إِبْرَاهِيمُ الرَّشِيدُ وآزَرُ الْعَنِيدُ ( الجمعة 1442/2/1هـ )

يوسف العوض
1442/01/27 - 2020/09/15 08:52AM
الخطبة الأولى
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : يَقُولُ رَبّي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) هَذَا تكذيبٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دعوَى الَّذِين جادلوا فِي إبْرَاهِيمَ وَمِلَّتِه مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وادَّعوا أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلَّتَهُم وَتَبْرِئَةٌ لَهُمْ مِنْهُ ، وَأَنَّهُم لِدِينِه مُخَالِفُون وقضاءٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَأمِّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ هُمُ أَهْلُ دِينِهِ ، وَعَلَى مِنْهَاجِه وَشَرَائِعِه ، دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَان ، فَإِبْرَاهِيمُ إمَامٌ الْمُوَحِّدِين وَسَيِّدُ الْحُنَفَاءَ وَأَبُو الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، ففي قِصَّتهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَا حَصَلَ لَهُ مَعَ قَوْمِهِ الْكَثِيرُ مِنْ الْفَوَائِدِ وَالدُّرُوس وَالْعِبَرِ وجَمِيعُ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ سِيرَةِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّنَا مَأْمُورُونَ بِهِ أمرًا خاصًّا  قَالَ تَعَالَى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) أَي  الْزَمُوهَا ، وقَالَ تَعَالَى ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : بَدَأَت عَلَامَاتُ النبوغِ الفكريِّ وَالرَّشَادِ بِالظُّهُورِ عَلَى سيِّدنا إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذ نُعُومَةِ أظفارِه طِفلاً ، حتَّى كَانَ ذَلِكَ النبوغُ لافتاً لِلْأَنْظَار ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) فَكَان قَلْبُه أَطْهرَ قلبٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وأطوعَها لربِّها سُبْحَانَه وَقَد بَزَغ نجمُ ذَلِك الرَّشادِ ساطعاً عَلَى أُفُقِ فَكرِه عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سِياقِ قصَّةِ تأمُّلهِ وتفكُّرهِ وَاسْتِدْلَالهِ العقليِّ النقيِّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى ، وَهُو يُقلِّبُ نَظرَه فِي مَلَكوتِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بعدَ أَن أنكَرَ عَلَى أَبِيهِ -آزَرَ- واستهجَن مِنْهُ وَمِنْ قَوْمِه عبادتَهم الساذجةَ لِلْأَصْنَامِ الْجَامِدَةِ الهامدةِ الْعَاجِزَةِ .
وَابْتَدَأ هَذَا الغُلامُ النَّابِغَةُ بإحراجِ أَبِيه وَمَن ثمَّ أَقَارِبِه ، وكلِّ مَعَارِفِه بمطارحاتِه الفكريَّةِ المُبهرةِ المتكرِّرةِ يوماً تلوَ الآخَرَ ، وَهُو يُجادلُهم بِالْحُجَجِ العقليَّةِ وَالْبَرَاهِينَ المنطقيَّةِ عَلَى صحَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ ، مرتكزاً عَلَى الفِطرةِ النقيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الوحيُ ، وَيَظْهَر جليّاً لَنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ  قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ  قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) أنَّه عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُجَادِلُ قومَه وَهُوَ فِي سِنِّ أَبْنَاءِ اللَّعِبِ واللَّهوِ مِنْ الْأَطْفَالِ ؛ لِذَلِكَ لَمْ يَأبهوا لِكَلَامِه أوَّلَ الْأَمْرِ وَلَمْ يُلقوا لَه بالاً ، لكنَّه كَان مُصرَّاً عَلَى إيقَاظِهِمْ مِنْ غَفْلَتِهِم . 