إتحاف الساجد بفضل عُمَّار المساجد

                                                                                                           إتحاف الساجد بفضل  عُمَّار المساجد

أمَا بعد :  أيها  المؤمنون:

المساجد بيوت الله - جلا وعلا - فيها يذكر اسمه ، ومنها ينادى إلى طاعته وعبادته ، وفيها تطمئن القلوب وترتفع الأرواح ، وتسجد الجباه ، وتترطب بالذكر الألسن ، وتتراص الصفوف ، وتتوحد وتتألف النفوس ، لذا مدح الله عمارها  قال الله تعالى -:﴿  فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور:36-38]  ، والمراد بالبيوت  المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن كما قال بن عباس ومجاهد، ولما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها ،و سمى الله تعالى عمار المساجد رجالا لكن ما حال هؤلاء الرجال حالهم أنهم  يعبدون الرحمن ويتلون القرآن ويشفقون من عذاب النيران ويخافون يوما يكثر فيه الويل والأحزان قد تجنبوا كل ريبة وبهتان ولم يأمنوا مكر الملك الديان ، رجال تعوقوا ريب المنون وجزعوا من السابقة في الغيب المكنون فحال بينهم وبين ما يشتهون ينتظرون الخاتمة كيف تكون أولئك أولياء الله الصالحون ﴿ أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾ [ المجادلة : 22] رجال المساجد مأواهم والله جل جلاله معبود هم ومولاهم كيف تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وتجارتهم مع الله رابحة ، بهم يستمطرون الغيث إذا حجب وفي جملتهم يحشر السعيد والنجيب ، بدعائهم يستمطر الغمام ، وبهم يستنقذ المغلوب و يفرج الله عن المكروبين كروبهم قال مالك بن دينار ،: بلغنا أن الله عز وجل يقول : « إني أهم بعذاب خلقي فأنظر إلى جلساء القرآن وعمار المساجد وولدان الإسلام فيسكن غضبي »([1] )، رجال جالت قلوبهم في الملكوت رجال تفكروا في العظمة والجبروت رجال استقاموا على عبادة الحي الذي لا يموت رجال خطرت على قلوبهم الأشجان وأتعبوا النفوس والأبدان وتسربلوا الخوف والأحزان وأقبلوا على مولاهم كورود الظمآن ، رجال أقلقهم خوف الوعيد وأنحل أجسامهم التفكر الشديد رجال تجنبوا الفواحش والآثام ولذيذ الشراب والطعام رجال ليلهم قيام ونهارهم صيام يخطون السير إلي بيوت الرحمن  ليتطهروا من كل إثم وبهتان و يطلبون رضا ذي الجلال والإكرام  قال الله  تعالى -: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ  فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]. ومن هنا نعرف أن النور الذي ذكره الله عز وجل في سورة النور هو النور الذي اهتدى به هؤلاء الرجال، فعرفوا الله عز وجل به، وعرفوا مكانتهم في هذه الحياة، وعرفوا وزنهم وقيمتهم؛ لذلك فهم لا يبغون عن المساجد حولاً، ولا يرغبون عنها بدلاً.

 فالمساجد  أحب البلاد إلى رب الأرباب فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا »([2] ).

 والمساجد مسكن الأصفياء وبيوت الأتقياء فعن أَبِي الدَّرْ دَاءِ  رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، يَقُولُ : الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ " ([3])  فسمى النبي عمار المساجد بالأتقياء لانهم تخلوا عن دنيا الناس وجلسوا في بيوت الرحمن يرتلون قرءانه ويطلبون إحسانه وإنعامه وإليكم عباد الله هذا المشهد المؤثر الذي ترويه لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول " أَبْطَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَبَسَكِ يَا عَائِشَةُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ قِرَاءَةً مِنْهُ قَالَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ " ([4]) .

 وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجلٌ قلبه معلَّق بالمساجد..)) ([5] )  فكَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِمِثْلِ الْقِنْدِيلِ إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْمُلَازَمَةِ بِقَلْبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَلَاقَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحُبِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ: مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ، فَجُوزِيَ لِدَوَامِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَمُلَازَمَتِهِ بَيْتَهُ بِظِلِّ عَرْشِهِ.

                                                                                                                         فما هي فضائل هؤلاء

شهادة الله لهم بالإيمان

قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18]

غفران الذنوب وصلاة الملائكة عليهم واستغفارهم لهم 

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال ُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بها دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ " [6] ، وَفِي رِوَايَةٍ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ }. قيل لعبدا لرحمن السلمي لما حضرتْه الوفاةُ وهو في المسجد: "لو تحوَّلت إلى الفراش؛ فإنه أوثر وأوطأ، قال: حدَّثني فلان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال العبدُ في صلاةٍ ما كان في مصلاَّه ينتظر الصلاة، وإني أريد أن أموت في مسجدي" و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«مُنْتَظِر الصَلاَة مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ ، كَفَارِسٍ أَشْتَدَّ بِهِ فَرَسهُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى كَشحهِ ، تُصَلِّي عَلَيِهِ مَلاَئِكَةُ اللهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقُمْ ، وَهُوَ فِي الرِّبَاط الأَكْبَرِ»([7] ) " الكشْحُ : ما بين الخاصِرة والضُّلوع"

 وذكر الذهبي في ترجمته لعامر  بن عبد الله بن الزبير أنه ما كان يترك المسجد، بل كان يأتي قبل الصلاة بأوقات، فأتى يوماً من الأيام في الصف الثاني، فقال: الله المستعان! والله ما صليت في الصف الثاني منذ عقلت رشدي، لم أصلّ إلا في الصف الأول. قالوا: فلما حضرته الوفاة وهو في سكرات الموت سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه، فقال: خذوا بيدي فقيل: إنك عليل، قال: أسمع داعي الله، فلا أجيبه، فأخذوا بيده، فدخل مع الإمام في المغرب، فركع ركعة، ثم مات ([8] ) ، قبضه الله في سجوده فسلم الناس وإذا هو ساجد لله عز وجل، حركوه فإذا هو ميت، فقالوا لأبنائه: ما هذه الميتة السعيدة الحسنة؟ فقال أبناؤه: والله ما كان أبونا يقوم أي يوم إلا ويقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. لقد علم رضوان الله عليه فضل المساجد فأراد أن يودع بيت الله تعالى الذي طالما صف فيه الأقدام بين يدي الملك العلام فكم من دمعة فيه إلى الله ذرفها، وكم من  دعوة فيه إلى مولاه رفعها ، وعلم أيضا مكانة الصلاة في جماعة في المساجد وكيف أنها تحط الذنوب حطا ومن عجيب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ما حكاه أبو ذر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في الشتاء والورق يتهافت، فأخذ غصنا من شجرة، فجعل ذلك الورق يتهافت، فقال: يا أبا ذر فقلت لبيك يا رسول الله. فقال: (إن العبد المسلم إذا قام يصلي الصلاة يريد بها وجه الله تهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن الشجرة) ([9] ).

الله تعالى يباهي بهم ملائكته  

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْرِعًا قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ أَبْشِرُوا هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى "( [10] )، قَالَ المبار كفوري رحمه الله تعالى:قيل معنى المباهاة بهم أن الله تعالى يقول لملائكته أنظروا إلى عبيدي هؤلاء كيف سلطت عليهم نفوسهم وشهواتهم وأهويتهم والشيطان وجنوده ومع ذلك قويت همتهم على مخالفة هذه الدواعي القوية إلى البطالة وترك العبادة والذكر فاستحقوا أن يمدحوا أكثر منكم لأنكم لا تجدون للعبادة مشقة بوجه وإنما هي منكم كالتنفس منهم ففيها غاية الراحة والملاءمة للنفس .( [11]) و قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ معناه: يُظهر فضلَكم لهم، ويُريهم حسن عملكم، ويُثني عليكم عندهم " فيا لها من كرامة أن الله جل في علاه يذكرهم بأسمائهم ويباهي بهم ملائكته

                                                                                 يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً وَإِنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجْوَدُ وَأَرْحَمُ

                                                                                فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأَنْعَمُ

أعد له لهم نزلاً في الجنة 

أيها الأحبة  إن جنة الله عرضها السماوات والأرض إياكم ألا يكن لكم فيها موضع قدم احجزوا قصور الذهب والفضة وخيام اللؤلؤ المجوف في جنة الله بتسابقكم إلي مساجد رب العالمين  عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ " فلما علم السلف الصالح ذلك خرجوا إلي بيوت الله بكل تواضع في كامل زينتهم وفي أحسن ثيابهم فهم على موعد مع الله لذا كان من هيئة الإمام مالك - إمام دار الهجرة رحمه الله - إنه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه ، وتطيّب ، فإذا خرج لم يكن يكلّم أحداً ولا يكلمه أحد حتى يدخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيصلي ثم يشرع فيحدّث بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ، هكذا كانوا يعرفون حق قدومهم على بيوت الله - عز وجل - من غير مخيلة ولا رياء . إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا  أَبْعَدُهُمْ إلَيْ المساجد مَمْشًى عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { خَلَتْ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادَ بَنُو سلمه أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ ، قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا بَنِي سَلِمَه دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، فَقَالُوا : مَا يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا }ومعني دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ  أي الزموا دياركم وسوف تكتب آثار سيركم إلى هذه المساجد ، وفي الحديث أيضًا: ((إسباغ الوضوء في المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة - يغسل الخطايا غسلاً) .([12])

فالله تعالى أعد لهم نزلا في الجنة كلما تسابقوا إلى بيت من بيوته لأنهم خرجوا في زيارة الملك وحق على الكريم أن يكرم زائره عن سلمان رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَهُوَ زَائِرُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ }([13])

لهم نور ساطع في عرصات القيامة  

إن أصحاب النور، يا عباد الله! هم يوم القيامة أهل الإيمان المشاؤون في الظلم إلي المساجد المواظبون على الصلوات في جماعة، لم يمنعهم ظلام الليل، ولا الخوف في النهار من ارتياد المساجد قال تعالى: ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الحديد:12)فعلى حسب الأعمال تقسم الأنوار { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور:40] ، فقد ورد عند الترمذي، عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".([14] )  " قوله: "المشائين" جمع مشاء، من فعال، بصيغة المبالغة، يعني المحافظين على ذلك المستمرين عليه" فكما عانيت هذه الظلمة للخروج إلى المسجد تعظيما لصلاة الجماعة، يكافئك الله -سبحانه- في يوم يكون فيه الإنسان لأقل وميض من نور، يكافئك الله حينها ليس بنور فحسب، بل بالنور التام يوم القيامة ،وقد قال الطيبي في وصف ذلك النور بالتام: "وتقيده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا)[التحريم: 8]  حتى نصل الجنة.

وعَنْ أَبِى الدَّرْ دَاءِ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ِ قَالَ : مَنْ مَشَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ آتَاهُ الله نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ([15] )

وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيُضِيءُ لِلَّذِينَ يَتَخَلَّلُونَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ، بنورٍ سَاطِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".([16])

الله تعالى يفرح بهم ويرضى عنهم  

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : مَا مِنْ عَبْدٍ يُوَطَنُ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ الله بِهِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ كَمَا تَبَشْبَشَ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ " ([17] )وفي رواية أخرى صحيحه " ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ بِهِ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِطَلْعَتِهِ " قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : قَوْلُهُ : " تَبَشْبَشَ اللَّهُ " . بِمَعْنَى: رَضِيَ اللَّهُ عنهم وَمَعْنَاهُ يَرْضَى أَفْعَالَهُمْ وَيَقْبَلُ نِيَّتَهُمْ فِيهَا.

الْمَلَائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ وفي البلاء أعانوهم

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا الْمَلَائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ وَقَالَ: جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: أَخٍ مُسْتَفَادٍ، أَوْ كَلِمَةٍ مُحْكَمَةٍ، أَوْ رَحْمَةٍ مُنْتَظَرَةٍ )." ([18])

قوله: "إن للمساجد أوتاداً": قال العلامة أحمد البنا الشهير بالساعاتي في شرح المسند المسمى (بلوغ الأماني): (جمع وتد بكسر التاء على اللغة الفصحى ويجوز فتحها ؛ أي: أناسا يحبون المساجد يكثرون الجلوس فيها للعبادة ثابتين على ذلك ، كثبوت الوتد في الأرض ؛ هؤلاء تجالسهم الملائكة ، فإن غابوا بحثوا عنهم ، إن مُرضوا عادوهم .... الحديثَ) وقال العلامة السندي: (أي: رجالا يلازمونها لزوم الأوتاد لمحالها) قال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة. وقال ربيعة بن زيد: ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضا أو مسافرا.

أعطاهم الله تعالى أجر الحاج المحرم

عَنْ أَبِي أمامه رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ وَصَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ“ .([19])

ضمن الله لعمار المساجد سعة الرزق في حياتهم والجنة بعد موتهم

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ عَاشَ رُزِقَ وَكُفِي وَإِنْ مَاتَ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ“ ([20] ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: (وَرَجُل رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ): أَيْ مَشَى إلى المسجد .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

                                                                                                                                    الخطبة الثانية

عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ هم  جيران الله يوم القيامة

أما بعد: لو قيل لك عبد الله أنك فزت بجائزة، وهي قصر مهيب في الحي الفلاني الفاخر بجوار فلان ابن فلان الغني صاحب الجاه والملك والسلطان الذي عرف بكرمه وغناه الفاحش، فهل ستتردد في مجاورته وقبول تلك الجائزة ؟! بالطبع لن تتردد  ! كيف يتردد أحد عن هذا العرض وهو سيكون في قصر، وحي فاخر، وفوق ذلك سيكون بجوار غني كريم ؟! بل سيفرح وينشرح، ويُسارع بالانتقال إلى جواره ، فكيف إذا كنت في جوار مالك الملك  يوم القيامة ،من بيده ملكوت السماوات والأرضين الذي وسعته رحمته كل شيء، وكنت أنت ذاك الفائز بالجائزة صاحب القصر، وكان الحي؛ الجنّة ؟! ولله المثل الأعلى سبحانه. جارك الله .. وحيُّك الجنّة.. وقصرك اللؤلؤ والدُّر المجوف ! الله أكبر ما أعظم فضل الله تعالى وكرمه على عباده! والله إن العقل ليعجز أمام استيعاب هذا الكرم الإلهي العظيم، فهل من مسابق إليه ؟! فالمانح الله، والضامن رسول الله ، والجائزة قصر ! فهيَ صفقة رابحة وربي ! عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: إِنَّ الله، عَزَّ وَجَلَّ، لَيُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ جِيرَانِي ؟ أَيْنَ جِيرَانِي؟ قَالَ: فَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: رَبَّنَا، وَمَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُجَاوِرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ ؟ ". ([21]) هؤلاء ما جاورا رب العالمين في دار كرامته إلا لما عمروا بيوت الرحمن فكانت المساجد مأواهم جلسوا فيها وقد اشتاقت نُفُوسهم إِلَى ذي العرش جل جلال الله ،فَلَو رَأَيْتهمْ لرأيت قوما يَتلون كتاب الله بشفاه ذابلة ودموع وابلة وزفرات قاتلة وأجسام ناحلة وعقول زائلة وخواطر فِي عَظمته جلّ جَلَاله جائلة

                                                                  لله قوم لدارِ الخلد أخلصهم                وخصهم بجزيل الملك مولانا

                                                                  فلو تراهم غدا في دار ملكهم           قد توجوا من حلي الجنة تيجانا

                                                                  وقد دعاهم إلى الفردوس سيدُهم              إلى الزيارة والتسليم ركبانا

                                                                  على نجائب دركا تطير بهم        والخيل من جوهر والسرج مرجانا

                                                                   حتى إذا جاوزوا دار السلام وقد      أبدى لهم وجهه الرحمن سبحانا

                                                                 خروا سجودا فناداهم بعزته              إني رضيت بكم قربا وجيرانا

                                                                  إني خلقت لكم دار النعيم فلا           ترون بؤسا ولا تخشون أحزانا

فاللهم اجعلنا من جيرانك في جنات النعيم ،اللهم اجعَلْنا مِن أهل المساجِد وروَّادها، وحبِّب إلينا البقاءَ بها؛ لنكون من أهل الله الصالحين، نسأل الله تعالى أن نكون ممن تعلَّقَت قلوبهم بالمساجد وان نكون من عمارها .    هذا وصلوا  وسلموا على البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وسلم.

[1] ـ النفقة على العيال لابن أبي الدنيا رقم 312.

[2] ـ صحيح مسلم الجزء2 حديث رقم 1560.

[3] ـ حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة الجزء 2 حديث رقم 716.

[4] ـ مسند أحمد الجزء 42 حديث رقم 25320 ، وقال عنه الإمام أحمد حديث حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين، غير ابنِ سابط -وهو عبد الرحمن- فمن رجال مسلم، وهو ثقة، كثير الإرسال.

[5] ـ صحيح البخاري حديث رقم 6806.

[6] ـ صحيح البخاري الجزء 1 حديث رقم 647.

[7] ـ أحمد ( 8610 )، تعليق أحمد شاكر " إسناده صحيح"، تعليق الألباني “حسن"، الترغيب والترهيب ( 450 ).

[8] ـ سير أعلام النبلاء للذهبي الجزء 5 صفحة رقم 220.

[9] ـ حسنٌ لغيرة صحيح الترغيب والترهيب الجزء 1 حديث رقم 384، وقال الألباني رواه أحمد بإسناد حسن.

[10] ـ  سنن بن ماجه الجزء 1 حديث رقم 801 ، وصححه الألباني في  صحيح الترغيب 445 :وفي الصحيحة 661 .

[11] ـ تحفة الأحوذي للمبار كفوري الجزء 9 صفحة رقم 227.

[12] ـ صححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم"926".

[13] ـ  حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب الجزء 1 حديث رقم 322 ، وقال أخرجه الطبراني بإسناد جيد .

[14] ـ(ت) (223)، (د) (561)، (جة) (781)، صَحِيح الْجَامِع (2823)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (319، 425).

[15] ـ  صحيح بن حبان  الجزء 5 حديث رقم [ 2046 ] صحيح الترغيب والترهيب الجزء 1 حديث رقم 318 .

[16] ـ(طس) (843)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (317).

[17] ـ أخرجه أحمد (2/328، 453)، وابن ماجه (800)، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع (5604).

[18] ـ أ حمد ( 9388 )، تعليق الألباني "حسن صحيح"، الترغيب والترهيب ( 329 )، الصحيحة ( 3401 ).

[19] ـ أخرجه أبو داود (1/153 ، رقم 558) وحسنه الألباني في صحيح الجامع  6228.

[20] ـ أخرجه أبو داود (3/7 ، رقم 2494) ، وابن حبان (2/252 ، رقم 499) ، والطبراني (8/99 ، رقم 7491) ، والحاكم (2/83 ، رقم 2400) وقال : صحيح الإسناد  وصححه الألباني (المشكاة ، 727).

[21] ـ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2728.

المشاهدات 1806 | التعليقات 0