه، وهذا العلم كلما أدار التالي كتابَ ربه ذهنَه إليه أكثر، وكانت ملازمته له أطول؛ كانت فائدتُه أتم، وإدراكُ قواعده أسرعَ وأحسن.
وسأحاول جاهدا إن شاء الله تسهيلَ ما سأذكره من قواعد وملاحظات، ويأخُذُ كلٌّ منها ما تيسر له.
الرابعة:بلا شك أنه يغتفر في القراءة في صلاة التراويحِ والقيام ما لا يغتفر في قراءة التعليم والتعلم ونحوها، فقراءة القيام يغلب عليها الحدر، فيتجاوز فيها في بعض الوقوف التي لا تحيل المعنى وغير القبيحة؛ ذلك ليعلم أن ما يُنَبَّهُ إلى وصله أو الوقف عنده ليس على درجة واحدة من حيث اللزوم، وسيأتي بيان ذلك تفصيليا إن شاء الله.
والكلام في الوقف والابتداء فيما يهم الإمام يمكن أن يجعل على قسمين:
القسم الأول: الوقف قبل الركوع، والابتداء بعد الفاتحة من الركعة التالية في نفس اليوم أو من الغد، وهو المسمى بـ (قطع القراءة)، وهذا يعني اختيارَ الإمامِ للوقف المناسب على رأس آية قبل الركوع، والابتداء بعد ذلك، كأن يقطع القراءة في الركعة الأولى عند نهاية الآية السادسة عشرة من سورة البقرة، ثم يستأنف في الركعة الثانية من الآية السابعة عشرة {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] ويقف عند نهاية الآية الرابعة والعشرين من السورة ذاتها {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وهكذا.
وليس المعنيُّ بذلك الخلافَ في الوقف على رؤوس الآي ووصل بعضها ببعض عند شدة تعلق المعنى، فليس هذا موضعَ الكلامِ عليه.
القسم الثاني: الوقف والابتداء وسطَ الآية الواحدة، كأن يقرأ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ}، ثم يقفُ هنا لانقطاع النفس، ثم يعيد: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، أو أن يقف اختيارا؛ كأن يقرأ قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، ثم يقف ثم يكمل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: 275].
فأما القسم الأول؛ فإن المشاهد من بعض الأئمة الالتزام بقطع القراءة عند نهاية الوجه والابتداء بما بعده من مصحف مجمع الملك فهد، أو ربما عند انتصاف الوجه عند من يخففون صلاة التراويح جدا، ونحو ذلك، بقطع النظر عن تعلق معنى الآية التي قطع القراءة عليها بما بعدها مهما كان التعلق شديدا؛ وربما فَعَل ذلك من فَعَله لأن فيه ضبطا لعدّ ركعات الصلاة، وبخاصة من يقرأ عن ظهر قلب، وربما خَوْفَ تفاوت الركعات طُولًا وَقِصَرًا في الوقت، وخشية الإثقال على المصلين، إلى غير ذلك من الأسباب.
وفي حقيقة الأمر أن من الآيات ما يكون تعلقها ببعضها شديدا، يقبح القطع على الأولى منهما والابتداء بما بعدها إطلاقا، ومنها ما يكون التعلقُ بينها تعلقا ظاهرا إلا أن القطع على الأولى منهما لا يحيل المعنى، ومنها ما يكون القطع فيها قاطِعًا لاتصال المعاني ببعضها، ويكون الاستئناف بما بعد ذلك لا يؤدي معنًى إلا مع ما قبله، فهذا النوع الأخير ربما يُعفَى عنه بين الركعتين في اليوم الواحد، لكن لا يُقبَل أن يقفَ عليه القارئ في هذا اليوم، ثم يأتيَ من الغد يكمل ما وقف عليه بالأمس.
وَفِقْهُ هذا الأمر يتطلبُ الْتِفَاتَةً إلى تدبر المعاني والسياقات، واتصالِ بعض الكلام ببعض من عَدَمِه، والتفريق بين ما يكون عطفا وما يكون استئنافا، ويستعين الإمام في معرفة ذلك بالله - تعالى -، ثم بالرجوعِ إلى كُتُبِ التفسير، وتناسُبِ الآيات، والإعراب، وسؤالِ المختصين في هذا المجال.