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : استمرَّ ذَلِكَ الْفَتَى الرَّشِيدُ ثابتاً عَلَى مَوْقِفِهِ الواعي فِي تَوْجِيهِ قومِه إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ، وازدادَ ثباتاً بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وإرشادِه ، وتحمَّلَ المصاعبَ والمتاعبَ فِي سَبِيلِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ الحقِّ ، يُوَاجِهُهَا وحيداً فريداً بعدَ أَن طَرَدَهُ أَبُوه وَأَمَرَه بِاجْتِنَابِه حتَّى بلغَ سِنَّ الفتوَّةِ ، وَأَثْبَتَتْ لَهُ السَّنَوَاتُ المتكرِّرةُ مَدَى رُسُوخِ الضَّلَالَةِ فِي نَفْسِ أَبِيَّه  -آزرَ - وَقَوْمِه ، وشدَّةَ تعلُّقِهِم بِالْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ نابعةً مِنْ ارْتِبَاطِ مَصَالِحِهِم الشخصيَّةِ ومنافعِهم الدنيويَّةِ المادِّيةِ بِهَا وجوداً وعدماً ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إلَّا أَن يُصارحَهم بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَوْنُهم يَعْتَمِدُونَ عَلَى جَهلِ النَّاسِ وَتَرْوِيجِ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ بينَهم ؛ ليأكلوا أموالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : ولَمَّا يَئِسَ مِنْ اِسْتِجَابَةِ ضَمَائِرِهِم وَعُقُولِهِم لبراهينِهِ الْقَاطِعَةِ ، قرَّرَ أَنْ يُسْقُطَ أَصْنَامَهَم بِمَا تمثِّلهُ مِنْ مَصَالِحِهِم الخاصَّةِ الْفَاسِدَةِ فِي الِاهْتِدَاءِ إلَى مَعْرِفَةِ ربِّها الحقِّ سُبْحَانَه وَعِبَادَتِه ، فأبلغَهم نيَّتَه وَعَزْمَهُ عَلَى إزَاحَةِ هَذِه العَقَبَاتِ الَّتِي تَحَولُ بينَ الناسِ وبينَ إدْرَاكَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي اهْتَدَى إلَيْهَا ، وَأقْسَم لَهُم أنَّه سيَكيدُ أصنامَهم هَذِه حتَّى يُزيلَها مِنْ الْوُجُودِ (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) وَابْتَدَأَ سيِّدُنا إبراهيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحضيراتِه لِتَنْفِيذِ مَا الْتَزَمَ بِهِ وَأقْسمَ بِاللَّه تَعَالَى عَلَى إِنْجَازِه ، ولَمَّا رَأَى سيِّدُنا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنَّ الجدالَ النظريَّ لَا يُجدي نفعاً مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِه ؛ قرَّرَ أَن يُلقِّنَهم دَرساً عَمليّاً يَثْبُتُ لَهُمْ فِيهِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الشكَّ صحَّةَ مَا كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنْ حَقَارَةِ شَأْنِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ ، وَكَانَت خطَّتُه تتلخَّصُ فِي تَكْسِيرِ الْأَصْنَامِ فِي وقتٍ واحدٍ ، وَتَحْطِيمِهَا إلَى أَجْزَاءٍ صغيرةٍ ، وَتَرَك الصَّنَمَ الْأَكْبَرَ مِنْ دُونِهَا سليماً ؛ ليُحرِجَ الناسَ عِنْد مُوَاجَهَتِهِم لِهَذِه الكَارِثَةِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ليحلَّ لَهُمْ هَذِهِ القضيَّةَ الْمُشْكِلَةَ ويُبيِّنُ لَهُم المخرجَ مِنْهَا ، وليُدافعَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ التُّهْمَةِ الَّتِي سيوجِّهُها إلَيْه سيِّدنا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رُؤُوسِ الْإِشْهَادِ كَوْنِه هُوَ الَّذِي حَطَّمَ رِفاقَه فِي الْمِهْنَةِ ، ليستولي عَلَى القرابينِ المقدَّمةِ إلَيْهِم ، فَاخْتَار سيِّدُنا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يوماً مِنْ أَيَّامِ أَعْيَاد الْمُشْرِكِين الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا عِنْدَ أَصْنَامِهِم ليقدِّموا لَهَا القرابينَ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ قبلَ تَنْفِيذِ خُطَّتِه يومَها بخطوةٍ تمهيديَّةٍ تَجْعَل قومَه لَا يَنْتَبِهُون إلَى تحرُّكاتِه ، فَوَجَدَ أنَّ أَفْضَلَ مَا يَفْعَلُهُ لصَرفِ أَنْظَارِهِم عَنْهُ أَنَّ يَدَّعي أَصَابَتَه بمرضٍ شديدٍ مُعضلٍ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِهِمْ طريحَ الْفِرَاش ، وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ القرابينِ بمدَّةٍ زمنيَّةٍ كافيةٍ لتجعلَ قَوْمَه مطمئنِّي الْجَانِبِ مِنْ نَاحِيَتِهِ غيرَ متوجِّسينَ مِنْه ، وانطَلَت حيلةُ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ عَلَى الْقَوْمِ ؛ وَانْصَرَفُوا إلَى يَوْمِ عِيدِ آلِهَتِهِم مطمئنِّين فرِحينَ مُعْتَقِدِيْن أنَّ آلهتَهم قَد انتقمت بِذَلِكَ الْمَرَضِ مِنْ هَذَا الْفَتَى الَّذِي تطاوَلَ عَلَيْهَا أمامَ النَّاس وحقَّرَ شَأْنَهَا ، أمَّا سيِّدُنا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ فَقَد تَرْكَهَم يَغرقون فِي نشوتِهم الْعَمْيَاءَ منتظراً الفرصةَ السانحةَ لِتَنْفِيذ مخطَّطِه .
