أياماً معدودات
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي فَضَّلَ شَهرَ رَمضانَ على غَيرِهِ من الأزمانِ، وأَنزلَ فِيهِ القُرآنَ هُدَى للنَّاسِ وبَيِّناتٍ من الهُدى والفُرقانِ، أَحمدُه سُبحانَه وأَشكرُه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أن نَبيَّنا مُحمداً عَبدُه ورَسولُهُ، الذي كَانَ يَخُصُّ رَمضانَ بِمَا لا يَخصُّ غَيرَه مِنْ صَلاةٍ وتِلاوةِ قُرآنٍ، وصَدقةٍ وبِرٍّ وإحسانٍ، اللهمَّ صَلِّ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه الطَّاهرينَ الذين آثروا رِضَا اللهِ على شَهواتٍ نُفوسِهم فَخَرجوا من الدُّنيا مَأجورينَ، وعَلى سَعيِّهم مَشكورينَ، وسَلمَ تَسليماً كَثيراً إلى يَومِ الدِّينِ، أما بَعدُ:
فتَقوى اللهِ تَعَالى، هِيَ وَصيتُه لعبادِهِ الأولينَ والآخرينَ، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، جَعلني اللهُ وإيَّاكم مِن عِبادِهِ المتقينَ.
عِندَما فَرَضَ اللهُ تعالى على هَذِهِ الأمَّةِ صِيامَ رَمضانَ، بِقَولِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، قَالَ بَعدَها: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، كَلِمتانِ، ولكنْ فِيهِما البلاغةُ والإعجازُ والبَيانُ، ولا غَرابةَ فإنَّه القُرآنُ وما أدراكَ ما القُرآنُ، ولذلكَ عِندَما طَلبَ العَربُ الآياتِ والمُعجزاتِ، كما جَاءَ بِها الأنبياءُ للأُممِ السَّابقاتِ، أجابَهم رَبُّهم: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، بلى واللهِ، ولقد أَحسنَ أَحمدُ شَوقي عِندَما قَالَ:
جــَاءَ النَّبيُّونَ بالآياتِ فَانصَرَمتْ *** وجِـئتَنا بحَكـيمٍ غَيرِ مُنصَرمِ
آياتُهُ كُلَّمَا طَـالَ المَـدى جُدُدٌ *** يُزَينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ والقِدَمِ
فَتَعالوا نَطوفُ حَولَ هَاتينِ الكَلمتينِ: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، ونَنظرُ ما فيهما من الجَواهرِ والدُّرَرِ، وما تَحتويهِ من المَعاني والعِبرِ، ولماذا وَصفَ اللهُ شَهرَ رَمضانَ، بأنَّه أيامٌ مَعدوداتٌ في القُرآنِ؟، وهل تَختلفُ الأيامُ والسَّاعاتُ في هذا الشَّهرِ، عَن غيرِه من شُهورِ السَّنةِ والدَّهرِ؟، تَعالوا في رِحلةٍ إيمانيةٍ للتَّدبرِ والعملِ.
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) قَليلاتٍ ليستْ كَثيراتٍ، تَيسيراً وتهويناً من ربِّ العالمينَ، لأنَّ الصِّيامَ شاقٌّ على كثيرٍ من المُسلمينَ، فقَبلَها قَالَ: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، تَسهيلاً للأمَّةِ بأنَّه قد فُرضَ على الذينَ مِن قَبلُ فصاموا، وبعدَها قَالَ: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، تَخفيفاً على أصحابِ الأعذارِ، كُلُّ ذلكَ تَمهيداً ورأفةً بعبادِه المؤمنينَ، ثُم يَختِمُ بقَولِه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، ولو أَمرَ بالصِّيامِ فقط لَوَجبَ الوَفاءُ، ولكنَّها الرحمةُ التي وَسِعَتْ الأشياءَ.
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) يَسيراتٍ قَصيراتٍ، وهكذا هو رَمضانُ دونَ سائرِ الشُّهورِ، سريعُ المُرورِ، يَسيرُ العُبورِ، فما إنْ يَبدأُ، حتى يَنتصفَ، فإذا بهِ قد انتهى، حَثيثُ الانقضاءِ، وَشيكُ الانتهاءِ، لا يَنتظرُ التَّسويفَ والتَّأخيرَ، ولا يَحتملُ التَّواني والتَّقصيرَ، مَن صَدقَ فيهِ يُعانُ على الخَيرِ: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ)، ومَن تَكاسَلَ عَنهُ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن العالمينَ: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ اللَّـهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ).
