أَيَّامَاً مَعْدُودَاتٍ

يوسف العوض
1439/09/01 - 2018/05/16 11:23AM
الخطبة الأولى:
عباد الله :  قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) في هذه الأيام المعدودات سنشهد السباق السنوي المعتاد في انتكاس السلوكيات، في أيام معدودات سيبدأ التنافس الماراثوني للمتاجر والبقالات وامتلاء العربات والركض وراء التخفيضات، في أيام معدودات تنطلق المساومات للاستحواذ على العاملات المنزليات، في أيام معدودات يبدأ تتبع الأسواق والجديد من الماركات ، في أيام معدودات سيغلق الزحام الشوارع ومعظم الإشارات ، في أيام معدودات نجد الزحام على محلات الخياطين والخياطات ، في أيام معدودات تنتشر الرسائل والمكالمات لدعوة المقربين والمقربات ، وينطلق أعظم استعراض للموائد باختلاف تنوع المشروبات والمأكولات ، في أيام معدودات تتهافت المشاهدات على القنوات والفضائيات لمتابعة البرامج والمسابقات والمسلسلات ، كل هذا مع الأسف في رمضان سيد الشهور ودرة الدهر وبركة الزمان والله المستعان !!أيها المؤمنون تأملوا  في قوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} فيها كناية عن قلة أيامه ويسرها، فالمغبون من فرط في تلك الأيام دون جد أو تحصيل وسيدرك غبنه حين يقول: {يَا حَسْرَ‌تَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّ‌طتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ}  و {ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} فهي أيام قليلات سريعات يكرم فيها المقبل الطائع ويهان فيها المدبر الضائع فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر !
عباد الله: إنه من رحمة المولى عز وجل بنا أن فرض علينا صيام رمضان وجعله تزكية لنا وتطهيرا لنفوسنا من خبثها وأدرانها وشهواتها، فالنفس البشرية تتأرجح وتتمايل بين الخير والشر، وهي في الأصل نقية موحدة تركن للخير حسبما خلقها الله عز وجل وصبغته الأولى التي فطرنا عليها وسوى نفوسنا وهداها لتقواه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
أيها المؤمنون:ومن حكمته جل وعلا التي سرت وجرت على خلقه أن يمتحن هذه النفوس التي جبلها على الخير وكرمها عن سائر المخلوقات بالعقل والتمييز لخوض مسالك الحياة والتفكر والتدبر فيها، لتقودنا إلى الحقيقة الرئيسة التي يبتغيها بارئنا، وهي عبادته، ولتزكية هذه النفس فرض علينا خمسة أركان لنكون مسلمين موحدين متبعين دينا قيما ورسولا مبشرا وخالقا أوحدا، وأولها القاعدة الأساسية المتينة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وهي تصريح لبناء أربعة أركان متبقية لمبنى الشخصية المسلمة، قد تتخلخل أحيانا ولكن تعود إلى سالفها بصيانتها وترميمها على الدوام فالصلاة راحة للنفس ناهية عن الانحرافات السلوكية كالمنكرات والبغي والزكاة بركة للمال شارحة للحال، وصوم رمضان هداية لاعوجاج النفس عن صواب طريقها، وتحسين لوظائف الجسم «الفسيولوجية» وعلاج لمشاكل الجهاز الهضمي بكثرة تناول الأطعمة والمشروبات، فرمضان منشط رباني لمدة شهر كامل لاستقبال عام جديد يأتي بعده . ويعتبر منظفا لمفسدة الجسم «النفسية» ومثبطا لعللها التراكمية من الشهوات بنوعيها « الفعلية » كشهوة الجنس والمال والسلطة و«اللفظية » كالشتم والسب والغيبة والنميمة ، ويأتي خامس ركن وهو الحج الذي بأدائه الصحيح يمحو الله كل ذنب بجزاء ووعد رباني مآله الجنة.
عباد الله : صوم رمضان له مطلبان عظيمان جليلان، الأول: تغيير السلوكيات مع الذات ومع غيرها، وهو تصحيح وتأثير إيجابي يتجدد للعلل النفسية والجسدية ، وهذا ما يريده المولى عز وجل حيث قال تعالى «وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون»وهو وعد رباني بما سينعكس على نفوسنا من طمأنينة وراحة بال وعلى سلوكياتنا من حسن التعامل وصلاح الحال، بشرط أن نعزم ونستشرف سلفا ونستعين صدقا بالدعاء والتوكل على الله لتقويم وتقييم ذواتنا بعدة مراحل، والتفرغ لذلك وجعله هدفا أسمى.والمطلب الثاني هو ما يريده الله عز وجل من البشر كسلوكيات نتعامل بها مع قدسية رمضان لإتمامه ونيل القبول فيه والفوز به، قال تعالى «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون»  أولا التيسير من المولى عز وجل لصوم الشهر بدون أي تكليف لمن لا يستطيع الصوم ثانيا إكمال عدد أيام الصوم لشهر رمضان إكراما له، ثالثا ذكر الله الدائم وتكبيره على هدايته وفرضه للصيام رابعا الشكر على نعمه وآلائه الدائمة علينا، خامسا هو الشهر الذي تنزل فيه القرآن واختصه الله بذلك تكريما وإجلالا له، والفضل الجزيل لقراءة ومدارسة القرآن في أيامه ولياليه.فهي أيام معدودات يسرها لنا الخالق عز وجل لإتمامها رحمة بحالنا وغفرانا لذنوبنا وعتقا لنا من النيران فاللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
الخطبة الثانية:
عباد الله: رمضان شهر مغنم وأرباح .. فيا سعد من غنم فيه وربح، واكتسب في تلك الأيام المعدودات صفات الصالحين وأخلاق المؤمنين وثواب العابدين، لكي يرتقي في مدارك المتقين.
وهذا التعبير (أياماً معدودات) يشعرنا بسرعة رحيل تلك الأيام، ليكون في ذلك حثًا لنا على اغتنام أيام رمضان واستغلال كل لحظة فيها في طاعة أو عبادة من صلاة وصيام وقيام وتلاوة القرآن والأمر يحتاج إلى بصيرة بحيث نتدرب على معرفة قيمة اللحظات وسرعة مرورها. وتلك الأيام المعدودات تذكرة لنا بأن مكوثنا في هذه الدار الدنيا محدود بمده وزمن إذا انقضى فلا رجوع.
فاغتنموا شهر رمضان بأيامه المعدودات بمحاسن الأخلاق والمعاملات مع عباد الله ، وعمروها بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والذكر، والعفو عن الناس والإحسان، وأزيلوا العداوة والبغضاء والشحناء بينكم واحرصوا على الدعاء عند الإفطار، فإن للصائم عند فطره دعوة لا ترد ، فنسأل الله التوفيق والقبول والصفح والغفران .
المشاهدات 6207 | التعليقات 0