(أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)
راكان المغربي
أما بعد:
في أواخر سورة الأنبياء، وبعد أن حكى الله لنا عن ثلة من أنبيائه ورسله، وأثنى على صالح أعمالهم في مختلف أحوالهم. ذكر الله لنا السمة المشتركة بين كل هؤلاء الأنبياء فقال سبحانه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)، فالمسارعة إلى الخيرات كان دأب الأنبياء وعادتهم في كل أحوالهم.
وحين قص الله لنا عن صالحي الأمم من قبلنا، ذكر الله هذه السمة كذلك فقال سبحانه: (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).
وعندما ذكر الله لنا أقسام هذه الأمة جعل أعلى المراتب فيها لمن هذا حالهم فقال سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)
إذا فالمسارعة إلى الخيرات هي السمة المشتركة بين الصالحين في كل زمان وكل مكان.
فهل لكم يا عباد الله في الدخول في مضمار السباق، ومزاحمة المتسابقين، والسعي للحاق بهم؟
في هذه الخطبة سنكبر العدسة على مضمار السباق، نتأمل في بعض معالمه، ونذكر بعض أحوال رواده، عسى أن يتقد فينا الحماس، فنشد العزم، وندخل المضمار.
وأول ما يجب أن يلفتنا في مضمار السباق هو وجهة المتسابقين، فإلى أين يتجهون؟ وإلام يتسابقون؟
إنهم يسارعون إلى ما أمرهم الله بالمسارعة إليه، كما قال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). فلأنهم يتعثرون في السباق وترهقهم الذنوب فهم يسارعون إلى أن يغفر الله لهم ذنوبهم، فبمجرد سقوطهم وتعثرهم يسرعون إلى الأوبة والتوبة، ويقومون إلى السباق كأن لم يتعثروا من قبل. إنهم يرون بأم أعينهم عاقبة ذنوبهم حين تحرمهم الطاعة، وتجلب لهم المصائب، وتغرقهم في الهموم والغموم في الدنيا، وتعرضهم للعذاب في الآخرة، فيسارعون إلى مغفرة الله ليخفف عنهم الأحمال، ويرفع عنهم الأثقال، فتصفو قلوبهم، وتطهر نفوسهم.
ويسارعون إلى جنة عرضها السموات والأرض، يسارعون إلى ذلك المكان ليسمعوا ذلك النداء (إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا فَذلكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}).
أخي
هل أعجبتك مباهي الدنيا وزينتها التي يتهافت الناس عليها سراعا؟!
أموالها الثمينة، وبساتينها الزاهرة، وثمارها اللذيذة، وشلالاتها المنهمرة، وقصورها الفارهة، ومجوهراتها اللامعة.
كل ذلك وغيره من نعيم الدنيا، إذا قارنته بموضع سوط من الجنة فقط، سيكون ذلك الموضع أحلى وأجمل وأروع وأبهى. قال صلى الله عليه وسلم: (لموضعُ سوطٍ في الجنةِ خيرٌ مِن الدنيا وما فيها).
فأي الوجهتين أحق بالسباق؟!
قال العليم سبحانه يعلمنا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
وحين تتأمل في مضمار السباق، تجد أن القوم لا يتسابقون بأقدامهم، ولا بمراكبهم، وإنما يتسابقون بقلوبهم، فهي التي تقود أرواحهم وأجسادهم إلى رضوان الله، يتجهون إلى الله حبا ورغبا ورهبا، زينتهم الإخلاص، وزادهم التقوى. قال يحيى بن معاذ: "مَفَاوِزُ الدنيا تُقْطَعُ بِالْأَقْدَامِ، وَمَفَاوِزُ الآخرة تُقْطَعُ بِالقلوب".
في مضمار سباق القلوب لن تستغرب أن تجد متسابقَين اثنين وصلوا إلى نفس المنزلة، أحدهما جاهد في سبيل الله، وواجه المخاوف، وتعرض للأخطار حتى كتبت له الشهادة. والآخر مات على فراشه بين أهله وأحبابه وأمواله. وذلك لأن كلاهما سابق بقلبه إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن سَأَلَ اللَّهَ الشَّهادَةَ بصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ، وإنْ ماتَ علَى فِراشِهِ).
ولن تستغرب أن تجد في جموع المنحرفين عن السباق، رجل أمضى حياته في كتاب الله حفظا وتعلما وتعليما، ورجل جاهد حتى قتل، ورجل أنفق ماله حتى أفناه في الخير. ستجدهم في خارج السباق لأنهم لم يسابقوا بقلوبهم إلى الله، وانحرف بهم المسير، فلم يصلوا إلى مغفرة الله ولا إلى جنته، وإنما وصلوا إلى ما أرادوا من الرياء والسمعة، سابقوا إلى حيث يقال لهم فلان قارئ أو فلان جريء أو فلان جواد، أولئك الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرةَ أولئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلقِ اللهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ).