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَجَاءَت اللَّحْظَةُ المرتقبةُ بعدَ إنْ انْتَهَى قَوْمُهُ مِنْ مَرَاسِمِ عِيدِهِم بِتَقْدِيم القرابين لأصنامِهم وَانْصِرَافِهم عَن الْمَعْبَدِ إلَى أوكارِ ملذَّاتِهم ، فتسلَّلَ سيِّدُنا إِبْرَاهِيمُ خِلسةً عَنِ الأَنْظَارِ وَدَخَلَ إلَى الْمَعْبَدِ لِيَجِدَ أَصْنَافَ الطَّعَامِ مكدَّسةً إمَامَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الصمَّاءَ وَرَاح يَسْتَهْزِئ بِهَذِه الْأَصْنَامِ ، ثمَّ إنْهَال عَلَيْهَا تكسيراً وتحطيماً دُونَ أَنْ يُحدثَ ضجَّةً تَلفِتُ الِانْتِبَاهَ إلَى وُجُودِهِ فِي الْمَعْبَدِ (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ  فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) فَمَا زَالَ يَضْرِبُ الْأَصْنَامَ حتَّى جَعَلَهَا حطاماً وَتَرَك الصَّنَمَ الْأَكْبَرَ وجَمعَ القرابين عندَه عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ خَطَّطَ لَهُ مِنْ قَبلُ (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) فلمَّا انْتَهَى مِنْ مهمَّتِه عَاد أدْرَاجَه إلَى فِرَاشِهِ دُونَ أَنْ يَتْرُكَ وراءَه أيَّ أثرٍ يَدلُّ عَلَى تدخُّلٍ بشريٍّ فِي الْمَكَانِ ، منتظراً أصداءَ الحدَثِ الْكَبِيرِ بَيْنَ النَّاسِ ، وماجَت الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا مَعَ انْتِشَارِ الْخَبَرِ واكتشافِ الْحَادِثَةِ وَأَخِذَت أَصْوَاتُ الْجُمُوعِ تَتَعَالَى مستنكرةً مستهجنةً هَذِه الجَرِيمَةَ (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وتذكَّر بعضُ الْحَاضِرِين أنَّ هُنَاك شخصاً سَمِعُوه مرَّةً يُهاجمُ هَذِه الْآلِهَةَ ويتوعَّدُها فقرَّروا إحضارَه لِلْمُحَاكَمَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ العلنيَّةِ وَانْطَلَقُوا إلَى محلِّ إقَامَتِه يَرْكُضُون مُسْرِعِين ، وَأَقْبَل سيِّدُنا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُمْ إلَى مَوْقِعِ الْحَادِثَةِ ، لِيُكَمِّلَ مَا بَدَأَه مِنْ تَفَاصِيلِ الدَّرْسِ العمليِّ .
الخطبة الثانية
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : وأمامَ مَشْهَدِ الْأَصْنَامِ المحطَّمةِ وَبِمَحْضَرِ الجَمَاهِيرَ الغفيرةِ المغرَّرِ بِهَا ، أَلْقَى سيِّدُنا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُرْهَانَه العقليَّ السَّاطِعَ  ليُنيرَ عقولَ الْحَاضِرِين الشَّاهِدَيْن وَاغْتَنمَ مَنْظَرَ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ السَّلِيمِ مِنْ الْأَذَى وَقَد تَجمَّعت القرابينُ كلُّها عندَه ليصفعَهم بِالْحَقِيقَةِ الموقظةِ ، وَوَصَلَ إلَى الْغَايَةِ الَّتِي كَانَ يُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَوَضَعَ النّاسَ فِي مواجهةٍ مباشرةٍ مَع أَصْنَامِهِمْ الّتِي يَزْعُمُون أنَّها ترعاهُم وتُنيرُ طريقَهم ، فكأنَّه قَالَ لَهُمْ : (لو كنتُ أَنَا الْفَاعِلَ لحطَّمتُها جميعاً ، لَكِن يَبْدُو أنَّ كبيرَهم قَدْ أَصَابَهُ الطمعُ فاستولى عَلَى كلِّ القرابين وحطَّم رِفَاقَه ، وَهَاتَانِ مشكلتانِ تستدعيانِ هَذِه الأصنامَ أَن تتكلَّمَ ، لتبيِّن لَكُم حقيقةَ مَا جَرَى فِي الْمَعْبَدِ مِن جهةٍ ، وليدافعَ الصَّنَمُ الْأَكْبَرُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ التُّهْمَةِ مِن جهةٍ أُخرى) ، وَكَانَتْ النَّتِيجَةُ المنتظرةُ فِي صحوةٍ مؤقَّتةٍ ، لكنَّهم مَا لَبِثُوا إنْ عَادُوا إلَى انتكاستِهم الْفِكْرِيَّةِ الأُولى ، فَمَا كَانَ مِنْ سيِّدِنا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا أَن وبَّخَهم ( قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وهُنَا ثَارَت ثائرةٌ الْقَوْم لينتقموا لِكَرَامَتِهِم الَّتِي أُهينت مدَّعين انتصارَهم لأصنامِهم ، وَكَان الْقَرَارُ ببنيانِ بيتٍ عالٍ يَجْمَعُونَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ الْحَطَبِ ؛ ليُوقدوا ناراً عَظِيمَةَ القَدرِ ، ثمَّ لِيَرْمُوا فِي لَهِيبِهَا هَذَا الْفَتَى الَّذِي الْتَزَمَ الصَّمتَ ، وَاكْتَفَى بِمُنَاجَاةُِ ربِّه سُبْحَانَه ؛ راضياً بِأَن يقدِّمَ نفسَه قُرباناً خَالصاً لِوَجْهِه الْأَعْلَى ، متوكِّلاً عَلَيْهِ فِيمَا يَشَاءُ ، جامعاً كلَّ رجائِه بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي كلمةٍ واحدةٍ يردِّدها وَيَا لَهَا مِنْ كلمةٍ ، يَقُول عَبْداللَّه بْن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : (كان آخِرُ قَوْلِ إبراهيمَ حينَ أُلقي فِي النَّارِ : حَسبي اللَّه ونِعمَ الوكيلُ) وَقَد وفَّى الوكيلُ سُبْحَانَه وحَمَى عبدَه وقَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كيدَهم ؛ فحوَّل بنيانَهم وجحيمَه إلَى واحةٍ باردةٍ ، وَجَعَلَ مَا قَامُوا بالتحضيرِ لَهُ بِقَصْدِ إهَانَةِ هَذَا الْفَتَى مُعجزةً شاهدةً بِصَدَقَهِ ونبوَّتِه ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) .
وَخَرَج الْفَتَى المؤيَّدُ بِرِضَا ربِّهِ مُنتصراً ، وَأَصْبَح هُوَ فِي مَوْضِعِ القوَّةِ تُجَاه أَبِيه وَقَوْمِه الضُّعَفَاءَ ، فأعلن لَهُم براءتَه مِنْهُمْ وَمِنْ ضلالِهم ، وَصَار بِذَلِك قُدوةً لكلِّ مُؤْمِنٍ صادقٍ عَبرَ الأَجْيَالِ ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )  ثمَّ مَا لَبِثَ أَنْ جَاءَهُ أَمْرُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إلَى أَرْضِ الشّامِ . 
المشاهدات 981 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا