إحسان الظن بالناس

[align=justify]إحسان الظن بالناس
خلق جليل، وهدي نبيل، حَثَّنا الله تعالى عليه، وأرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إليه، خلق يجلب للعبد الراحة القلبية، والسعادة النفسية، خلق يؤدي إلى وأد الخصومات، ودفع العداوات، خلق يجلب الألفة، ويدفع الكلفة، خلق يسلم به الإنسان من أذى الخواطر، وجلب المخاطر، إنه خلق رفيع، وحصن منيع، هذا الخلق يا عباد الله هو: إحسان الظن بالناس. فهلموا يا عباد الله، هلموا الأيها الأكارم لنشنف المسامع بهذا المعني العظيم، نتطيب يومنا المبارك، وحياتنا أجمع بامتثال هذا الخلق الكريم؛ لنرقى في أنفسنا، ونسعد في بيوتنا، وننشر الألفة والمحبة في مجتمعنا، وأوطاننا.
وأصل هذا المعنى الجليل، قوله سبحانه في تنزيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)، متفق عليه[1]. فماذا نجتنب؟ سوء الظن. ولماذا نجتنبه؟ لأنه يؤدي إلى زيادة الخصومات، وجلب العداوات، وقطع الصلات.
وكم من مشكلة حدثت بين الأب وبنيه، والأخ وأخيه، والسبب: عدم اجتناب سوء الظن؟! كم من زوج فارق زوجته؛ لسوء الظن؟! كم من زوجة كرهت زوجها؛ لسوء الظن؟! كم من جار أشاح وأعرض عن جاره؛ لسوء الظن؟! كم من أصدقاء في عمل واحد، ومكان واحد وبينهم من الشقاق، والنزاع، والخصام الشيء الكثير؟! لماذا نحمل في قلوبنا على إخواننا؟! لم لا نشتري راحة قلوبنا بحسن ظننا، ونلتمس الأعذار لبعضنا؟! فلان لا يحبني، جاري يسعى في أذيتي، صديقي في المدرسة أو الجامعة أو العمل لا يريد الخير لي، وهكذا يجلس الإنسان في صراعات نفسية، وتأويلات عقلية، وخواطر وهمية، والواقع على خلاف ظنه! أين نحن يا عباد الله من هدي النبي المختار في تلمس الأعذار؟! أليس لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟! وفي أصحابه الكرام قدوة؟! هذه سنة نبينا تحدثنا عن موقف عظيم، وأمر جسيم حدث من صحابي كريم، إنه موقف علمنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًا لإحسان الظن بالأنام، وعدم التسرع بإصدار الأحكام، والمبادرة بالاتهام، ودونكم الخبر، فصاحب الموقف: حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وقصته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم بالتوجه إلى مكة لفتحها، خشي حاطب على قرابته هناك، فأرسل كتابه إليهم، وفيه: خبر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولا شك أن هذا الحادث في عرفنا اليوم يعد خيانة عسكرية عظمى، وطامة كبرى، يستحق مرتكبها أقسى العقوبات، ولكن ما جاء في تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عجبًا! لم يعنفه، ولم يشدد عليه؛ لسبق إحسانه، ومعرفته صلى الله عليه وسلم بحاله، وما كان منه إلا أن وجَّهَ إليه سؤالًا فقال: (يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ)، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)[2]، متفق عليه. أرأيتم كيف أحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم به الظن، وتلمس له العذر.
كم نحن بحاجة إلى مثل هذه الأخلاق، فحين ترى من أخيك ما لا يسرك، فلا تبادر بأصابع الاتهام، وحاول أن تلتمس العذر لأخيك، وأن تحسن به الظن، قال أمير عمر رضي الله عنه: "وَلَا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا"[3].
عش يا عبد الله سليم القلب على إخوانك، ولا تحمل في قلبك إلا الخير لهم لتسعد، "قال زيد بن أسلم: دُخل على أبي دجانة وهو مريضٌ، وكان وجهه يتهلَّل. فقيل له: ما لوجهك يتهلَّل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثقُ عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا"[4].
وهذا يعلمنا أن الإنسان يشتغل بعيوب نفسه، ويصلح قلبه، ويزكى نفسه، ويحسن الظن بالناس، ولا يتبع عوراتهم، ورحم الله القائل:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ .. فكلُّك عورات وللنــــــــاس ألســـنُ
وعينك إن أبدت إليك معابيًا .. فصنها وقل: ياعينُ للناس أعينُ
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تستمعون وأسغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
التحلي بإحسان الظن مع الناس يحتاج إلى عزيمة قوية، وهمة علية، فيجاهد الإنسان نفسه، ويسعى لتزكية قلبه وتركه ما لا يعينه، جاء في الحديث: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)[5].
إخوة الإيمان، هناك أسباب عديدة تساعد على حسن الظن بالناس؛ ولعل من أهمها: تلمس الأعذار، وانشغاله بعيوب نفسه، وإصلاح خللها، ومن جميل ما قيل في هذا المعنى، ما جاء عن الإمام الجليل أبي قِلابة عبد الله بن زيد الجَرْمي حيث قال: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهُهُ فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه"[6]. نعم يا عبد الله لا تنشغل بعيوب الناس، وتشغل قلبك بهم، واشتغل بعيوب نفسك، قال الإمام ابن حبان: "الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عَن عيوب نفسه عمى قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه ..." إلى آخر ما قال رحمه الله[7]. أصلح الله قلوبنا، ورزقنا الانشغال بعيوب أنفسنا. عباد الله، صلوا وسلموا على السراج المنير والهادي البشير كما أمركم ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

[1] صحيح البخاري، رقم (6066)، صحيح مسلم، رقم (2563).

[2] صحيح البخاري، رقم (3007)، صحيح مسلم، رقم (2494).

[3] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/377.

[4] سير أعلام النبلاء للذهبي 1/243.

[5] رواه أحمد في مسنده، رقم (1737)، وغيره.

[6] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نُعيم 2/285.

[7] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان 125.


[/align]
المرفقات

إحسان الظن بالناس.docx

إحسان الظن بالناس.docx

المشاهدات 1528 | التعليقات 0