أيها المهموم

هلال الهاجري
1445/02/07 - 2023/08/23 06:40AM

الحمدُ للهِ مُغيثِ المستغيثينَ، ومجيبِ دعوةِ المضطرينِ، ومسبلِ النِّعمِ على الخلقِ أجمعينَ، نعمُه تترى، وفضله لا يُحصى، إليه وحدَه تُرفعُ الشكوى، وهو المقصودُ في السرِ والنجوى، يجودُ بأعظمِ مطلوبٍ، ويعُم بفضلِه وإحسانِه كلَّ مرغوبٍ، سبحانَه وَسِعَ سمعُه ضجيجَ الأصواتِ، باختلافِ اللغاتِ، وتنوعِ الحاجاتِ، فأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، مجيبُ الدعواتِ، وفارجُ الكُرباتِ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أصدقُ العبادِ قَصدًا، وأكثرُهم لربه ذِكرًا، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وصحبِه ومن سارَ على نهجِه واقتفى أثرَه إلى يومِ الدينِ .. أما بعد:

هل تعلم أيُّها المهمومُ أنَّه ليسَ بينَكَ وبينَ ذهابِ همِّكَ إلا كلماتٍ مُباركاتٍ، ودَعواتٍ عَظيماتٍ .. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ، اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟، قَالَ: (أَجَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ).

يا عبدَ اللهِ .. للهمِّ ساعاتٌ، وللضِّيقِ أوقاتٌ، وللمرضِ لحظاتٌ، فلا تأسرُكَ الحسراتُ، واسمعْ لأجملِ الكلماتِ: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً، زارَ ابنُ عيينةَ رحمَه اللهُ رجلاً مريضاً، فقالَ: يا أبا محمدٍ ادعُ اللهَ لي، فقالَ: دعاؤك لنفسِك خيرٌ من دعائي لكَ، ألمْ تقرأ قولَه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)؟.

سيفتحُ اللهُ باباً كُنتَ تَحسبُهُ *** من شِدةِ اليأسِ لم يُخلقْ بمفتاحِ

كيفَ يهتمُّ من له ربٌّ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، وكيفَ يهتمُّ من له ربٌّ (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)، وكيفَ يهتمُّ من يتلو قولَه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)، وكيفَ يهتمُّ من يؤمنُ بقولِه سبحانَه: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)، فإن كانَ اللهُ سبحانَه معكَ، كانَ معكَ القويُ القَديرُ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ في السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأرْض)، وإن كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ معكَ، فمعكَ العليمُ الحكيمُ: (فمَا ظَنكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ)، وإن كانَ اللهُ تعالى معكَ، كانَ معكَ الرَّؤوفُ الرَّحيمُ: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)، وصدقَ القائلُ:

يا شاكياً هَمَّ الحياةِ وضيقَها *** أبشِرْ فربُّك قد أبانَ المنهجَا

مَن يتَّقِ الرحمنَ جلَّ جلالُهُ *** يجعلْ له مِن كلِّ ضِيقٍ مُخرجَا

فيا من أُبتليَ بغَمٍّ، كيفَ تَغفلُ عن قولِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، واللهُ سبحانَه بعدَها يقولُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، ويا من أُبتليَ بِضُرٍّ، كيفَ تغفلُ عن قولِ: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ‌ وَأَنتَ أَرْ‌حَمُ الرَّ‌احِمِينَ)، واللهُ تعالى بعدَها يقولُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ)، ويا من أُبتليَ بخوفٍ، كيفَ تَغفلُ عن قولِ: (حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، واللهُ عزَّ وجلَّ بعدَها يقولُ: (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)، ويا من أُبتليَ بمكرِ النَّاسِ، كيفَ تغفلُ عن قولِ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِ‌ي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ‌ بِالْعِبَادِ)، واللهُ تعالى بعدَها يقولُ: (فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُ‌وا).

دعِ المقاديرَ تجري في أَعنَّتِها *** ولا تبيتنَّ إلا خاليَ البالِ

ما بينَ غمضةِ عَينٍ وانتباهتِها *** يُبدِّلُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ

يقولُ ابنُ القيمُ رحمَه اللهُ: (لو كَشفَ اللهُ الغطَاءَ لِعبدِه، وأظهرَ له كيفَ يُدبِّرُ له أمورَه، وكيفَ أن اللهَ أكثرُ حِرصاً على مصلحةِ العبدِ من نفسِه، وأنَّه أرحمُ به من أمِّه، لَذابَ قلبُ العبدِ محبةً للهِ، ولتقطَّعَ قلبُه شُكراً للهِ)، وصدقَ سبحانَه: (فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، فليسَ خيراً فقط، بل قد يكونُ فيما تكرَهه خيراً كثيراً كثيراً كثيراً.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ِّذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ فارجِ الهمِّ، وكاشفِ الغمِّ، مجيبِ دعوةِ المضطرِ، فما سألَه سائلٌ فخابَ، يسمعُ جهرَ القولِ وخفيَ الخطابِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحدُ القهارُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه النبيَّ المختارَ، الرسولَ المبعوثَ بالتبشيرِ والإنذارِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، صلاةً تتجددُ بركاتُها بالعشيِّ والأبكارِ .. أما بعد:

فيا من ضاقتْ عليه الدُّنيا بما رَحُبتْ، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، ويا من أنوارُ الحياةِ في عينِه أظلمتْ، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، ويا من ظُلِمَ ولم يجدْ له ناصراً، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، ويا من تراكمتْ عليه الدُّيونُ، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، ويا من فقدَ الأحبابَ، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، ويا من أُوصدتْ في وجهِه الأبوابُ، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي).

أخي المكروبُ .. الدنيا مليئةٌ بالمصائبِ والابتلاءاتِ، فمن مِنَّا لم يخالجُه همٌّ ولا حُزنٌ، فلا مَفرَ من الهمومِ والغمومِ، ولكن لا تنسَ أن ما أصابَك هو تكفيرٌ لذنوبِك ورفعٌ لدرجاتِك، فربُّنا عزَّ وجلَّ إذا أحبَّ عبداً ابتلاه، وما ابتلاهُ إلا ليسمعَ تضرعَه وشَكواه، فيا من تقطعتْ به الأسبابُ، وأُغلقتْ في وجهِه الأبوابُ، اقرعْ أبوابَ السَّماءِ، وألحَّ على اللهِ بالدُّعاءِ، بُثَّ إليه شكواكَ، وأحسنْ الظنَّ بمولاك، فما خابَ من رجاهُ، ولا رُدَّ من دعاهُ، فمَنْ لنا غيرَ اللهِ جلَّ جلالُه نستأنسُ بنجواه، فناجِ ربَّك في الأسحارِ، وانكسرْ بين يدي العزيزِ الغفارِ، وأبشر بانفراجِ الهمِّ والخيرِ المدرارِ.

عَسَى مَا تَرَى أَنْ لَا يَدُومَ وَأَنْ *** تَرَى لَهُ فَرَجًا مِمَّا أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ

عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللهُ إِنَّهُ *** لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ

إذَا اشْتَدَّ عُسْرٌ فَارْجُ يُسْرًا فَإِنَّهُ *** قَضَى اللَّهُ إنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ

اللهمَّ فرجْ همَّ المهمومينَ، ونفسْ كربَ المكروبين، وأقضِ الدينَ عن المدينينَ، ويسرْ أمورَ المسلمينَ، اللهم اجعلْ لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً، ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً، ومن كلِّ مرضٍ شفاءً، ومن كلِّ دينٍ وفاءً، ومن كلِّ حاجةٍ قضاءً، ومن كلِّ ذنبٍ مغفرةً ورحمةً، اللهم أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا أخرتَنا التي إليها معادُنا اللهم انصرْ دينَك وكتابَك وسنةَ نبيكَ محمدٍ وعبادكَ الصالحينَ، اللهم ارحمْ المنكوبينَ والجوعى والخائفينَ والمظلومينَ، اللهم ثبتْ قلوبَنا على الإيمانِ، ربنا هبْ لنا من أزواجِنا قرةَ أعينٍ، واجعلنا للمتقينَ إماماً، اللهم أصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وآمنَّا في أوطانِنا ودورِنا، اللهم اشفِ مرضانا وارحم موتانا وبلغنا مما يرضيكَ آمالَنا، واختم بالباقياتِ الصالحاتِ أعمالَنا.

المرفقات

1692762383_أيها المهموم.docx

1692762391_أيها المهموم.pdf

المشاهدات 2946 | التعليقات 0