إذا أحببت فانصح (الجمعة 1442/6/16هـ)

يوسف العوض
1442/06/14 - 2021/01/27 05:52AM

  الخطبة الأولى :

 
أيُّها المؤمنون: جاء حديثٌ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِيَدِي فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ)، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رسول الله، قَالَ: (إِنِّي أُحِبُّكَ)، قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ يا رسول الله، قَالَ: (أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاة؟ ) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ( قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع .
 
أيُّها الْمُؤْمِنُون : الراوي هو مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ اخْتَارَه النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِيَكُون سفيراً لَهُ إلَى الْيَمَنِ لَيَدْعُو النَّاسَ إلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَيُعَلِّمَهُم أركــانَ الـدِّينَ ، وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ قَولُ رَسُولِ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم : (يأتي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ يَوْمَ القِيامةِ) أَي يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعُلَمَاءِ بِرَمْيِةِ سَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ .
 
أيُّها الْمُؤْمِنُون : ويُصَوِّرُ لنا حَدِيثُ مُعَاذٍ مَعلمًا جديدًا مِنْ مَعَالِمِ الْمَحَبَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَاَلَّتِي مَنْ ثِمَارِهَا النُّصْحُ وَالْإِرْشَادُ إلَى الْخَيْرِ ، فإنَّ النبيَّ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- قَالَ لِمُعَاذٍ : (إني أُحبُّك) وَأَقْسم فقَال : (واللهِ إنِّي لأُحبُّك) وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَة لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي اللَّه عنه أنَّ نَبِيِّنَا صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَقْسَم أنَّه يُحِبُّه ، وَالْمُحِبُّ لَا يَدَّخرُ لحَبيبِه إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ ؛ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لَهُ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ) مستَعِدًا لِمَا يُلْقَى إلَيْهِ لِأَنَّه يُلْقِيه إلَيْهِ مِنْ مُحِبٍّ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : (لا تَدَعَنَّ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ )أَي : مَكْتُوبَة ، (اللهم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَعَلَى شُكْرِك وَعَلَى حُسَنِ عبادتِك): وَدُبُرُ كُلِّ صَلَاةٍ يَعْنِي : فِي آخِرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ ، هَكَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، أَنَّه يَقُولُهَا قَبْلَ السَّلَامِ وَهُوَ حَقٌّ ، وَكَمَا هُوَ مقرَّر : أنَّ الْمُقَيَّدَ بِالدُّبُرِ أَي : دُبُرُ الصَّلَاةِ ، إنْ كَانَ دعاءً فَهُوَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، وَيَدُلّ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ لِمَا ذَكَرَهُ قَالَ : ثُمّ ليَتَخيَّرْ مِن الدُّعَاءِ مَا شَاءَ أَوْ مَا أَحبَّ أَوْ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ ، أَمَّا الذِّكْرُ فَقَالَ اللَّهُ تعالى: ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاة فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) . 
 
أيُّها الْمُؤْمِنُون : ثم قال صلى اللهُ عليه وسلم : ( أعِنِّي عَلَى ذكرك ) أي: كُلُّ قَوْلٍ يُقْرِّبُ إلَى اللَّهِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ ، فَهُو مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَشُكرِهِ ، أَي : شُكْرُ النِّعَمِ وَانْدِفَاعُ النِّقَمِ ، فَكَمْ مِنْ نِعَمةٍ لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَكَمْ مِنْ نِقْمَةٍ انْدَفَعَت عَنْهُم ؛ فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ ، هَذَا الدُّعَاءُ جَلِيلُ الْقَدْرِ وعَظِيمُ الشَّأْنِ ؛ لِشَرَفِ مُتَعَلِّقَه ، وَذَلِكَ أَنَّ : (أنفع ُالدُّعَاء : طَلَبُِ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ , وَأَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ : إسعافُه بِهَذَا الْمَطْلُوبِ ، وَجَمِيعُ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مَدَارُهَا عَلَى هَذَا وَعَلَى دَفْعِ مَا يضادُّه وَعَلَى تَكْمِيلِه وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِه فَتَأَمَّلْهَا ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قدّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاء فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ , ثُمَّ رَأَيْتُه فِي الْفَاتِحَةِ فِي : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، لِهَذَا وصَّى الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبِيبَه معاذاً أَنْ لَا يَدَعْ هَذَا الدُّعَاءَ الْجَلِيلَ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ . قَوْلُه : (اللَّهم أَعِنِّي عَلَى ذكرِك) : فِيهِ الطَّلَبُ مِنْ اللَّه وَالْعَوْنُ عَلَى الْقِيَامِ بِذِكْرِه ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إنْفاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟  قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ :  ذِكْرُ اللَّهِ تعالى) ، وَالذِّكْرُ يَشْمَل الْقُرْآنَ وَهُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ ، وَيَشْمَل كُلَّ أَنْواعِ الذَّكَرِ مِنْ التَّهْلِيلِ ، وَالتَّسْبِيحِ ، وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ . 
 
 
الخطبة الثانية :
 
أيُّها المؤمنون : ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (وشكرِك) : أَي شُكْرُ نِعْمَتِكَ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إحصاؤها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) وَالْقِيَامُ بِالشُّكْر يَكُونُ بِالْعَمَلِ ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ ، بِالْحَمْدِ ، وَالثَّنَاءِ ، وَالتَّحَدُّثِ بِهَا ، قَال اللَّه تَعَالَى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) .  وَأَعْظَمُ الشُّكْرِ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)  وَلَا شكّ أَنَّ التَّوْفِيقَ إلَى الشُّكْرِ يَحْتَاجُ إلَى شُكْرٍ آخَرَ ، إلَى مَا لَا نِهَايَةَ ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّه : (كلُّ نِعْمَةٍ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ اللَّه تَعَالَى فِي دَيْنٍ أَوْ دُنْيَا ، تَحْتَاجُ إلَى شُكْرٍ عَلَيْهَا ، ثُمّ التَّوْفِيقٍ لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا نِعْمَةٌ أُخْرَى تَحْتَاجُ إلَى شُكْرٍ ثانٍ ، ثُمّ التَّوْفِيقِ لِلشُّكْرِ الثَّانِي نِعْمَةٌ أُخْرَى يَحْتَاجُ إلَى شُكْرٍ آخَرَ ، وَهَكَذَا أبداً ، فَلَا يَقدرُ الْعَبْدُ عَلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعَم ، وَحَقِيقَةُ الشُّكْرِ : الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ فِي الشُّكرِ) ، 
 
أيُّها الْمُؤْمِنُون : ثم قال : (وحسنِ عبادتِك) أي: الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ والأتمّ ِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صِدقِ الْإِخْلَاصِ للَّه فِيهَا ، واتّباعِ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ الِابْتِدَاعِ فِيهَا .
 
فهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَجْعَلُنَا مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى أَهْلِنَا و أوَلادِنَا وأرحامِنا وقراباتِنا وجيرانِنا أَن نمحضَ لَهُم النَّصِيحَةَ ونحسنُ لَهُم التَّوْجِيهَ وندُّلهم عَلَى كُلِّ خَيْرٍ ونحذِّرهم مِنْ كُلِّ شَرٍّ .

 

المشاهدات 1164 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا