أي الفريقين أحق بالنجاح؟!

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/10/12 - 2025/04/10 15:15PM

أي الفريقين أحق بالنجاح؟!

 


إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، صلاةً وسلامًا دائمَيْن، ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].

أمّا بعدُ: ما من أحدٍ - أيُّها الفُضلاءُ - إلا وهو يُحبُّ أن يكونَ ناجحًا، ومتميِّزًا، وفائزًا. ثم الناسُ بعد ذلك في سلوكِ طُرُقِ النجاحِ والتميُّزِ على فريقين: فريقٌ، وهم الأكثرُ - إلا من رحمَ اللهُ - جعلَ معاييرَ النجاحِ، المعاييرَ التي يُعظِّمُها الناسُ، وهي معاييرُ دُنيَويَّةٌ ماديَّةٌ. فالناجحُ وفقَ هذه المعاييرِ، هو من جمعَ الأموالَ، أو من تسنَّمَ أعلى المناصبِ، أو حازَ الشهاداتِ والألقابَ. وفي سبيلِ رفعتِهم في أعينِ الناسِ، وانطباقِ المعاييرِ عليهم، بذلوا الغاليَ والنفيسَ، وهجروا الراحةَ، وتَجَشَّموا الصعابَ، وكابدوا ما شاءَ اللهُ لهم أن يُكابدوا، من الألمِ والقلقِ والتَّرَقُّبِ. كلُّ هذا من أجل أن يُقالَ للواحدِ منهم: لقد نجحتَ، وتفوقتَ، واختلفتَ عمَّن حولكَ!

وأمَّا من لم يستطعِ اللحاقَ بالرَّكبِ، وفاتتْه هذه المعاييرُ أن تنطبقَ عليه، فهو إمّا حزينٌ محطَّمٌ، يظنُّ ألاَّ قيمةَ له، فينزوِي وينطوِي. وإمَّا أن يُحاوِلَ اللِّحاقَ بالرَّكبِ بالدَّعاوى الكاذبةِ، فيَنسبَ لنفسِه من النجاحاتِ ما لم يفعَل، ويدَّعيَ من بريقِ المادِّيَّاتِ ما ليس له.

وأمَّا الفريقُ الآخرُ، وهم أهلُ العلمِ والبصيرةِ، الذين رغِبوا في النجاحِ، وخافوا من الفشلِ، ولكن وفقَ معاييرِ القرآنِ. فنظروا في القرآنِ، فوجَدوا أنَّ اللهَ بيَّنَ طريقَ الفوزِ والنجاحِ، وطريقَ الفشلِ والخسارةِ. فالفائزُ وفقَ معاييرِ القرآنِ، هو من سلَكَ الطريقَ الذي يُوصِلُهُ إلى جَنَّةِ ربِّه؛ فآمَنَ باللهِ، وعمِلَ صالحًا، واتَّقى اللهَ وأطاعَه، وكابَدَ وجاهَدَ في مُغالبةِ هواه، والانتصارِ على غرائزِ نفسِه وأطماعِها وشُحِّها وشهواتِها. قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [النساء: ١٣].

وقال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ٧٢].

وقال أيضًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: ١١].

والخاسرُ، وفقَ معاييرِ القرآنِ، هو من سلَكَ الطريقَ المُوصِلَ إلى النارِ؛ فتنكَّبَ الصراطَ، وعصى ربَّهُ ومولاهُ، وتابعَ هواهُ، وفشلَ في السيطرةِ على نفسِه وشهواتِها وأطماعِها.

قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١].

وقال سبحانه: ﴿فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: ١٥].

فباللهِ عليكم، أيُّ الفريقَيْنِ أحقُّ بالنَّجاح؟!

الذين عظَّموا المعاييرَ التي عظَّمها الناسُ، وسلكوا الطريقَ التي حكمَ الناسُ بفوزِ ونجاحِ أصحابِها، أم الذين عظَّموا ما عظَّمَ اللهُ من المعاييرِ، وسلكوا الطريقَ التي حكمَ اللهُ بفوزِ أصحابِها؟!

أيُّ الطريقَيْنِ الذي يستحقُّ أن نُكابِدَ ونعانيَ فيه، الطريقُ المُوصِلُ إلى أن ينظرَ العزيزُ الحكيمُ العظيمُ لنا بأنَّنا فائزون، أم الطريقُ التي نحظى فيها بإعجابِ حفنةٍ من المخلوقين لا يملكون لأنفسِهم - فضلًا عن غيرِهم - نفعًا ولا ضرًّا؟!

إنَّ من توفيقِ اللهِ للعبدِ، أن يتلمَّسَ الأسبابَ التي تجلبُ ثناءَ اللهِ ورضاه، غيرَ مهتمٍّ ومكترثٍ لثناءِ الناسِ ورضاهم.

فما قيمةُ أن يكونَ الواحدُ عند الناسِ عظيمًا، وهو عند اللهِ حقيرٌ؟!

وفدَ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ حمدي زَيْنٌ وذمِّي شِينٌ. فردَّ عليه الذي لا يأبهُ للناسِ وكلامِهم: “ذاكَ اللهُ”. [أخرجه الترمذي والنسائي].

أقولُ قولي هذا…

 


الثانية

أمّا بعدُ:

 


أيُّها الإخوةُ، شتَّانَ بين معاييرِ الناسِ، ومعاييرِ ربِّ الناسِ.

فقد قال الناسُ، عندما رأَوا قارونَ، وهو في زينتِه: “إنَّه لذو حظٍّ عظيم”.

وقال اللهُ عمَّن يحلمُ على الناسِ ويُقابلُ إساءتَهم بالإحسانِ: ﴿وَما يُلَقّاها إِلَّا الَّذينَ صَبَروا وَما يُلَقّاها إِلّا ذو حَظٍّ عَظيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥]

أرأيتَ من خلالِ هذا المثالِ، عظيمَ الفرقِ بين المعيارَيْنِ؛ معيارٍ جعلَ قيمةَ الإنسانِ مادِّياتٍ زائلةً، ومعيارٍ جعلَ قيمةَ الإنسانِ رِفعةَ خُلقِه وسُموَّ نفسِه؟!

فلنفتِّشْ في القرآنِ عن أسبابِ الثناءِ عند اللهِ، التي تجلبُ رِضاه، ولنعملْ  بها، ولنهتمْ لها، فهذا أشرحُ لصدورِنا، وأزكى لنفوسِنا، وأصوَبُ لحقائقِ الأشياءِ.

ولا يعني كلُّ هذا القعودَ عن العملِ، والأخذَ بأسبابِ النجاحِ، فهذا حقٌّ مشروعٌ.

ولكن ما ليس بحقٍّ، أن تطغى هذه المعاييرُ الماديَّةُ، وزخرفُ الحياةِ، فنُنهكَ أنفسَنا وغيرَنا بالتحاكمِ إليها، ويعتقدَ الواحدُ ألاَّ قيمةَ لنفسِه وغيرِه، حتى ينظرَ كم حظُّهُ وحظُّ غيرِه من حُطامِ الدنيا الزائفِ.

لقد جرَّ مثلُ هذا الاهتمامِ الدنيويِّ، ومراقبةُ الناسِ، على الكثيرِ الأسى والحزنَ، وشكَّل على كواهلِهم ضغطًا رهيبًا، وأطال من لهثِهم خلفَ سرابِ هذه المعاييرِ، ومحاولةِ إرضاءِ الناسِ، دون جدوى.

فهوِّنْ عليكَ يا أخي، وأعِدْ لنفسِك هدوءَها وطمأنينتَها؛ فلقد نجحتَ نجاحًا عظيمًا، إذا أحكمتَ السيطرةَ على نفسِك وانتصرتَ عليها، وحافظتَ على حقوقِ اللهِ وحقوقِ خلقِه، وبذلتَ قُصارى جُهدِك في أن تعيشَ في هذه الحياةِ كريمًا مستغنيًا عن خلقِه، راضيًا بما قسمَ اللهُ لك.

أيُّها الإخوةُ، كم أرخصَ قيمةَ نفسِه، من ربطَ قيمتَها بمتاعِ الدنيا؟! لأنَّ الدنيا مهما عظُمتْ فهي رخيصةٌ.

وكم أعلى وأغلى من نفسِه، من جعلَ قيمتَها، بما تتشوَّفُ له من منازلِ الآخرةِ ونعيمِها.

وكان عليه الصلاةُ والسلامُ، حريصًا ألا تأخذَ الدنيا أكبرَ من حجمِها في نفوسِ أصحابِه، وأن تبقَى نفوسُهم مشدودةً للآخرةِ، لأنَّها هي الحياةُ الحقيقيَّةُ، والفوزُ بها هو الفوزُ الحقُّ.

أُهدِيَ له عليه السلامُ ذاتَ مرةٍ، جُبَّةٌ من سُندسٍ، فعجِبَ الناسُ منها، فقال: “والذي نفسي بيدِه، لَمَناديلُ سعدٍ في الجنَّةِ خيرٌ منها”. [رواه الشيخان].

 


هذا، وصلُّوا وسلِّموا

المرفقات

1744287386_‎⁨نسخة أي الفريقين أحق بالنجاح⁩.docx

المشاهدات 710 | التعليقات 0