أيهما آمن.؟ من روائع القصص النبوي
عبد الله بن علي الطريف
1435/04/06 - 2014/02/06 05:45AM
أيهما آمن.؟ من روائع القصص النبوي 7/4/1435هـ
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]
أيها الإخوة: ما أجمل الكلام حول أحاديث الرسول، وما أزكى الأوقات عندما تعطر بذكر شيء من هديه، أو بسرد قصة من القصص التي رواها لنا، فلقد كان من هديه تنويع أساليب الدعوة والتوجيه، فمرة بموعظة، وأخرى بقصة، وأحيانا بذكر مَثل، أو غيرها من الأساليب دفعا للسأم وشدا لذهن السامع، وتوجيها للدعاة والمربين بضرورة تنويع أساليب الدعوة إلى الله وتربية النشء.
أيها الإخوة: تعالوا بنا إلى قصة من تلك القصص نستلهم منها العظة والعبرة..
فقد روى البخاريُ في صحيحه والإمامُ أحمدُ في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وفي رواية أن رجلا من بني إسرائيل كان يُسلف الناس إذا أتاه الرجل بكفيل. فَقَالَ لمن أتاه: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، وفي رواية قال: سبحان الله نعم.. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ (أي: المقترض) فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا (أي سفينة ليقطع عليها البحر لمن أقرضه) لِيَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا (وذلك لهيجان البحر وشدة الموج) فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا (أي حفر فيها حفرة) فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ (أي ورقة كتب فيها رسالة إلى صاحبه يخبره بذلك) ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا (أي أصلح موضعها من الخشبة) ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ (أي بذلت جُهدي واستطاعتي) فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا (أي جعلتها عندك وديعةً وأمانة) وفي رواية: اللهم أدى حمالتك..
فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ (وذلك لأنه واعد صاحب القرض بهذا الوقت ولم يرد تأخيره) وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ (وذلك للوعد بينهما ولم يحضر أحد) فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا (أي صاحب القرض) لِأَهْلِهِ حَطَبًا، وفي رواية وغدا رب المال أي صاحبه إلى الساحل يسأل عنه ويقول: اللهم اخلفني.! وإنما أعطيت لك فَلَمَّا نَشَرَهَا (أي الخشبة) وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ (فقرأها وعرف) ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ (غير الذي وضع بالخشبة) فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ (ليبين له سبب التأخير وإلا فهو جاد في السداد) فقَالَ (أي المقرض): هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ.؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ (المقرض): فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا"
زاد أبو سلمة عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولقد رأيتنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر مراؤنا ولغطنا أيهما آمن.؟!
أيها الأحبة: صورة فذة.. ومعاني رائعة اشتمل عليها هذا الحديث وجمايل أن نقف معه بعض الوقفات:
الأولى: عند المقرض.. القرض شرعه الله تعالى، وحث عليه رسوله توطيدا لأواصر الأخوة بين المؤمنين، وتحقيقا لمبدأ التعاون بينهم، ونفع بعضهم بعضا.. يقول الرسول: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحبُ الأعمال إلى الله سرورٌ يدخله على المسلم ، أو يكشف عنه كربة، أو يقضى عنه دينا، أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشى مع أخ لي في حاجة أحبُ إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد شهرا _يعنى المسجد النبوي_ أخرجه الطبراني وحسنه الألباني 906 وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ»، قَالَ: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ" رواه مسلم 1561
نقول ذلك أيها الإخوة: في زمن طغت فيه المادة على تعامل بعض الناس، ولم يعد للمعرف في حسبانهم مكان، وخبت في نفوسهم الأخوة، ونسوا أو تناسوا في خِضمِ الحرصِ على المادةِ، والجريِ خلفها طلبَ الآخرةِ.. وغفلوا عن فضلِ تنفيس الكرب.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.. رواه مسلم
أيها الموسرون: قفوا مع إخوانكم ونفسوا عنهم، واحموهم من الحرام من بيع العينة والربا ، وجشع بعض مكاتب التقسيط..
الوقفة الثانية: مع المقترض.. فلقد ضرب هذا المقترض المثل الأعلى بالحرص على أداء الدين ورد المال إلى صاحبه في وقته المحدد.. بل دفعه حرصه إلى المغامرة في مقاييس الماديين من الناس، فقد وضع المال في خشبة ورمها في اليم..! فعل ذلك توكلآً على الله وحرصا على أداء الحق في وقته.. وفي هذا أعظم درسٍ لمن ألقى السمع وهو شهيد..
أين هذا من فئام من الناس أخذوا أموال إخوانهم المسلمين، وأعطوا العهود والمواثيق على الأداء، لكنهم أضمروا في نفوسهم الخبيثة المطل والخديعة والكذب، واختلقوا المعاذير للتملص عن الأداء وهم كثير لا كثرهم الله، واسألوا المحاكم الشرعية والحقوق المدنية عن قضايا هؤلاء..
أيها الإخوة: لقد اتخذ بعض الناس المطل مطية لأكل أموال الناس بالباطل، ووسيلة سهلة للتكسب، يأخذ أموال الناس وقد عقد العزم على عدم ردها، وأصبح أهل الأموال لا يثقون بأحد فأمسكوا أيدهم عن إقراض من تقدم إليهم.
ولقد غفل هؤلاء الجاحدون عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ رواه البخاري ، وغفلوا عَنْ قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا. رواه ابن ماجة عن صُهَيْبُ الْخَيْرِ وهو حديث حسن.
ثم أيها الإخوة: لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا لحاجة فقد نهى النبي عن الدين فيما رواه عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُخِيفُوا أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ أَمْنِهَا" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.؟ قَالَ: "الدَّيْنُ". رواه أحمد والحاكم وصححه وهو حديث صحيح.
الوقفة الثالثة: من يتوكل على الله فهو حسبه ، يقول ابن حجر رحمه الله في حديث صاحب الخشبة فضل التوكل على الله وأن من صح توكله تكفل الله بنصره وعونه.
فالمقرض دفع المال دون شهيد أو كفيل من البشر، فحقق التوكل عندما رضي بالله شهيدا وكفيلا، فرد الله ماله في الخشبة التي أخذها حطبا لأهله.
وأما المقترض فقد حقق التوكل على الله عندما ذهب لكي يرد الأمانة ويقضي الدين، ولكنه لم يجد مركباً فتحير ماذا يفعل، ثم هداه الله بصدقه إلى أن يضع الألف دينار في الخشبة، ويدفع بها إلى البحر وسط الأمواج المتلاطمة والرياح الشديدة، متوكلا على ربه محسنا الظن به، وجعل المال الذي في الخشبة وديعة عند الله قائلاً: اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلاناً ألفَ دينار، فَسَأَلَنِي كَفِيْلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني جَهِدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أسْـتَوْدَعْـتُكَها اللهم أدى حمالتك. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف..
فأي توكل مثل هذا أيها الإخوة.؟! وأية ثقة بالله مثل هذه.. وأي حسن للظن بالله مثل هذا.. !؟ لقد أحسن هذا الرجل التوكل على الله وصدق معه، لذلك تكفل الله بعونه ورد عنه سبحانه المال إلى صاحبه ولم يَتْلَفِ المالُ أو يُفْقَدْ. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3] بارك الله لي ولكم بكتابه الكريم وبهدي سيد المرسلين..
الخطبة الثانية :
أما بعد: أيها الإخوة (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197] وقفتنا الخامسة أيها الأحبة: أيهما آمن ، قال أبو هريرة: ولقد رأيتنا عند رسول الله يكثر مراؤنا ولغطنا أيهما آمن؟!. فأيهما آمن موقفان كل واحد منهما أجمل من الآخر، موقف الرجل المقترض الذي خرج في موعد السداد لقضاء دينه فأتى البحر وانتظر وطال به الانتظار لعل مركبا يأتي، ولكن هيهات لقد اشتدت الريح وتلاطمت الأمواج وصار الإبحار في مثل هذا الجو انتحار، ومع ذلك لما أعيته الحيلة لم يقف عن السعي إلى السداد فأرسل المال عبر الخشبة متوكلاً على الله، ومع ذلك لم يعتبر ذلك سدادا لما عليه فركب البحر عندما هدأ، والتمس صاحبه ليوفيه حقه فلما قابله لم يخبره الخبر بل بادر بسداد ما عليه ولم يسأل هل وصلت الخشبة وما فيها، بل قال: إني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه ثم دفع له الألف دينار..!
أما المقرض الذي لم يسكت ويقبل ما ليس له بل رد عليه ماله وقال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت بالخشبة. وكان بإمكانه أن يأخذ الألف مرة ثانية ولا يخبره، ولكن هذا الرجل يعلم علم اليقين اطلاع الله عليه.. فأين هذين الرجلين من أناس جعلوا الحلال ما حل باليد..! والمباح ما استطاعوا أخذه..! لا يبالون في الأموال من أين جاءت أمن حلال أم من حرام.! ونسوا أو تناسوا قول الرَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»، أي وإن كان مسواكاً رواه مسلم.
وقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..) [النساء:58]
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أيجعلنا ممن يؤدي الحقوق إلى أهلها وأن يعيذنا من الظلم والمطل وأن يجعلنا من الراشدين...
