إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ يُلْقَى فِي النَّارِ[ 4] 1441/4/16هـ

عبد الله بن علي الطريف
1441/04/16 - 2019/12/13 09:11AM
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ يُلْقَى فِي النَّارِ[ 4] 1441/4/16هـ

أيها الإخوة: واستمرَ الخليلُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ بدعوتِهِ، ونَوَّعَ بأساليبِها، ولكن كانت على أبصارِ أبيهِ وقومِهِ غِشَاوةٌ؛ فلا يُبصرون، وفي آذنِهم وقرٌ فلا يسمعون، وقلوبُهم غلفٌ لا يعقلون.. وأصروا على كفرِهم إصراراً عجيباً جعلَ الخليلُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ يتأففُ من إعراضهم وعنادهم (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء:66، 67] فلما أعيتْهُم الحُجةَ وأفحمَهم ظهورُ الحقِ ووضوحُه، عدلوا عن الجدلِ والمناظرة بعد أن أخذتْهم العزةُ بالإثم ِكما تأخذُ الطُغاةَ دائماً حين يفقدون الحُجةَ ويعوزُهم الدليل..

نعم أيها الإخوة: لقد جاشَ خاطرُ القضاءِ على إبراهيمَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ في نفوسهم، ولكن كيف.؟ هل يقتلونَه أو يحرقونَه.؟ ورأوا بخبثِ طويتِهم أنَّ إحراقَه أعظمُ في تعذيبِه، وأقوى وسيلةٌ للفتكِ به تَشفي نفُوسَهم المريضة، وأرادوا أن يكون الإحراقُ خبراً يُذْكَر، وحادثةً جُلى يتحدثُ بها القاصي والداني، ومادام الأمرُ كذلك فلا بد أن يُصْلوهُ ناراً حاميةً، تُعادلُ لَظَى الحِقْدِ الـمُتأجِّجِ في صُدُورِهم عليه. قال الله تعالى حاكياً قولَهم: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 68] وفي موضعٍ آخرَ قال: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) [العنكبوت:24]

أيها الإخوة: إنهم يعلمون علمَ اليقين أَنَّ شرارةً واحدةً تَكفِي لإحراقِ مدينةٍ بأسرِها، ولكنَّهم أبوا إلا أن تكونَ النارُ التي يحرقون بها خليلَ الرحمنِ إلا هائلةً.. وشرعوا بمخططِهم الظالم، وبدأوا بجمعِ الحطبِ من هُنا وهُناك، وجعلوا ذلك قُرْبَاناً لآلهتِهم، وبراً بمعبودَاتِهم، قال السدي: حتى إنْ كانتِ المرأةُ تمرضُ، فتنذر إن عُوفِيَتْ أنْ تجمعَ حطبًا لحريقِ إبراهيم..

ومكثوا مدةً يجمعون الحَطبَ، حتى تراكمتْ أعوادُه.. وضاقَ المكانُ بأكوِامه.. ثم ابتنوا له بناءً على جَوْبةٍ كبيرة، وهي الحُفْرةُ الـمُسْتَديرةُ الواسِعةُ، وجعلوا فيها ذلك الحطبَ.. وأشعلوا فيها النيران فاضطرمت.. وتأججت.. واندلع وعلا لِسَانُ لهيبِها، وسطعَ ضوءها واحمر جمرها، وتطاير عظيم شَررها، ولم توقَدْ قَطُ نارٌ مثلُها..

وجاءت ساعةُ الانتقام وحانت لحظةُ البطشِ بخليلِ الرحمن عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ فشدوا بغلظةٍ وثاقَه وهم له كارهون، وبعذابه مغتبطون، وجعلوه عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ في كفةِ المنجنيقِ، لعدمِ قدرتهم من الاقتراب من النار لعظيمِ استعارِها.. وليرموه في بؤرة لهيبها إمعاناً في تعذيبِه، ظانين أنهم بهذا يُخْرِسُونَ الحق.. ويَقْضُونَ على إمامِ الحنفاء.. وانطلق المنجنيق بخليل الرحمن.. وطار به في جو السماء فوق تلك النيران.. في مشهدٍ من الناسِ عظيمٍ؛ فقد حضر القاصي والداني لحضور لحظات البطش الكبرى..

