إذا سقط جدار الحياء
إبراهيم بن سلطان العريفان
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو بكل لسان محمود. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الإله المعبود، صاحب الكرم والعطاء والجود، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليمًا كثيرًا.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ).
إخوة الإيمان والعقيدة ... الحياء، وما أدراكم ما الحياء ! خلقٌ من أخلاق العظماء، وهو خُلق الإسلام الأول، كما قال ﷺ ( إنَّ لكل دين خُلقًا، وخُلق الإسلام الحياء ).
فالحياء من الأخلاق الرفيعة التي أمر بها الإسلام، وأقرها، ورغَّب فيها، قال ﷺ ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ).
الحياء خُلق توارثته النبوات، وأمر به الأنبياء، ووصى به العظماء؛ قال ﷺ ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ) فهو خُلق يبعث على ترك القبيح، وعدم التقصير في حق الله، ومراقبته.
وقد جاء سَعِيدُ بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ ذات يوم فقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِنِي، قَالَ ( أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ).
قال الفاروق عمر رضي الله عنه: من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
وقال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) هو الرجل يخلو بمعصية الله فيذكر مقام الله فيدعها فَرَقًا من الله.
وَإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ *** وَالنَفسُ داعيَةٌ إِلى الطُغيانِ
فاِستَحي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَها *** إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني
قال ﷺ ( الحياءُ والإيمانُ قُرناءُ جميعًا، فإذا رُفِعَ أحدُهما رُفِعَ الآخَرُ ) نعم .. الحياء مقرونٌ بالإيمان وملازمٌ للمؤمن كظله، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر.
ولقد كان رسولكم ﷺ كما قال أبو سعيد الخدري : كان رسول الله ﷺ أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها. لمراقبته ﷺ لربه وخوفه منه وشعوره بالتقصير في حقه، وكان مع الناس لا يأتي إلا بكل خير في قوله وفعله، في نطقه وسكوته، وفي فرحه وحزنه.
عباد الله .. لقد حرص الإسلام على إشاعة خُلق الحياء في المجتمع؛ لصيانة الحقوق، وحفظ الأموال والأعراض، وللقيام بالواجبات، وأداء الأمانات، ونشر الفضائل، ومحاربة المنكرات، ولزيادة روابط الحب والتراحم والإخاء في المجتمع المسلم، فقد اتفقت الشرائع الربانية والعقول السليمة والتجربة العملية على أن الحياء جدار وسياج يمنع الإنسان من ارتكاب القبائح والمنكرات، روى مسلم قال ﷺ ( الحياء كله خير ) وفي رواية ( الحياء لا يأتي إلا بخير ).
فالمسلم الحيي يعلم أن له ربًّا يراه في كل حال، فهو مستحٍ منه، فلا يراه في معصيته سبحانه ولا مقصرًا في واجباته، مؤمن موقن بـ ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) يؤمن ويوقن بـ ( إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) وإذا كان الأمر كذلك وجب على كل مسلم أن يتخلق بهذا الخُلق في سائر حياته، فالحياء في النعمة شكر لله عليها، وفي المحنة تسليمًا وصبرًا، وفي القضاء إنصافًا وعدلاً، ومع الوالدين والأرحام صلة وبرًّا، وفي معاملة الضعفاء والأرامل والأيتام عطفًا ورحمة ورفقًا، وفي الوظيفة وتقلد المناصب وتحمل المسؤوليات أمانة ورعاية، وخوفًا وخشية من التقصير والتفريط.
عباد الله ... الحَيَاء يدفع المسلم إلى أن يقول كلمة الحقَّ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) لأن فريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سمة مِن سمات هذه الأمَّة، قال عزَّ وجلَّ ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ).
ولنعلم جميعًا ... أن الله -سبحانه وتعالى- حيي كريم، قال رسول الله ﷺ ( إن ربَّكم حييٌّ كريمٌ يستحي من عبدِه إذا رفع يديْه إليه أن يردَّهما صِفرًا ).
فلنتخلق بخُلق الحياء، ولنُزَكِّ به نفوسَنا، ونربِّ عليه أبناءَنا، وننشره في بيوتنا ومجتمعاتنا؛ وذلك بمراقبة الله، وأداء الفرائض، والخوف من سوء الخاتمة، والشوق إلى ما عند الله من نعيم، والاقتداء بالأنبياء والعظماء، وعلينا مطالعة سِيَرهم وأخبارهم.
فنسأل الله أن يرزقنا هذا الخُلق، وأن يجود علينا بفضله وكرمه، وأن يؤلف بين قلوبنا على طاعته.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وُقي.
إذا لم تخـشَ عاقبة الليالي *** ولم تستحِ فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء
إذا سقط جدار الحياء رأيت صورًا متعددة لفساد الأخلاق والقيم في حياة بعض المسلمين اليوم؛ من المجاهرة بالمعاصي، فتجد من يتحدث عن بطولاته في التسكع في الشوارع، ومضايقة نساء المسلمين، وتجد من يفتخر بذكائه في جمع الأموال من السرقة والاختلاس والرشاوي، ولا يحافظ على المال العام أو الأمانات التي تحت يديه لا يهمه الأمر ولا يبالي بالطريقة التي يكسب فيها؛ لأنه فقد الحياء. وتجد من يتحدث عن بطولاته في ظلم الآخرين، وأخذ ممتلكاتهم بقوته وماله ووجاهته وخبرته وحنكته، وتجد ... وتجد ... وتجد غير ذلك من السلوكيات، قال رسول الله ﷺ ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه ) وقد جاء في الأثر: أن الله تعالى إذا أبغض عبدًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضًا مبغضًا.
عندما سقط جدار الحياء وجدنا ذلك الابن يتجرأ على أبيه وأمه، ليس بالسب وحده بل بالضرب والقتل، أي تعاسة وصل إليها هذا الإنسان؟! وصدق رسول الله ﷺ حين قال ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ).
إذا سقط جدار الحياء من المرأة .. رأيت تلك المرأة التي تخرج من بيتها متبرجة متزينة قد تركت أمر الله في حجابها وراء ظهرها، وقد أظهرت شعرها ووجهها ونحرها ويديها وقدميها .. قد خرجت من بيتها بلباس فاضح لا يليق بالمرأة المسلمة. تخرج إلى المقاهي والمطاعم والأسواق بمفردها أو مع زميلاتها، وتدعى للمشاركة في المسابقات والمهرجانات أمام أعين الرجال، لأننا نجد من أوليائهن ذكور لا رجال.
يقول عز وجل عن موسى عليه السلام، وقد هرب من فرعون وجنوده وذهب إلى أرض مدين التي لا يعرف فيها أحدًا، وليس له فيها قرابة ولا قبيلة ولا صاحب ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) ولما علم شعيب ذلك الرجل الصالح أرسل ابنته إلى موسى -عليه السلام-؛ لمكافأته على صنيعه، فـ"من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، وانظروا كيف جاءت هذه الفتاة التي تربت في بيت النبوة، وكيف خاطبت موسى عليه السلام- قال تعالى ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
يكون الحياء في الرجال ورعًا وجمالاً وزينة، وفي النساء عفة وطاعة وطهارة، هذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كنتُ أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله ﷺ وأبي فأضع ثوبي. فأقول: إنما هو زوجي وأبي. فلما دُفن عمر معهم، فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر -رضي الله عنه
ولما مرضت فاطمة -رضي الله عنها- مرض الموت الذي تُوفيت فيه، دخلت عليها أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- تعودها وتزورها، فقالت فاطمة لأسماء: والله إني لأستحي أن أخرج غدًا -أي إذا مت- على الرجال من خلال هذا النعش. وكانت النعوش آنذاك عبارة عن خشبة مصفحة يُوضع عليها الميت ثم يُطرح على الجثة ثوب، ولكنه كان يصف حجم الجسم. فقالت لها أسماء: أو لا نصنع لك شيئًا رأيته في الحبشة؟! فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه بما يشبه الصندوق، ودعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت على النعش ثوبًا فضفاضًا واسعًا، فكان لا يصف شيئًا. فلما رأته فاطمة فالت لأسماء: "سترك الله كما سترتني.
لقد كانت من شدة حيائها -رضي الله عنها- تحمل همّ حالها بعد موتها أن يراها الرجال، فماذا نقول لنساء المسلمين اليوم؟! أين الحياء من الله؟! وأين التربية على قيم الإسلام وأخلاقه؟! وأين الاستعداد ليومٍ ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ).
فما أجمل أن يكون لنا من الحياء سياج يحفظ علينا نور الإيمان، ويلبسنا ثوب التقى والطهر والعفاف، ونكون به بين الناس مبعث نور، ومصدر برّ ومنار هدًى، تتميز به شخصيتنا، وتظهر من خلاله ملامح عزتنا وكرامتنا. اللهم زينا بالتقى واحفظنا من الردى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.