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]
أيها الإخوة: ما أجمل الكلام حول أحاديث الرسول، وما أزكى الأوقات عندما تعطر بذكر شيء من هديه، أو بسرد قصة من القصص التي رواها لنا، فلقد كان من هديه تنويع أساليب الدعوة والتوجيه، فمرة بموعظة، وأخرى بقصة، وأحيانا بذكر مَثل، أو غيرها من الأساليب دفعا للسأم وشدا لذهن السامع، وتوجيها للدعاة والمربين بضرورة تنويع أساليب الدعوة إلى الله وتربية النشء.
أيها الإخوة: تعالوا بنا إلى قصة من تلك القصص نستلهم منها العظة والعبرة..
فقد روى البخاريُ في صحيحه والإمامُ أحمدُ في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وفي رواية أن رجلا من بني إسرائيل كان يُسلف الناس إذا أتاه الرجل بكفيل. فَقَالَ لمن أتاه: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، وفي رواية قال: سبحان الله نعم.. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ (أي: المقترض) فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا (أي سفينة ليقطع عليها البحر لمن أقرضه) لِيَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا (وذلك لهيجان البحر وشدة الموج) فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا (أي حفر فيها حفرة) فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ (أي ورقة كتب فيها رسالة إلى صاحبه يخبره بذلك) ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا (أي أصلح موضعها من الخشبة) ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ (أي بذلت جُهدي واستطاعتي) فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا (أي جعلتها عندك وديعةً وأمانة) وفي رواية: اللهم أدى حمالتك..
فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ (وذلك لأنه واعد صاحب القرض بهذا الوقت ولم يرد تأخيره) وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ (وذلك للوعد بينهما ولم يحضر أحد) فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا (أي صاحب القرض) لِأَهْلِهِ حَطَبًا، وفي رواية وغدا رب المال أي صاحبه إلى الساحل يسأل عنه ويقول: اللهم اخلفني.! وإنما أعطيت لك فَلَمَّا نَشَرَهَا (أي الخشبة) وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ (فقرأها وعرف) ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ (غير الذي وضع بالخشبة) فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ (ليبين له سبب التأخير وإلا فهو جاد في السداد) فقَالَ (أي المقرض): هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ.؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ (المقرض): فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا"
زاد أبو سلمة عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولقد رأيتنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر مراؤنا ولغطنا أيهما آمن.؟!
أيها الأحبة: صورة فذة.. ومعاني رائعة اشتمل عليها هذا الحديث وجمايل أن نقف معه بعض الوقفات:
الأولى: عند المقرض.. القرض شرعه الله تعالى، وحث عليه رسوله توطيدا لأواصر الأخوة بين المؤمنين، وتحقيقا لمبدأ التعاون بينهم، ونفع بعضهم بعضا.. يقول الرسول: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحبُ الأعمال إلى الله سرورٌ يدخله على المسلم ، أو يكشف عنه كربة، أو يقضى عنه دينا، أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشى مع أخ لي في حاجة أحبُ إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد شهرا _يعنى المسجد النبوي_ أخرجه الطبراني وحسنه الألباني 906 وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ»، قَالَ: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ" رواه مسلم 1561
نقول ذلك أيها الإخوة: في زمن طغت فيه المادة على تعامل بعض الناس، ولم يعد للمعرف في حسبانهم مكان، وخبت في نفوسهم الأخوة، ونسوا أو تناسوا في خِضمِ الحرصِ على المادةِ، والجريِ خلفها طلبَ الآخرةِ.. وغفلوا عن فضلِ تنفيس الكرب.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.. رواه مسلم
أيها الموسرون: قفوا مع إخوانكم ونفسوا عنهم، واحموهم من الحرام من بيع العينة والربا ، وجشع بعض مكاتب التقسيط..
الوقفة الثانية: مع المقترض.. فلقد ضرب هذا المقترض المثل الأعلى بالحرص على أداء الدين ورد المال إلى صاحبه في وقته المحدد.. بل دفعه حرصه إلى المغامرة في مقاييس الماديين من الناس، فقد وضع المال في خشبة ورمها في اليم..! فعل ذلك توكلآً على الله وحرصا على أداء الحق في وقته.. وفي هذا أعظم درسٍ لمن ألقى السمع وهو شهيد..
أين هذا من فئام من الناس أخذوا أموال إخوانهم المسلمين، وأعطوا العهود والمواثيق على الأداء، لكنهم أضمروا في نفوسهم الخبيثة المطل والخديعة والكذب، واختلقوا المعاذير للتملص عن الأداء وهم كثير لا كثرهم الله، واسألوا المحاكم الشرعية والحقوق المدنية عن قضايا هؤلاء..