أما خليلُ الرحمن فكان قلبُه مفعمٌ بالإيمان.. واليقين العظيم بحفظ ونصر الرحمن، ولا غرو فذلكم الجنان موصولٌ بالكريم المنان.. فقد امتلاء أملاً وثقةً وثباتاً؛ فلم تزعزعه النكبات ولم تزلزلْه الحوادثُ، ولم ترعْه النارُ مع عِظَمِها.. بل أقبلَ عليها بصدرٍ رحبْ، ونفسٍ مُطمئِنة.! وتوجَّه إلى الحيِ القيومِ الذي تولى نصرَه يومَ عُدِمَ الناصرُ فقال: عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ"..

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ» حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) [آل عمران:173] رواه البخاري. أي: الله كافينا، فالحَسْبُ هو الكافي، الذي يكفي العبدَ من كلِ ما أهمَه وأصابَه، ويردُ عنه بعظيمِ حولِهِ كلَ خطر يخافُه، وكل عدو يسعى في النيل منه.. ونعم الوكيل أي: أمدحُ الله فهو قيِّمٌ على أمورِنا، وقائمٌ على مصالحِنا فهو أفضلُ كفيل ووكيل؛ فمن توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه بصدقٍ لم يخبْ ظنُهُ ولا رجاؤه.

أيها الإخوة: ورمى المنجنيقُ خليلَ الرحمن وهو يرددُ ذاك الابتهالَ والدعاءَ "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ" واستقرَ في جوفِ النارِ يخفِيه دُخانُها، ويحويه لهيبُها، ويغلبُ على صوتِه زَفِيرُها، وشهيقُها؛ فماذا فعلتْ النارُ بإبراهيمَ.؟   

لقد قالوا "حَرِّقُوهُ" فقال الحق تبارك وتعالى: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69] فأبطل قولُ الحقِ كُلَ قَولٍ، وأحبط كُلَ كَيْدٍ.. إنها كلمةُ العليِ الأعلى الذي له الكلمةُ العُليا التي لا تُرد "يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ" فكانت برداً وسلاماً عليه عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ فسبحان اللهِ كيفَ كانت كلمةُ " كُونِي" وحدها كافيةً لردِ هذا البلاء الذي حَلَّ بإبراهيم.؟ نعم لقد كانت كلمةٌ كافية.. لأنها الكلمةُ التي يُكونُ اللهُ بها الأكوانَ، ويُنْشِأُ ويَخْلُقُ بها العَوالِمَ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82]..

فلا تسأل أيها المبارك: كيف لم تُحرقْ النارُ إبراهيمَ، والمعروفُ والمشاهدُ أن النارَ تحرقُ الأجسامَ الحية.؟ نعم لم تحرقْه لأن الذي قال للنارِ: كوني حارقة.. هو الذي قال لها: "كُونِي بَرْدًا وَسَلَاماً". فكلمة" كُنْ" هي التي تُنْشِئُ مدلَولها عندما يقولها رب السماوات والأرض كيفما كان هذا المدلول مألوفاً للبشر أو غيرَ مألوف.

والذين يقيسون أفعال الله سبحانه إلى أفعال البشر هم الذين يسألون كيف كان هذا.؟ وكيف أمكن أن يكون ذاك.؟ أما الذين يدركون اختلاف الفاعلين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلاً، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً علمياً ولا غير علمي.. فالمسألة ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييسهم، فكل منهج في تصورِ مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة الإلهية المطلقة هو منهج فاسد من أساسه، ذلك أن أفعال الله القائل عن نفسه: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [البروج:16] غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود.