ومثال القطع على الآية المتعلقة بما بعدها تعلقا ليس بشديد: القطعُ على قوله -تعالى- {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] ثم الابتداء في الركعة التالية بقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}[البقرة: 17]؛ فنلحظ أن هناك تعلقا بين الآيتين، فقد تضمنت الثانية ضميرا يعود على ألئك المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهو يذكر هنا صفتهم، إلا أن في الآية الثانية بَدْءَ ذِكْرِ صِفَتِهِمْ بضرب مثالين لهم، و(مَثَلُهُمْ) مبتدأ مرفوع كما لا يخفى.
أما ما كان التعلق فيه شديدا وإن كان القطع عليه والابتداء بما بعده لا يؤدي معنى فاسدا؛ فهو كقوله تعالى في سياق قصة آدم وزوجه - عليهما السلام - وإخراجهما من الجنة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، ثم الابتداء بما بعدها {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38].
وحين نتأمل سياق الآيات نجد أن اللهَ - عزَّ وجلّ- قال: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 36-39]، فنلاحظ أن قوله (قلنا اهبطوا منها جميعا..) إنما هو تفسيرٌ لقوله: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).
ثم إن الآيات سيقت للاعتبار والذكرى، وتحذيرا لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة، وهذا إنما يكون بوصل الآيتين جميعا (38، 39)، وهما ثلاثة أسطر ليس فيها إطالة على المأمومين.
وما بعدهما بداية موضوع آخر، وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الآية [البقرة: 40].
ومن هذا أيضا قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 15-16]، فربما قَطَعَ بعض الأئمة عند نهاية الآية الخامسة عشرة لانتهاء الوجه دون أن يتفطن لشدة تعلق المعنى، وهو أن قوله (الذين يقولون) ليست استئنافا، بل نعت للذين اتقوا، فالمعنى: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار...، القائلين ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
ومثله أيضا قول الله سبحانه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45-46]، فالآيتان متعلقتان ببعضهما كما لا يخفى.
ومثال الابتداء بما لا يؤدي معنًى إلَّا بما بَعْدَه قولُهُ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية والتي بعدها [النساء: 23-24]، فمن الأئمة من يقطع على آخر الآية الثالثة والعشرين، ثم يأتي من الغد فيبتدئ بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }، ولو سُئِل: المحصنات من النساء ما شأنها؟! لاستحضر أنها معطوفة على المحرَّماتِ قبلها في الآية السابقة؛ وبهذا يُعْلَمُ أنه لمْ يُرَاعَ المعنى في وضع بدايات الأجزاء والأحزاب؛ فعلى الإمام أن يَتَنَبَّهَ لذلك.
وفي مثل هذا الموضع يمكن الإمامَ أن يقفَ على آخر الآيةِ الرابعة والعشرين، ثم يبتدئَ بالآية التالية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [النساء: 25].
- ومن المواضع ما يكون التعلق فيها شديدا وإن كان خافيا على كثيرين، ومن ذلك: الوجه رقم (101) في سورة النساء، فإن الله تعالى قال عن اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155]، وهذه الباء التي في قوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) هي باء السببية، أي بسبب نقض اليهود ميثاقهم، وبسبب كفرهم بآيات الله، وبسبب قتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف. ثم رد الله - تعالى - على قولهم: قلوبنا غلف بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155]، ثم عطف على ما سبق من سوء فعال اليهود، فقال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 156، 157] ثم رد على قولهم الأخير وفنَّد دعواهم بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، ومضى السياق في الكلام عن عيسى - عليه السلام -.
والشاهد من هذا أننا نلحظ أنه لم يأت حتى الآن متعلَّقُ الباء في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} الآيات، بمعنى أنه بسبب نقضهم ميثاقهم وبسبب كفرهم وبسبب قتلهم الأنبياء بغير حق، وبسبب قولهم الإفك، إلخ... ماذا حصل لهم بسبب ذلك كله؟ هذا لم يأت حتى الآن، وهذا المتعلَّق هو في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، فأَجْمَلَ جميعَ أفعالهم التي ذكرها سابقا بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}، وَذَكَرَ زيادةً على ذلك: الصدَّ عن سبيل الله، وأخْذَ الربا، وأكلَ أموالِ الناس بالباطل، فسبب ذلك كله حرم الله عليهم طيبات كانت قد أحلت لهم من قبل.
