إصلاح عيوب النفس-3-3-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1436/03/03 - 2014/12/25 22:59PM
[align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله-عز وجل-، فاتقوا الله-رحمكم الله-وارجو رحمته واخشَوا عذابَه، فلم يَقْدرِ اللهَ حقَّ قَدْره مَنْ هان عليه أمرُه فعصاه، وقد اجترأَ على محارمِه فارتكبها، وفرَّط في حقوقه فضيَّعها، وكان هواه آثرَ عنده من طلب رضا مولاه، قد جعل لله الفَضْلة والزيادة من قلبِه وعلمِه وقولِه وعملِه ومالِه!، [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى*وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى*بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى].
أيها الإخوة: المحاسبةُ طريقُ الصلاحِ، والاشتغالُ بتقويمِ النفسِ سبيلُ الإصلاحِ، والمحاسبةُ والتقويمُ يتطلبان عزيمةً ومثابرةً، وجِدًّا ومصابرةً، ومَنِ اشتغل بما لا يُفيدُ انصرف عمَّا يفيد، والأمانةُ عظيمةٌ، والمسؤوليةُ جسيمةٌ، والعمرُ قصيرٌ، وأعظمُ الربحِ حفظُ الوقتِ، وخيرُ الغنيمةِ محاسبةُ النفسِ.
وفي هذا الزمنِ تكاثرتِ المشكلاتُ، وتكالبتِ المُغْرياتُ والمُلهياتُ؛ فزاحمتِ الواجباتِ، ونازعتِ الأَوْلَويَّاتِ، ومنِ الغريبِ في طبائعِ النفوسِ أنها تتلذَّذُ وتسترسلُ في الخَوْضِ فيما لا يفيدُ، وتقطيعِ الوقتِ فيما لا ينفعُ، بل ما أَسْرَعَها في تتبعِ العَوَراتِ، والاشتغالِ بالعثراتِ، والانصرافِ إلى النقدِ غيرِ البَنَّاءِ!، ولو تَأَمَلْتَ وتَفَحَصْتَ لرأيتَ وأدركتَ أنه لا يهتمُ بالصغائرِ فقط إلا الصغارُ، ولا يُفَتِشُ عن المساوئِ إلا البطَّالون.
أيها الكرام: إن كثيرًا من مشكلاتِ الأمةِ ومآسيها والناسِ وآلامِها ليستْ في شؤونِ السياسةِ، ولا في قضايا الاقتصادِ، ولا في تَسَلُّطِ الأعداءِ، ولكنها في المسؤوليةِ الخاصةِ على كلِّ نفسٍ: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]، وفي هذا كله تَأَمَّلُوا هذا الحديثَ العظيمَ؛ فهو مقياسُ الأدبِ، ودليلُ الوَرَعِ، ومنهجُ المحاسبةِ، ومظهرُ التقويمِ والتقوى: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أنه قال: "مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُهُ ما لا يعنيه"، قال أهل العلم: هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ تهذيبِ النفسِ وتزكيتِها، وقد عدَّه بعضُهم ثُلُثَ الإسلامِ، ولقد قالوا: "اجتمع فيه الوَرَعُ كُلُّهُ"!؛ لماذا؟ لأن تَرْكَ ما لا يعني لا تقوى عليه إلا القلوبُ السليمةُ، والنفوسُ الزاكيةُ، نفوسٌ تنطوي سرائِرُها على الصفاءِ، فأصحابُها في راحةٍ، والناسُ منهم في سلامةٍ، دخل رجلٌ على أبي دُجَانَةَ-رضي الله عنه-وهو في مرضِه، ووجهُهُ يَتَهَلَلُ ويقول: "ما مِنْ عملٍ أَوْثقُ عندي مِنْ شيئينِ: لا أتكلمُ فيما لا يعنيني، وقد كان قلبي سليمًا"، ويقول الإمام مالك-رحمه الله-: "لا يفلحُ الرجلُ حتى يتركَ ما لا يعنيه، ويشتغلَ بما يعنيه، فإذا فعلَ ذلك يُوشِكُ أنْ يُفْتَحَ له قلبُه"، ويقول الحافظ ابن القيم-رحمه الله-: "كم ترى مِنْ رجلٍ مُتَورِّعٍ عن الفواحشِ والذنوبِ، ولسانُه يَفْري(يتكلمُ بالسوءِ)في أعراضِ الأحياءِ والأمواتِ!، لا يُبالي بما يقولُ، وربما أَوْبَقَ نفسَهُ!!".
عباد الله: إذا حَسُنَ إسلامُ العبدِ تجلَّى ذلك وظهرَ في الابتعادِ عمَّا لا يعنيه من الأقوالِ والأفعالِ، فضلاً عمَّا لا يعنيه من المحرَّماتِ والمشتبِهاتِ، والمكروهاتِ وفُضولِ المباحاتِ، مما لا تَتَعلَّقُ به حاجاتُه، ويَحْفَظُ عليه وقتَه، ويَجْمَعُ له أمرَه ومُهِمَّاتِه، وإنَّ مِنْ أَوْلى ما تجبُ ملاحظتُه ومراعاتُه في إدراكِ ما لا يَعنيه، إنَّ أولى ما يجبُ في ذلك: هو شهوةُ الكلامِ، وفُضُولُ التَنَصُّتِ والاستماعِ، فكمْ مِنْ مجالسٍ عُقدتْ، وولائمَ نُصبَتْ، وليالٍ قُطِّعتْ-يخوضُ فيها أصحابُها فيما لا يعنيهم، ويتكلَّمون فيما لا ينفعُهم، ويستمعونَ إلى أمورٍ طهر اللهُ منها أيديَهم وأرجلَهم، فأبوا إلا أنْ يلوكوها بألسنتِهم، ويفتحوا لها آذانَهم، وقد تكونُ موبقاتُ الأسماعِ والألسنِ أعظمَ من موبقاتِ الأيدي والأرجلِ؛ "...وهل يكبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِم إلا حصائدُ ألسنتِهم؟!".
نعم-عباد الله-إنَّ مِنْ أعظمِ الدلائلِ على الاشتغالِ بما لا يعني: مدى حفظِ العبدِ للسانِه وسمعِه وبصرِه، وصيانتِه لكلامِه وأُذنِه، والكلمةُ في هذا الزمانِ اتَّسعَ ميدانُها وتنوعتْ وسائِلُها؛ فهي مسموعةٌ ومكتوبةٌ ومُشَاهَدةٌ في صحفٍ ومجلاتٍ، وإذاعاتٍ وقنواتٍ، وشبكاتِ معلوماتٍ، في فضول كلامٍ ولغو حديثٍ، مِنَ الخوضِ في أعراضِ الناسِ، وتتبُّعِ عوراتِهم، والاشتغالِ بعيوبِهم ومثالبِهم، والفرحِ بسقطاتِهم، والتلذُّذِ في إشاعتِها، ومن ذلك: التَوَسُعُ في السؤالِ عن أحوالِ الناسِ وأخبارِهم، ودواخلِ أمورِهم، والخاصِ بشؤونِهم، من غير داعٍ صحيحٍ ولا سببٍ مشروعٍ، ويزدادُ الأمرُ هَلَكَةً حين يَخوضُ الخائضُ في أعراضِ أهلِ الخيرِ والصلاحِ، والكفافِ والعفافِ، ناهيك إذا كان مِنْ مقاصدِه التحريشُ الخفيُ والجَلِيُ، والتفرُيط الظالم، مع غَمْزٍ وهَمْزٍ ولَمْزٍ، واتهامٍ للعقائدِ والنيَّاتِ.
ومن الاشتِغال بما لا يعني: تَكَلُّمُ المرءِ فيما لا يُحسِنُه ولا يُتْقِنُه ولا يَعْلَمُه، مما ليس داخلا في تخصُّصِه وخبرتِه، وما ليس من مطلوباتِه ولا شؤونِه، كيف وإذا كان هذا المنسوبُ للناسِ من مسائلِ الخلافِ! ما بعثَ في الخوضِ عند هذا المبتلَى إلا نوازعُ الطيشِ وحُبُّ الغَلَبَةِ، والرغبةُ في التعالي وانتقاصِ الآخرين، والحطِّ من قدرِهم، مع ابتغاءِ التصدُّرِ والتعالُمِ وصَرْفِ الأنظارِ، ويزدادُ الأمرُ بلاءً إذا قادَ ذلك إلى المشاكساتِ والمُلاسَناتِ، والدخولِ في المسائلِ الشخصيةِ، ونشرِ قولِ السوءِ، وبثِّ الشائعاتِ والأكاذيبِ، والملفقاتِ والأخبارِ المفترياتِ، ثم دخلَ في دائرةِ التخميناتِ والظنونِ، والتكهُّناتِ والاتهاماتِ، [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ].
إخواني الأعزاء: لو سكت مَنْ لا يعرف لقلَّ الخلافُ، والسكوتُ في موضعِه سِمَةُ الرجالِ، والكلامُ في مناسبتِه مِنْ أشرفِ الخِصال.