أيها الإخوة: وقد ثبت في صريح السنة أن اللهَ سخر كل دابة في الأرض لتطفئ النار عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ إلا الوَزَغُ فقد كان يَنْفُخُ عَلَيْهِ النَارَ ليوقدها.. والوَزَغُ دابةٌ صغيرةٌ مَعروفةٌ تَتسلَّقُ الجُدرانَ، وله في كُلِّ بلدٍ اسمٌ فمنهم من يسميه بُرصاً ومنهم من يسميه وزغاً ونحن نسميه بعرصي، وقد أَمَرَ ﷺ بقَتْلِه، صلةً بيننا وبين إبراهيم الخليل، فَعَنْ أُمِ شُرَيْكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا   أَنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ: «أَمَرَ بقَتْلِ الوَزَغِ، وقالَ: كانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ». رواه البخاري ومسلم. وَعَنْ سَائِبَةَ مَوْلَاةِ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا   فَرَأَتْ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا.؟ قَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ هَذِهِ الْأَوْزَاغَ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرَنَا: «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، لَمْ تَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ، إِلَّا أَطْفَأَتِ النَّارَ، غَيْرَ الْوَزَغِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَتْلِهِ» رواه ابن ماجة وابن حبان وغيرهم وصححه الألباني.. وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ» وفِي رِوَايَة: «فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ سَبْعُونَ حَسَنَةً». رواهما مسلم عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهذا بَيانٌ لخُبْثِ هذا النَّوعِ منَ الدَّوابِّ وفَسادِه.. اللهم فقهنا في ديننا واجعلنا هداة مهتدين..

الثانية:

أيها الإخوة: أما إبراهيمُ فلم تحرقْ النارُ منه إلا الوِثاق؛ فصار حُراً طليقاً، وأذهبَ اللهُ عنهُ حِدَّتها، وصَعَّد منها حرارَتها، وحفِظَهُ من لظَاها، وأنقذه من سعيرها، وجعلها عليه برداً وسلاماً.. ولولا أن الله عز وجل قال: (وَسَلَامًا) لآذى إبراهيمَ بَرْدُها..

ولما خبا ضَوءْها، وانقشَعَ دُخَنُها وسَكَنَ أُوَرُها، وجدوه سليماً معفى حُرّاً طليقاً، فعجبوا لحاله، وشُدِهوا لنجَاتِهِ، وانصرفوا عنه ناقِمين، وتَوارَوا عن أعينِ الناسِ خَجِلين.. (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي: المغلوبين الأسفلين..

وأنجى اللهُ إبراهيمَ من الكيدِ الذي أُريدَ به، وباءَ الكائدون له بخسارةٍ ما بعدها خسارة (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) هكذا على وجه الإطلاق دن تحديد وهذا يُنبئُ بعظمِها.! ويؤخذُ من هذا السياقِ آياتٌ عظام الأولى: أن الله إذا أراد حفظ عبد حفظه ولو في جوف الخطر فقد نجى الله إبراهيم وهو في جوف النار.. والآية الثانية: عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة. والآية الثالثة: من تدبر تاريخ الدعوات، وتصريف القلوب، وعوامل الهدى والضلال علِمَ أن الخارقةَ لا تهدي القلوب الجاحدة، وإنما هو توفيقُ الله والاستعدادُ للهدى والإيمان.

(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:71] فغادر قومه في "بابل" من أرض العراق إلى أرض الشام فهي الأرض التي باركها الله (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت:26] فآمن له ابن أخيه لوط وهاجر معه لأرض الشام، واستقر فيها فكانت مهبط الوحي فترة طويلة، ومبعث الرسلِ من نسل إبراهيم.. وفيها الأرض المقدسة وثالث المساجد التي تشد لها الرحال وفيها بركة الخصب والرزق، إلى جانب بركة الوحي والنبوة جيلاً بعد جيل (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:72_ 73]

لقد ترك إبراهيمُ عليه السلام وطناً وأهلاً وقوماً. فعوَّضَهُ اللهُ الأرضَ المباركة وطنا ًخيراً من وطنِه، وعوضه ابنه إسحاق وحفيده يعقوب أهلاً خيراً من أهله، وعوضه من ذريته أمةً عظيمة العدد قوماً خيراً من قومه، وجعل من نسله أئمةً يهدون الناس بأمر الله، وأوحى إليهم أن يفعلوا الخيرات على اختلافها، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وكانوا لله طائعين عابدين فنعم العوض، ونعم الجزاء، ونعمت الخاتمة التي قسمها الله لإبراهيم. لقد ابتلاه بالضراء فصبر، فكانت الخاتمة الكريمة اللائقة بصبره الجميل..

 

 

المشاهدات 954 | التعليقات 0