وفي ذلك المضمار ستجد مسارات متعددة للخيرات، فهم لا يسارعون في الخير، وإنما يسارعون في الخيرات، فمنهم من يسارع في الصلاة، ومنهم يسارع في الصيام، ومنهم من يسارع في الإنفاق، ومنهم من يسارع في الدعوة، ومنهم من يسارع في الإحسان، ومنهم من يسارع في البر والصلة، ومنهم يضرب بسهم في كل مسار، ومنهم يسابق في هذه المسارات جميعا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: عن أبواب الجنة: (فمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهادِ، دُعِيَ مِن بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّدَقَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيامِ، دُعِيَ مِن بابِ الرَّيّانِ.
فقالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يا رَسولَ اللهِ، ما علَى أحَدٍ يُدْعَى مِن تِلكَ الأبْوابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوابِ كُلِّها؟ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ، وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ).
وفي ذلك المضمار ستجد أن السير مستمر لا يتوقف، دائم لا ينقطع، في رمضان وفي غير رمضان، قد يتباطئ حينا ولكنه لا يتوقف، يداومون على العمل كما كان حال النبي ﷺ الذي (كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)، والذي كان يقول: (إنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللَّهِ ما دَامَ وإنْ قَلَّ).
تلك هي بعض معالم المضمار. فإن اتقدت عزيمتك، واشتعلت همتك للدخول في أفراد المتسابقين، فأنصت إلى كلام ربك يصف لك حال المسارعين، ويبين لك السمات التي تحلّوا بها فسبقوا وفازوا. قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) فهم يحذرون عقبات الطريق، ويحثهم الخوف من العذاب على الإسراع في السير فرارا منه، وإقبالا على رضوان الله ومغفرته، ثم قال سبحانه: (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) فهم يتخذون من آيات الله الشرعية في كتابه، والكونية في مخلوقاته، زادا يتزودون به في الطريق، يتفكرون فيها فتذكرهم ربهم، وتلفتهم إلى مصيرهم. ثم قال: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) فالوجهة واضحة، والمعبود واحد، والغاية العليا ابتغاء وجه الله وحده، لا يشركون به شيئا، ولا يقصدون معه غيره، فلا ينحرفون عن المسير. ثم قال: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) فهم "يعطون من أنفسهم مما أمروا به، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك، ﴿و﴾ مع هذا ﴿قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أي: خائفة ﴿أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ أي: خائفة عند عرض أعمالها عليه، والوقوف بين يديه، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لعلمهم بربهم، وما يستحقه من أصناف العبادات."[1]وبذلك لا يتكلون على سابق أعمالهم ولو كثرت، فيتبعون العمل بالعمل حتى يلقون ربهم.
ثم قال سبحانه: (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) فهؤلاء هم المسارعون في مضمار الخيرات، وهؤلاء هم السابقون إليها. جعلنا الله وإياكم منهم.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن حياة الصالحين كلها سباق ومسارعة إلى مغفرة الله وجناته. وفي المواسم الفاضلة يحتمي السباق، ويشتد السير، وتتضاعف السرعات.
في مثل هذه الأيام من العشر الأواخر من رمضان كان سيد السابقين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يضاعف السرعة إلى الدرجة القصوى، فكان كما تقول عائشة رضي الله عنها: (يجتهِدُ في العشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتَهِدُ في غيرِها). لأنه كان يعلم أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ليلة ما هي إلا عشر ساعات تقريبا في زماننا ومكاننا هذا، عشر ساعات تعدل أكثر من ثلاث وثمانين سنة. الساعة الواحدة من تلك الليلة خير من مئة شهر، والدقيقة الواحدة خير من خمسين يوم. فمن يسبق بدقيقة واحدة فقد قطع مسافة شاسعة، فما بالكم بمن يسبق بالساعة، وما بالكم بمن يسبق بالليلة كلها؟!
إن هذا لهو الفوز العظيم، وإن فواته لهو الحرمان الكبير.
فاللهم إنا نسألك التوفيق والعون على مرضاتك، ونعوذ بك من الحرمان والخذلان.
اللهم بلغنا ليلة القدر، واكتب لنا فيها أوفر الحظ والنصيب.
[1] تفسير السعدي
المرفقات
1650543869_(أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).docx
1650543869_(أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).pdf