فَمَنْ قَطَعَ على ما قَبْلَ قولِه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} كان بمثابة من يقطع القراءة على قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ}، ثم يستأنف في الركعة التالية بقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [الصافات: 161-162].
هذا هو القسم الأول من قسمي الوقف والابتداء.
القسم الثاني: هو الوقف والابتداء وسط الآية الواحدة، وسيكون القسم على هذا القسم أكثر -إن شاء الله تعالى-؛ ذلك أنه أكثر ما يُعْنَى في تقسيمات العلماء حين قسموا الوقف إلى تامٍّ وكافٍ وحسنٍ وقبيح، ونحو ذلك من التقسيمات، وهو أيضا أكثر إهمالا عند كثيرين من القسم الأول، وفي الوقت ذاته يجري فيه ضدُّ الإهمال من الإفراط والتكلف.
فتجد بعض الأئمة - وفقهم الله - لا يلقي للوقوف من هذا النوع أيَّ بال، بل يقف حيث ساعده النفس، ويكمل من حيث وقف، ويترك الوقف التام والكافي، فلا يقف عنده، ثم يقف وقفا قبيحا، كأن يقول: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} [الأنعام:36]، ثم ربما يعيد، وإعادته أمر حسن، ولكنَّ تركَه للوقف عند المعنى التام عند (يسمعون) ووقفه حيث يفيد معنى قبيحا هو فعل عن الصواب بمعزل.
وهناك بعض الأئمة - هداهم الله - ربما تعدَّوُا في الوقف وغَلَوْا في تكلف المعاني التي لا يدل عليها السياق، ولا تساعد عليها اللغة، بل تردها ردا بينا، وهؤلاء بلا شكّ من غير العارفين بتفسير ولا لغة، وليتهم أدركوا هذا فقلَّدوا غيرهم من القراء المعتبرين، أو التزموا بعلامات الوقف في المصحف الشريف، وذلك مثل قراءة أحدهم لقوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9]، فقرأها: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا)، ولا شك أن هذا غلط، لم ينتبه فاعله إلى حقيقته، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
وقبل ذكر القواعد والتنبيهات في هذا القسم؛ أنبه إلى أهمية النظر في علامات الوقف في المصحف الشريف سواء كان من طباعة مجمع الملك فهد أو غيره، ولا شك أن مصحف المجمع من أحسنها وأجودها؛ إذ هو ثمرة اجتهاد لجنة علمية تَضُمُّ نُخْبَةً من كبار العلماء المختصين بالقرآن وعلومه والتفسير واللغة، فيحسن بالإمام كثرةُ النظر في هذه الوقوف، وتلمسِ مواضعها كل يوم أثناء مراجعته، وفي قراءته عموما، فمن أدام النظر استحضر أغلب هذه الوقوف، بل مَنَحَتْه مَلَكَةً عالية في معرفة قواعدها، ومتشابهاتها.

وهنا أذكر بعض القواعد والتنبيهات العامة للوقوف:
أولا:أن لا يقف على ما يقبح الوقوف عليه، مما يؤدي معنى فاسدا، وأكثر هذه الوقوف سببها ضيقُ النَّفَسِ وقلةُ التحضير، ولو أن القارئ حَضَّرَ لهذه الوقوفِ لَوَسِعَهُ أن يقف قبل هذه المواضع؛ حتى لا يقع في مغبة الوقف على ما يؤدي معنى فاسدا.
- ومن هذه الوقوف ما تكون شديدة القبح جدا، تجد من عوام الناس من يتأفف منها ويتضايق، ومن الناس من يكاد يقطع الصلاة لقبح الوقف الذي وقفه الإمام، وأمثّل لذلك بما وقف عليه بعضهم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60]، فقد وقف عند (ولله) فتأمل كم يؤدي هذا الوقف من قبيح معنى تعالى الله عنه!!
- ومن الوقف القبيح: الوقف بعد النفي وقبل أداة الاستثناء التي للحصر، فيؤدي هذا إلى نفي المعنى مع أن المراد إثباته، كأن يقرأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]، فيقرأ من أول الآية ويقف عند (ولا نبي) فيكون نفيا لإرسال أي رسول أو نبي! والمشكلة الأكبر إذا لم يشعرِ الإمامُ بذلك، فأكمل: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}!.
- ومن الوقف القبيح: الوقف على أول كلمة من الجملة التالية بما يوهم أنها عطف على ما سبق، مع امتناع أن تكون عطفا، كأن يقرأ قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]، فيقرؤها (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين) فهذا يفهم أن الظالمين داخلون في رحمة الله، ونحوها قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف:30]، فيقول: (فريقا هدى وفريقا) فهنا يوهم العطف، ولو أنه وَصَل الجميع لتبين المعنى، أو وقف عند (فريقا هدى) ثم أكمل؛ لأن المعنى: وأضل فريقا حق عليهم الضلالة.
ومثاله أيضا أن يقرأ قوله - عز وجل-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد:14]، فيقرأ هكذا: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه)؛ فهذا يؤدي معنى مناقضا لمعنى الآية - تعالى الله عن ذلك -، فإما أن يصل {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ...}، أو أن يقف عند الجملة الأولى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ثم يكمل، وفي المصحف قد وُضع عليها علامةٌ للوقف.
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فيقرؤها هكذا: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ}، فهنا لو أُخِذَ على ظاهر هذا الوقفِ لَفُهِمَ أن الذي خبث يخرج نباته بإذن ربه كذلك، وهنا للإمام أن يقف عند (بإذن ربه) إذ قد تمت الجملة ثم يستأنف([5])، وقد وضع عليها علامةٌ للوقف في المصحف.
وربما قيل: إن هذا لا يرد على الذهن؛ فمن المعلوم أن البلد الطيب ليس كالبلد الخبيث، فاستشكال هذا الوقف واستقباحه غير وراد، فيقال في الجواب عن ذلك: إنَّ كتابَ الله تعالى ينبغي أن يُؤَدَّى على الوجه الأكمل ما اسطاع القارئ إلى ذلك سبيلا، وأن يصان عن كل ظن ووهم، وبلا شك أن الأكمل أن لا يقف هذا الوقف.
ومن ذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]، فقد سمعت من يقرؤها هكذا: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ}!! وكيف يكون الشيطان مضلا هاديا؟! بل هو عدو مضل مبين - معاذ الله منه - فهو يضله، ويهديه إلى عذاب السعير، أما مطلق الهداية فإنها يفهم منها الهداية إلى الحق. فإذا حَفَزَ القارئَ النفسُ فليقف على قوله (يُضِلُّهُ) ثم يعيد (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ).
- ومن قواعد الوقف القبيح الذي يؤدي معنى فاسدا: الوقف على فعلٍ فاعلُه اسمٌ ظاهر بعده، وهذا الوقف يوهم أن فاعلَه ضميرٌ مستَتِرٌ يعود على ما قبله، وبالمثال يتضح ذلك: قول الله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} الآية [يوسف:70]؛ فلو قرأها القارئ هكذا: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ} ووقف هنا؛ لأوهمَ من لا يدري أن فاعل الفعل (أذّن) ضمير مستتر يعود على الفاعل السابق، وهو الذي جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، وهو يوسف عليه السلام، أي أنه لما جهزهم يوسف بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن، بينما المعنى أنه أذن مؤذن آخر غير يوسف، فكان الأولى بالقارئ أن يقف عند (أخيه) أو أن يكمل إلى (مؤذن)، وبهذا يسلم من الوقوع في قبيح الوقف.
وَمِثْلُه قولُه - تعالى-: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}[يوسف:17]، فلو قرأها: وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ}؛ لأوْهَمَ من جنسِ ما أَوْهَمَ المثالَ الذي قبله.
- ومن الوقف القبيح أن يقرأ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}[البقرة:17]، فيقف عند (ذهب الله).
- ومن أمثلته المتكررة الوقف على لفظ (تجري) من جملة: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، فهذا يوهم أن الجنات هي التي تجري.
ثانيا: ألا يبتدئَ بما يؤدي معنى فاسدا أو غيرَ مراد في الآية:
- كأن يبتدئ بالكلام الكفري المحكيِّ عن الكفار في وسط الآية، فعليه أن يجتنب الابتداء بذلك ما استطاع، كأن يقرأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] فيبتدئ من عند (إن هذا إلا سحر مبين)، وهذا قول للكفار لا يحسن الابتداء به.
ونحوه أن يقرأ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:31]، فربما ابتدأ من عند (لو نشاء لقلنا مثل هذا) أو (إن هذا إلا أساطير الأولين)، وكان الأولى به أن يعيد من عند (قالوا...) إلى آخر الآية، وهذا ليس بعسير لمن يقرأ قراءة سريعة وبقصر المنفصل.
- ومما يقبح الابتداء به: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، فإنها جواب شرط، والابتداء بها يوهم أن الله - عز وجلّ- ليس وليا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا ناصرا له، بينما هذا مشروط باتباعه لأهواء أهل الكتاب تحذيرا له ولأمته: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
- وكذلك الابتداء بكلمة (وإسحاق) من قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فربما انتهى نفس القارئ عند (وإسحاق)، أو (إلها واحدا) فيعيد: (وإسحاق إلها واحدا)، ولا شك في فساد المعنى وقبحه حينئذ.
- أحيانا البدء بــــ (ما) الموصولة أو المصدرية يوهم أنها نفي، كما في قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51]؛ فإن المعنى: فاليوم ننساهم كنسيانهم لقاء يومهم هذا وجحدهم بآياتنا. فإذا وقف القارئ على (هذا) ثم ابتدأ (وما كانوا بآياتنا يجحدون) يوهم نفي أنهم كانوا بآيات الله يجحدون!.
- ومن قبيح الابتداء: البدءُ بآخر كلمة من بعض الجمل ووصلُها بالجملة التالية، كأن يقرأ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20] فيبتدئ: {أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
- ومنه أن يقرأ قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، فيقرؤها (لأجل مسمى يدبر الأمر)، فكأن المعنى أن الله تعالى يدبر لأجل أجل مسمى، أو إلى غاية أجل مسمى، وهذا ليس مرادا في هذه الآية والله أعلم، بل إن قوله (لأجل مسمى) متعلق بما قبله، ثم تنتهي الجملة، ثم جملة أخرى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
ثالثا: من قواعد الوقف الصحيح في هذا القسم: ألّا يقفَ على ما لم يكتملْ معناه، وذلك بأن تكون الجملةُ لم تكتمل بعد، وبلا شك أن هذا يتفاوت في لزوم وصله، وفي قبح قطعه، وكثيرٌ من ذلك إنما يحسن الوصل فيه لاتصال المعنى، ولكون الكلامِ جملةً واحدة، لا لأن الوقف عليه يؤدي معنى فاسدا كما مر معنا آنفا، وفي مثل هذا يمكن القارئ أن يقف، لكن عليه أن يعيد لئلا ينقطع الكلام المتصل، ومن أمثلة ما يتصل بعضه ببعض اتصالا وثيقا:
1. المبتدأ والخبر.
2. الصفة والموصوف.
3. الحال وصاحبها.
4. المعطوف والمعطوف عليه.
5. المستثنى مع المستثنى منه.
6. فعل الشرط وجزاؤه.
7. التعليل والمعلل.
- فمثال تعلق المبتدأ بالخبر مما قد لا يُفطَنُ له قوله - تعالى-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، فكثيرون هم الذين يقفون عند: (فيسخرون منهم) ثم يكملون {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولم يراعوا أن معنى الآية لا يتم إلا بالوصل؛ فإن قوله (الذين يلمزون المطوعين..) هو المبتدأ وصلة الموصول، وخبره هو قوله (سخر الله منهم)، والمعنى: أن الله تعالى يسخر من الذين يسخرون من المتصدقين من المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد: 2]، فهذه الآية عبارة عن مبتدأ وخبر؛ فالمبتدأ (الذين)، وخبره الجملة: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد: 2]، فربما انقطع نفس القارئ عند قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، فهنا يعيد ليتصل الكلام.
- ومثال تعلق الصفة بالموصوف إذا كانا في آية واحدة، قول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، فقوله: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} هذه ثلاث صفات لموصوف واحد وهو قوله (ورسوله) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وهذه الثلاث صفات هي: النبي، والأمي، والاسم الموصول (الذي). فلا يحسن أن يقول (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي) ثم يكمل: (الذي يؤمن بالله وكلماته).
وهنا الصفة هي اسم مفرد، وهي أشد التصاقا بالموصوف، أما الصفة التي تكون جملة فهي كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151]، فجملة (يتلو عليكم آياتنا) هي نعت لـ (رسولا).
وكقوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154]، فإن جملة: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} نعت للنعاس، فلا يحسن الوقف قبلها والابتداء بها.
- وكذلك: الحال سواء كانت مفردا أو جملة، فلا يحسن فصلها عما قبلها، وربما حسن الوقف قبلها في مواضع، لكن لا يحسن الابتداء بها، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]؛ فإن َّجملةَ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} جملةٌ حالية؛ بمعنى: لا تنقضوا الأيمان بعد أن وثقتموها والحال أنكم جعلتُمُ اللهَ فيها كفيلا عليكم([6]).
وأيضا قولُهُ تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]؛ فإن جملة (وإن فريقا..) حال، أي: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق في حال كُرْهِ بَعضِ المؤمنين لهذا الخروج.
ولا يخفى أن فصل بعض الأحوال عن أصحابها ممَّا يقلِّلُ من وقع المعنى وَقُوَّتِه، وربما جَعَلَ جملةَ الحال لا معنى لها،كما في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]؛ فإن هذا السياقَ للتشنيع عليهم؛ كيف أنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم في حال أنهم تالون للكتاب عالمون بأحكامه، فإن هذا أعظمُ شناعةً ممن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه في حال كونه لا يقرأ الكتاب ولا يدريه.
ثمَّ لو وقف القارئ عند قوله: (وتنسون أنفسكم)، ثم استأنف (وأنتم تتلون الكتاب) لكان هذا إخبارا لهم بأنهم يتلون الكتاب، ومجرد الإخبار بذلك لا يفيد شيئا؛ فإنهم يعلمون أنهم يتلون الكتاب، فَعُلِمَ ضرورةُ وصلِ الحال بصاحبها في مثل هذه الآية وأمثالها، كقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}[آل عمران:99]؛ فإن جملة (وأنتم شهداء) جملة حالية، أي لم تصدون عن سبيلِ اللهِ مَن آمَنَ في حال كونكم شاهدين بأن ما آمنوا به حق، وتجدونه في كتبكم؟!
- ومما لا يحسن فصله عن بعض: المعطوفُ والمعطوفُ عليه، سواء كان المعطوف مفردا أو جملة.
مثال عطف المفرد قولُه -تعالى-: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} الآية [الأحزاب:35]، فنلحظ كثرة المعطوفات في هذه الآية من (والمسلمات) حتى (والذاكرات) كلها معطوفات على (المسلمين) في أول الآية، فهذه لو قُطِعَ بعضُها عن بعض لم يترتب عليها فسادُ مَعْنًى؛ إلّا أنَّ الوصلَ أولى بلا شك.
أما عطفُ الجمل فمثل قوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، ففي هذه الآية أربع جمل معطوفة، الأولى (وينهاهم عن المنكر)، الثانية (ويحل لهم الطيبات)ـ الثالثة (ويحرم عليهم الخبائث)، الرابعة (ويضع عنهم إصرهم..).
ومن عطف الجُمل قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59].
ومما هو جديرٌ بالتنبيه عليه في العطف: التفريقُ بين (أنَّ) مفتوحة الهمزة، و(إنَّ) مكسورة الهمزة، المثَقَّلَتَيْنِ (مشدَّدَتَيِ النون)؛ فإن المكسورة تكون بداية جملة، فيحسن الوقف عند ما قبلها والابتداء بها ما لم تكن جملة حالية ونحو ذلك، أما المفتوحة فالغالب في القرآن أنه لا يحسن الوقف عند ما قبلها والابتداء بها إذا كان قبلها واوٌ؛ لأنها حينئذ تكون معطوفة، مثالها: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52]، وقوله - تعالى -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10]، وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
المرفقات

1071.doc

1072.doc

المشاهدات 2457 | التعليقات 0