ومن الاشتغال بما لا يعني: الإفراطُ في تتبعِ دقائقِ الأخبارِ والأحوالِ، وتفاصيلِها وتحاليلِها، لما لا تُفيدُ ولا يُفادُ منها، والعاقلُ الناصحُ يستفتي بذلك قلبَه، ويلتفتُ إلى صلاحِ شأنِهِ، ومِنْ مسؤولياتِ المسلمِ-ولاسيما طالبُِ العلمِ والمثقفُِ والمفكرُِ-ألا يغرقَ في مستجَدَاتِ هذا العصرِ وثانوياتِه، ولْيحذرْ ولْيمحصْ فيما يقرأُ ويسمعُ ويشاهدُ، فكل مسألةٍ أو أمرٍ لا ينبني عليها عملٌ مفيدٌ؛ فالخوضُ فيها من التكلُّفِ والدخولِ فيما لا يعني؛ فلْيحذرِ الإفراطَ في تضييعِ الوقتِ والجهدِ والمالِ.
عباد الله: الاشتغالُ بما لا يعني يُورِثُ قلَّةَ التوفيقِ، وفسادَ الرأيِ، وخفاءَ الحقِ، وقسوةَ القلبِ، ومَحْقَ بركةِ العُمْرِ، وحِرمانَ العِلْمِ، وقِلَّةَ الوَرَعَ، "وربُكم قد كرِهَ لكم قِيلَ وقالَ وكثرةَ السؤالِ"، يقولُ سهلٌ التُّسْتَري-رحمه الله تعالى-: "مَنْ تكلم فيما لا يعنيه؛ حُرِمَ الصِّدق"، ويقول معروف-رحمه الله تعالى-: "كلام العبد فيما لا يعنيه خذلانٌ من الله عزَّ وجلَّ"، توفِّي رجلٌ من أصحاب النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-فقال رجلٌ: أَبْشِرْ بالجنة، فقال رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-: "أَوَلا تدري؟! فلعله تكلَّم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يُغنيهِ"، الاشتغال بما لا يعني: يقودُ إلى التثاقلِ عن الطاعةِ، والتقصيرِ فيما ينفعُ، ويَصْرِفُ عن معالي الأمورِ بواعثَ عاليَ الهمم، الاشتغال بما لا يعني: هروبٌ من المسؤولية، وأماراتُ عجزٍ وكسلٍ، وضعفُ الصِّلَةِ بالله، وغَفلةٌ عن سُنَنَهِ، وجهلٌ بالمصالحِ، و "المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما حرم الله"، و "كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بِكُلِّ ما سمعَ".
وبعد يا عبدَ اللهِ: فالمسؤولياتُ أكثرُ من أن يتَّسعَ لها عمرُك القصير، وعمرُك أقصرُ من أن يُصرف فيما لا يعني، وتركُ ما لا يعني-حفظك الله-حفظٌ للدين، وزكاءٌ للنفس، وتربيةٌ على الجِدّ، فلا تضيِّع نفيسَ أنفاسِك، ولا دقيقَ دقاتِ قلبِك فيما لا يعني، [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ].أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
أما بعد: فمَنْ شاء أن يتطلَّبَ صلاحَ نفسِه وسلامةَ صدرِه؛ فليشتغِل بعيبِ نفسِه، وليبكِ على خطيئته، والاشتغالُ بعيوبِ النفس وتجنبُ عيوبِ الناسِ يُورِثُ نورَ القلبِ، وراحةَ البالِ، وصفاءَ الضميرِ، وسلامةَ الطَوِيَّةِ، يقول محمد بن كعب القرظي-رحمه الله-: "إذا أرادَ اللهُ بعبدِهِ خيرًا جعلَ فيه ثلاثَ خصالٍ: فِقهًا في الدين، وزُهدًا في الدنيا، وبَصَرًا بعيوبِ نفسِه"، والضابطُ والميزانُ فيما لا يعني-رحمكم الله-هو ضابطُ الشرعِ، وليس داعي الهوى ورغباتِ النفسِ؛ فالأمرُ بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ، والاحتسابُ، ومسؤوليةُ المرءٍ عمَّا استرعاه اللهُ في أهلِه، ، وسُوقِه، ومدرستِه، ومكتبِه، وعملِه، والاهتمامِ بأمرِ المسلمين، هذا كلُّه مما يعني، وداخلٌ في المسؤوليةِ والواجبِ المطلوبِ، ألا فاتقوا الله-رحمكم الله-وميِّزوا بين ما يعني وما لا يعني؛ فإن من علامةِ إعراضِ اللهِ عن العبدِ أنْ يشغلَه فيما لا يَعنيه.
[/align][font="][/font][font="][/font]
المرفقات

إصلاح عيوب النفس-3-3-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc

إصلاح عيوب النفس-3-3-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc

المشاهدات 3566 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا