أولياء الله تعالى
صالح عبد الرحمن
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، وفَّقَ من شاءَ لطاعتِه، وصدَّ من شاءَ عن معصيتِه، أهل المغفرةِ والتَّقوى، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً، وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً، له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الثَّرى، نعمَهُ لا تُحصى، وآلاؤهُ ليسَ لها مُنتهى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، أخشى النَّاسِ لربِّه وأتقى، دلَّ على سَبيلِ الهدى، وحذَّرَ من طريقِ الرَّدى، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، معالمِ الهُدى، ومَصابيحِ الدُّجَى، والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِهم واقتفى، أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)
جاءَ في الحَديثِ القُدُسيِّ: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، ولايَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ)،
اللهُ أَكبرُ، ما أَعظَمَهُ مِن فَضلٍ أن يُسَدِّدَكَ اللهُ تَعالى في سَمعِكَ وبَصَرِكَ ويَدِكَ ورِجلِكَ، ويَستَجيبُ دُعاءَكَ إذا سَألتَ، ويَكفِيكَ مَا يُؤذِيكَ إذا استَعذتَ.
هَؤلاءِ لَيسَ لَهُم قُدُراتٌ خَارِقةٌ، أو إِمكَانيَاتٌ سَاحِقَةٌ، فَهُم لا يَطيرونَ في الهَواءِ، ولا يَمشونَ عَلى المَاءِ، وإنما هُم قَومٌ وَصَفَهم اللهُ تَعالى بِقَولِهِ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، فإنمَا هُو الإيمانُ والتَّقوى، في الجَهرِ والنَّجوى، والقِيامُ بِفَرائضِ العِبادَاتِ، والمُحَافظَةُ على نَوافلِ الطَّاعَاتِ، فَيَحتَاجُ الإنسانُ أَن يتَرقَّى في دَرَجَاتِ العِبَادةِ، حَتى يَصِلَ إلى أَعلَى مَقَاماتِ السَّعَادةِ، يَقولُ أحد السلف لو قيل لي: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ عَلَى الْبَابِ مَا كَانَ عِنْدَي زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ.
أَيُّها الأحبَّةُ .. لا بُدَّ أَن نَعرِفَ أَن النَّاسَ عِندَ اللهِ عزَّ وجلَّ مَقامَاتٌ مُتَفَاوتةٌ، وَقَد اختَارَ مِنهُم أَصحَابَ المَقَامِ الرَّفيعِ، وَأَهلَ الخَيرِ الوَسيعِ، القَائمِينَ بِمَا يُحبُّهُ اللهُ مِن الأقوالِ والأفعَالِ، المَحفُوظينَ بِحفِظِ اللهِ الكَبيرِ المُتَعالِ، فَهو مَعَهم ولا حُزنَ لَهم ولا خُوفَ، ويَعصِمُهُم فِي أَحلِكِ الظُّروفِ، وتَأَملوا عِندَمَا أُغلِقَ عَلى يُوسفَ البَابُ، كَيفَ جَاءَهُ البُرهانُ مِن رَبِّ الأربابِ: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ).
هَلْ أَنتَ مِن أُولئكَ الذينَ أَعَانَهُم اللهُ تَعالى عَلى استِثمَارِ الأَوقاتِ، واغتِنَامِ الصَّحةِ والفَراغِ والشَّبابِ والحَياةِ، يَقولُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: مَا أَتَيْنَا سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا إِلَّا وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا، إِنْ كَانَ فِي سَاعَةِ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاعَةَ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُتَوَضِّئًا، أَوْ عَائِدًا مَرِيضًا، أَوْ مُشَيِّعًا لِجِنَازَةٍ، أَوْ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخبِرني عِندَما تَفتَحُ عَينَيكَ مِنَ النَّومِ، مَاذا يَخطُرُ بِبَالكَ، هل تحمدُ اللهَ أن أحياكَ يوماً تزدادُ به خيراً وطاعةً؟، وتتقرَّبُ به إلى اللهِ ساعةً بعدَ ساعةٍ؟، وتقولُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ)، كانَ الرَّبيعُ بنُ خُثيمٍ إذا أصبحَ قالَ: مرحباً بملائكةِ اللهِ، اكتبوا، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ: سبحانَ اللهِ والحمدُ اللهِ ولا إلهَ إلا اللهُ واللهُ أكبرُ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)، عِندَمَا تَكونُ مَعَ اللهِ فِي سَكَنَاتِكَ وحَركَاتِكَ، بَل وَأَنفَاسِكَ وخَطَراتِكَ، فَإنَّكَ سَترى الحياةَ بِألوانٍ، لا يَستَطيعُ وَصفُها اللِّسانُ.
اللهم وفِّقنا لما تُحبُّ وتَرضى، واجعلْنا أئمَّةً مُهتدينَ، اللهمَّ وفِّقنا للخيرِ وجَنِّبا الشَّرَّ يا ربَّ العالمينَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمؤمنينَ والمؤمناتِ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّها المُبَاركُ .. هل تُلاحِظُ في أَعمالِكَ وأَقوالِكَ، في لَيلِكَ وَنَهارِكَ، أنَّكَ مِفتَاحٌ لُكلِّ خَيرٍ، تَنفعُ نَفسَكَ وَيَنتفعُ بِكَ الغَيرُ، فَتَكونُ مِمن قَالَ عَنهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ).
هَل أَنتَ مِن أَولياءِ اللهِ الذينَ يُحِبُّونَ الإيمانَ وَأَهلَه؟، وَيَكرَهُونَ العِصيانَ وَأهلَه؟، أَأَنتَ مِمنْ قَالَ اللهُ تَعَالى فيهم: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)، هَل تُحبُّ للمُؤمنينَ مَا تُحبُّ لِنَفسِكَ؟، تَفرحُ لأفراحِهم، وَتَحزنُ لأحزانِهم، تُشاركُهم المَشَاعرَ والإحساسَ، وَتَتَمنَّى السَّعادةَ لهم وَرَفعَ البأسِ، مُستشعراً قَولَه عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
فَيَا عَبدَ اللهِ، فَتشْ عَن نَفسِكَ، وانظر مَا الذي يَملأُ وَقتَكَ؟، تقرَّبَ إلى اللهِ بِتَقواهُ، كَرِّرْ سُؤالَ هُداهُ، (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، فَإذا هَدَاكَ وَاصطَفَاكَ، وَوَفَّقكَ واجتباكَ، وَسدَّدَ جَوارحَكَ، وَجَعَلكَ مِن أوليائهِ، حِيَنَها سيَطمَئنُ قَلبُكَ، وترتَاحُ نَفسُكَ، فَتَعيشُ سَعيداً، وتَموتُ حَميداً، وسَتَرى مَا قَالَه القَائلُ: (إنَّ في الدُّنيا جَنَّةً مَنْ لم يَدخلْها لم يَدخُلْ جَنَّةَ الآخرةِ).
اللهمَّ اجعلْنا ممن إذا أُعطيَ شَكرَ، وإذا أَذنبَ استغفرَ، وإذا اُبتليَ صَبرَ، اللهمَّ استعملنا في طَاعتِكَ، ولا تَستعملنَا في مَعصيتِكَ، اللهمَّ اجعلنا من عِبادِكَ المتَّقينَ، وحِزبِكَ المفلحينَ، وأوليائِكَ الصَّالحينَ،