أيها الإخوة: لقد اتخذ بعض الناس المطل مطية لأكل أموال الناس بالباطل، ووسيلة سهلة للتكسب، يأخذ أموال الناس وقد عقد العزم على عدم ردها، وأصبح أهل الأموال لا يثقون بأحد فأمسكوا أيدهم عن إقراض من تقدم إليهم.
ولقد غفل هؤلاء الجاحدون عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ رواه البخاري ، وغفلوا عَنْ قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا. رواه ابن ماجة عن صُهَيْبُ الْخَيْرِ وهو حديث حسن.
ثم أيها الإخوة: لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا لحاجة فقد نهى النبي عن الدين فيما رواه عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تُخِيفُوا أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ أَمْنِهَا" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.؟ قَالَ: "الدَّيْنُ". رواه أحمد والحاكم وصححه وهو حديث صحيح.
الوقفة الثالثة: من يتوكل على الله فهو حسبه ، يقول ابن حجر رحمه الله في حديث صاحب الخشبة فضل التوكل على الله وأن من صح توكله تكفل الله بنصره وعونه.
فالمقرض دفع المال دون شهيد أو كفيل من البشر، فحقق التوكل عندما رضي بالله شهيدا وكفيلا، فرد الله ماله في الخشبة التي أخذها حطبا لأهله.
وأما المقترض فقد حقق التوكل على الله عندما ذهب لكي يرد الأمانة ويقضي الدين، ولكنه لم يجد مركباً فتحير ماذا يفعل، ثم هداه الله بصدقه إلى أن يضع الألف دينار في الخشبة، ويدفع بها إلى البحر وسط الأمواج المتلاطمة والرياح الشديدة، متوكلا على ربه محسنا الظن به، وجعل المال الذي في الخشبة وديعة عند الله قائلاً: اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلاناً ألفَ دينار، فَسَأَلَنِي كَفِيْلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني جَهِدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أسْـتَوْدَعْـتُكَها اللهم أدى حمالتك. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف..
فأي توكل مثل هذا أيها الإخوة.؟! وأية ثقة بالله مثل هذه.. وأي حسن للظن بالله مثل هذا.. !؟ لقد أحسن هذا الرجل التوكل على الله وصدق معه، لذلك تكفل الله بعونه ورد عنه سبحانه المال إلى صاحبه ولم يَتْلَفِ المالُ أو يُفْقَدْ. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3] بارك الله لي ولكم بكتابه الكريم وبهدي سيد المرسلين..
الخطبة الثانية :
أما بعد: أيها الإخوة (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197] وقفتنا الخامسة أيها الأحبة: أيهما آمن ، قال أبو هريرة: ولقد رأيتنا عند رسول الله يكثر مراؤنا ولغطنا أيهما آمن؟!. فأيهما آمن موقفان كل واحد منهما أجمل من الآخر، موقف الرجل المقترض الذي خرج في موعد السداد لقضاء دينه فأتى البحر وانتظر وطال به الانتظار لعل مركبا يأتي، ولكن هيهات لقد اشتدت الريح وتلاطمت الأمواج وصار الإبحار في مثل هذا الجو انتحار، ومع ذلك لما أعيته الحيلة لم يقف عن السعي إلى السداد فأرسل المال عبر الخشبة متوكلاً على الله، ومع ذلك لم يعتبر ذلك سدادا لما عليه فركب البحر عندما هدأ، والتمس صاحبه ليوفيه حقه فلما قابله لم يخبره الخبر بل بادر بسداد ما عليه ولم يسأل هل وصلت الخشبة وما فيها، بل قال: إني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه ثم دفع له الألف دينار..!
أما المقرض الذي لم يسكت ويقبل ما ليس له بل رد عليه ماله وقال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت بالخشبة. وكان بإمكانه أن يأخذ الألف مرة ثانية ولا يخبره، ولكن هذا الرجل يعلم علم اليقين اطلاع الله عليه.. فأين هذين الرجلين من أناس جعلوا الحلال ما حل باليد..! والمباح ما استطاعوا أخذه..! لا يبالون في الأموال من أين جاءت أمن حلال أم من حرام.! ونسوا أو تناسوا قول الرَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»، أي وإن كان مسواكاً رواه مسلم.
وقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..) [النساء:58]
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أيجعلنا ممن يؤدي الحقوق إلى أهلها وأن يعيذنا من الظلم والمطل وأن يجعلنا من الراشدين...
المشاهدات 3935 | التعليقات 2
جزاك الله خيرا....
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق