أية الرحمة

محمد سعيد الهاشمي
1436/03/22 - 2015/01/13 16:25PM
أية الرحمة
20/2/1436هـ

الخطبة الأولى
فاتقوا الله تعالى وراقِبوه، ولا تركَنوا إلى الدنيا وزينتِها، فإنّ الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة أجلٌ صادق، يحكم فيها ملِك قادر، يفصل بين الحقّ والباطل عدلاً وعلمًا.
في زمن الإحباط واليأس، في سنواتِ الشدّة والبأس، في عصر تقلُّبات القيَم ولا أخلاق في عصر تقلُّبات والموازين، وفي أوقاتِ نَكس المبادئ والمفاهيم، في ساعات قعقعةِ السّلاح واسترخاص المُهَج والأرواح، في زمنِ قهرِ الأقوياء للضعفاء واستطالة الأغنياء على الفقراء , في زمنِ عقوق الأبناء الأبائهم وأمهاتهم في زمن هجر الأخ لأخيه ,في زمن كيد الصاحب لصاحبه، في موج هذه الحضارة ولُجَجِها، ما أحوجَ الأممَ إلى أن يرسوَ مركبُ حضارتِها على ضِفاف المبادئ النبيلة، ويستوي فلكُها على جوديّ القيَم السامية الجميلة .
لما استُلِب من الحضارة لبُّها وفقدت روحَها وجوهرَها، لما غُيِّبت كثير من القيَم والأخلاق، حينئذ جفّت الحياة وصوَّح نبتها، واكتأبت النّفوس وعلا بثُّها.
أردت أن ننتقل من هجير هذه الحياة القاسية , الحياة بلا رحمة قاسية صحراء وبيدا لا تجد فيها إلا سراباً أو صور السراب حتى إذا جئته لم تجد عنده ماء .
أردت أن نفر من هجير هذه الصحراء إلى رحمة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه ربه وخلع عليه من رحمته ما لم يخلع على أحد من العالمين .
محمد صلى الله عليه وسلم أية الرحمة وعنوانها حين تقرءا وتتأمل سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تجدْها ملأ بكريم الصّفات وجميلِ الأخلاق والمبادئ مُثلاً وتطبيقًا، ولأجل ذلك كانت حضارةُ المصطفى عليه الصلاة والسلام هي الحضارة التي أسعدت العالَم .
إن نبينا عليه الصلاة والسلام بعث رحمة للعالمين ثبت عنه صلى الله عليه وسلم برا رحيما
محمد صلى الله عليه وسلم في حالكة الظروف يصب عليه سل الجزور ويلقى من قهر الرجال مايستعيذ منه الرجال ثم يبقى ساجدا وعلى ظهره سل الجزور ويقول: ((اللهمّ اغفِر لقومي فإنّهم لا يعلمون)) تتقاطر نفسه رحمة .
ولمّا ضيَّق عليه أهل مكّة الخناقَ وآذوه وعذّبوا أصحابَه، ثم طاردوه وطردوه، وقاتلوه وحاولوا قتلَه، وقتلوا أصحابَه في أحُد، وأدمَوا وجهَه الشريف، في أصعب المواقف تطيش الرحمة أحياناً عن قلوب الرحماء .
فكان يمسَح الدمَ عن وجهه ويقول: ((اللهمّ اغفِر لقومي فإنّهم لا يعلمون) تتقاطر نفسه رحمة .
عباد الله بهذه الرحمةِ والشفقة بُعثَ نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، وبهذا العطف والرأفة عامل الرسول الرحيمُ خصومَه وأعداءَه كما عامَل بالرحمة أصحابَه.
الرّحمة صفةٌ من ؟ صِفة المولى جلّ وعلا، فهو الرحمن الرحيم، وهو الرءوف بعباده، وهو اللطيف بخلقِه، وقد بعث بها رسولَه الكريم، (وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ) [الأنبياء:107].
وجاء بشريعةِ الإسلام على هذا المقتضى، (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة:128].
لقد كان يشقّ عليه ويعزُّ عليه ما يشقّ على أمّته، فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا.
وكم من موقفٍ قال فيه: لولا أن أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بكذا أو لفعلت كذا.
ولقد كان يدخُل في الصّلاة يريد إطالتَها فيسمع بكاءَ الصبيّ، فيتجوّز في صلاتِه مخافة أن تفتتن أمّه .
أيّها الكرام الرحمةُ رقَّة وعطفٌ وشفقة ولُطف وحنان ومروءة.
الرحمةُ مشاعر تقوم بالقلبِ الرحيم، وعواطفُ تجيش من الفؤاد الكريم، صفةٌ من صفاتِ الأنبياء ودليلُ كمال الإيمان وحسنِ الإسلام، (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) [الفتح:29].
الرحمةُ تثمِر الألفةَ والمحبّة بين الخلق، وهي سعادةٌ في القلب وطريق إلى الجنة، وفي الحديث: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسِط متصدِّق موفَّق، ورجل رحيم رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وضعيف متعفِّف ذو عيال)) رواه مسلم .
الرّحمة ترقِّق القلب، فيرحمُ مَن دونَه حتى البهائم والطيور،
ومَع أنَّ رحمة الخلقِ جالبة لرحمة الله للعبد ففي الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء)) .
فإنّها صفة هذه الأمة ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفِهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضو تداعى سائر جسده بالسهر والحمى)) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك فإنَّ الذي لا يرحم لا يُرحم كما نطق بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وأمّا الرّحمة في الحُكم والتّشريع فبابٌ يطول، فالشّريعة كلّها رحمة، رحمةٌ في مقاصدها وتطبيقاتها ووسائلها وغاياتِها.
عباد الله هذه هي الرّحمة التي بُعِث بها سيّد البشر صلى الله عليه وسلم وهذا هو ديننا، دين الرّحمة والتّراحم في السّلم وفي الحرب، مع الأعداء والأصدقاء، مع الحيوان والطير, رحمة في العبادة والتّعامل والحُكم، ورحمة في كلّ تفاصيل التشريع، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا بَعث أهلُ مكّة في فداء أسراهم بعثت زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجِها أبي العاص بمالٍ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حينَ بنى عليها، قالت: فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقّةً شديدة وقال: ((إن رأيتم أن تطلِقوا لها أسيرَها وتردّوا عليها الذي لها فافعَلوا))، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردّوا عليها الذي لها
تقِف العبارات حائرةً والتعابير قاصِرة عن الإحاطة بوصف رحمةِ أكرمِ الخلق على الله.
لقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتلمَّس العذرَ لقومه وهم يريدون قتلَه، ويشفِق عليهم وهم يحاربونه، يريد هدايتَهم وإسعادَهم، بينما يدَّعي الرحمةَ فاقدوها الذين يتلمّسون الأعذارَ للبطش، ويختلقون الأكاذيبَ للحرب والقتلِ والفساد والتدمير، ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) [البقرة:11، 12].
عباد الله إنّ الإنسان لم يتميّز بجسمه وقوّته، فمِن المخلوقات ما هو أشدّ منه قوّة وخلقًا، بل ميزته بقلبه وروحِه وعقلِه ومشاعره، وليس فخرًا أن يكون الإنسان غليظًا شديدًا، بل الفخرُ أن يسموَ بخُلقه، وأن يعلوَ بطبعه.
الرحمةُ ليست ضعفًا وخَوَرًا، بل هي في موضعِها سموّ ورقيّ وعظمة وجمال، تتمثَّل فيها أحسنُ جوانب الإنسانية المشرِقة، من اللّطف والعطف والرّقّة والحنان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية
فتخلَّقوا بأخلاق نبيّكم الزّكيّة، وتمسّكوا بمبادئ دينكم الرضيّة، يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأمْرِ) [آل عمران:159].
عباد الله الرحمةُ تواضعُ النّفس وكسر الكبرياء.
الرحمةُ بذل المعروف والإحسان ومواساةُ المحتاج وصِلة الأرحام.
الرحمةُ تعني العطفَ على الضعفاء والمرضى وذوي الإعاقات واليتامى والمحرومين بمساعدتِهم وإسعادِهم وإدخال السرور على قلوبهم.
الرحمة مقتضاها نصرةُ المظلوم وردع الظالم والأخذ على أيدي السفهاء.
الرحمة تعني الاهتمام بشؤون المسلمين وأن تعيشَ قضاياهم وتشاركَهم آلامهم وآمالهم وتغيثهم.
وغاية الرّحمة الأمرُ بالمعروف والنّهي عن المنكر ودعوة المسلمين وتعليمُهم .

المشاهدات 2579 | التعليقات 0