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تأتي العَزائِمُ *** وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها *** وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) سَريعاتٍ عَجولاتٍ، يَنقضي فيها سَريعاً التَّعبُ والسَّهرُ، ويَعقِبُه بَعدَها فَوراً الثَّوابُ والأجرُ، تَوَفَرتْ فيها أسبابُ مُضاعفةِ الحسناتِ، ورَفعِ الدَّرجاتِ، ومَغفرةِ السَّيئاتِ، فيا ويلَ من لم يُغفرْ له في رمضانَ، فَقد دعا عليهِ الرَّسولانِ، قَالَ جِبريلُ عليهِ السَّلامُ: يَا مُحمدٌ، مَنْ أَدركَ شَهرَ رَمضانَ، فَمَاتَ، فَلم يُغفرْ لَهُ، فَأُدخلَ النَّارُ، فَأبعدَهُ اللهُ، قُلْ: آمينَ، فَقَالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: آمينَ.
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، ونَفعني وإياكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ، فاستغفروه وتوبوا إليهِ، إنَّه هو التَّوابُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي هَدانا للإسلامِ ووفقنا لإدراكِ شَهرِ الصيامِ والقيامِ، أَحمدُه سُبحانه في البِدءِ والخِتامِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خَيرِ من صَلى وصَامَ، وعَلى آلِه وصَحبِه الكِرامِ، أَما بَعدُ:
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ولم يَقلْ لياليَ مَعدوداتٍ، لأنَّ في هذهِ الأيامِ المَعدوداتِ، ليلةً هي خَيرٌ من ألفِ شهرٍ، فيها البَركةُ والإحسانُ، وفيها العَفو والغُفرانُ، فِيها تَتنزَّلُ الملائكةُ وجِبريلُ، وفِيها السَّلامُ والخيرُ الجَزيلُ، العبادةُ فِيها لساعاتٍ مَعدوداتٍ، تُعادلُ أُجورَ عَشراتِ السَّنواتِ، وقِيامُها إيماناً باللهِ واحتساباً للأجرِ، يُغفرْ له كلُّ ما كانَ مِن ذُنوبِ الدَّهرِ، مَن فاتَهُ خَيرُها فهو المُحرومُ حقَّاً، كما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صِدقاً: (وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ).
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) واعظاتٍ ناصحاتٍ، تُذكِّرُنا بأنَّ أعمارَنا أياماً مَعدوداتٍ، تنقضي سَريعاً كأيامِ رمضانَ القَليلاتِ، فكما تنتهي هذه الأيامُ بظهورِ هِلالِ شوالٍ، فيُوشكُ أن يأتيَ دَاعيَ اللهِ وتَنقضيَ الآجالُ، وهكذا هي حياةُ الإنسانِ قَصيرةٌ جِدَّاً، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، بل هل تُصدِّقونَ أنَّ الأمرَ أقلُّ من ذلكَ، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ)، فلا إلهَ إلا اللهُ، ما أعظمَها من غَفلةٍ، فَخُذْ الحَذَرَ، وتأهبْ للسَّفرِ، واستيقظْ من السُّباتِ، قبلَ أن يُقالَ فُلانٌ ماتَ.
اللهمَّ أَيقظنا من سُباتِ الغَفلاتِ قَبلَ المَماتِ، اللهمَّ كَما هَديتَنا للإسلامِ، فثبتنا عَليهِ حَتى نَلقاكَ، اللهمَّ تَقبلْ منَّا الصيامَ والقيامَ، ووفقنا فيما بَقيَ من الليالي والأيامِ، اللهم استعملنا في طَاعتِكَ وثَبِّتْ قُلوبَنا على دينِكَ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ الجنةَ ومَا قَرَّبَ إليها من قَولٍ أو عَملٍ، ونَعوذُ بكَ من النَّارِ وما قَربَ إليها من قَولٍ أو عملٍ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تَقواها، وزكِّها أَنتَ خَيرُ من زَكَّاها، أَنتَ وَليُها ومَولاها، اللهمَّ اعتقْ رقابَنا ووالدينا والمُسلمينَ من النارِ.
المرفقات
1649804323_أياماً معدودات.docx
1649804335_أياماً معدودات.pdf