أَهَمِّيَّةُ بِنَاءِ الأُسْرَةِ فِي الإِسْلَامِ
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } النساء1 - 6
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً... } الرعد 38
قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ وَالْحَضِّ عَلَيْهِ، وَتَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ؛ وَهُوَ تَرْكُ النِّكَاحِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ...الخ.
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسِلَّمَ قَالَ: ( أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) مُتَّفَقِ عَلَيهِ
الزَّوَاجُ - رَحِمَكُمُ اللهُ - آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم 21 ]
فِي الزَّوَاجِ مُوَافَقَةُ الفِطْرَةِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ.
فِي الزَّوَاجِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، والسَّكَنُ وَالْأُنْسُ، والمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ.
فِي الزَّوَاجِ تَحْصِيلُ الَوَلَدِ، وَتَكْثِيرُ الأُمَّةِ.
فِيهِ غَضُّ البَصَرِ، وَإِحْصَانُ الفَرْجِ، وَحِفْظُ الأَنْسَابِ.
فِي الزَّوَاجِ تَحْقِيقُ الكَثِيرِ مِنَ المَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِلْفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ.
عِبَادَ اللهِ: وَعَقْدُ النِّكَاحِ مِنْ أَعْظَمِ العُقُودِ؛ وَالوَفَاءُ بِهِ مِنْ أَوْجَبِ الحُقُوقِ؛ وَقَدْ عَظَّمَ الشَّرْعُ شَأْنَهُ، وَسَمَّاهُ مِيثَاقًا غَلِيظًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }[النساء 20]
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسِلَّمَ: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُـمْ أَخَـذْتُمُـوهُنَّ بِأَمَـانِ اللهِ، وَاسْـتَحْـلَلْتُـمْ فُـرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ ) رواه مسلم.
عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا رَغَّبَ الإِسْلَامُ فِي الزَّوَاجِ؛ فَقَدْ جَاءَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَيهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ، وَاسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّهِ.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الاِسْتِقَرَارِ بَيْنَ الزَّوجَينِ: الْتِزَامُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالتَّوْجِيهِ الشَّرْعِيِّ، وَالهَدْيِ النَّبَوِيِّ؛ فِي كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهِمَا، وَأَنْ تَكُونَ العِشْرَةُ بِالمَعْرُوفِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِـيراً }النساء19
وَمِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِقَرَارِ بَيْنَ الزَّوجَينِ: أَنْ يَعْرِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا لَهُ، وَمَا عَلَيهِ مِنَ الحُقُوقِ؛ فَيَجْتَهِدُ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيهِ وَيَرْضَى بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ حُقُوقِهِ دُوْنَ اِسْتِقْصَاءِ.
وَمَا لَمْ يَتَعَامَلِ الزَّوجَانِ بِالسَّمَاحَةِ، وَغَضِّ الطَّرْفِ وَحَاسَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي غَالِبًا إِلَى النِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ؛ ثُمَّ يَحْصُلُ الفِرَاقُ وَهَدْمُ الأُسْرَةِ وَشَتَاتُهَا.
ثُمَّ إِنَّ التَّسَامُحَ بَينَ الزَّوْجَينِ لَا يَعْنِى أَنْ يَسْتَهِينَ أَحَدُهُمَا بِحُقُوقِ الآخَرِ، وَيُقَصِّرَ فِي أَدَائِهَا؛ مُتَعَلِّلًا بِكَرِيمِ خُلُقِ صَاحِبِهِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مِنْهُمَا أَنْ يَجْتَهِدَ مَا اسْتَطَاعَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيهِ؛ فَإِنْ وُجِدَ تَقْصِيرٌ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَلْيُقَابَلْ بِالسَّمَاحَةِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِقَرَارِ بَيْنَ الزَّوجَينِ أَنْ يَعْلَمَ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ أَنَّ الكَمَالَ المُطْلَقَ، وَالخُلُوَّ مِنَ العُيُوبِ لَيسَ مِنْ صِفَاتِ البَشَرِ.
قَدْ يَجِدُ أَحَدُ الزَّوجَينِ فِي الآخَرِ مِنَ الصَّفَاتِ الخِلْقِيَّةِ أَوِ الخُلُقِيَّةِ مَا يَكْرَهُ؛ فَلَا يَتَبَاغَضَانِ لِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ لِيَنْظُرْ كُلُّ مِنْهُمَا إِلَى الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ فِي صَاحِبِهِ.
يَنْظُرُ إِلَى المَحَامِدِ فَيُقَدِّرُهَا وَيَشْكُرُ عَلَيْهَا، وَإِلَى مَا يَكْرَهُ فَيَغُضُّ الطَّرْفَ عَنْهُ، وَيَغْمُرُهُ فِي كَثِيرِ المَحَاسِنِ وَيُصْلِحُهُ بِالحِكْمَةِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّـى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى: لَا يَفْرَكْ: لَا يُبْغِضْ.
وَهَكَذَا لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَينِ إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُمَا مِنَ المَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ؛ يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
أَسْأَلُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعْمُرَ قُلُوبَنَا بِالإِيمَانِ، وَبُيُوتَنَا بِالاسْتِقْرَارِ وَبِلَادَنَا بَالأَمْنِ، وَأَنْ يبَارَكَ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيْمِ وَيَنْفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ؛ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّمَاحَةِ فِي شَيءٍ؛ وَلَا مِنْ حُسْنِ العِشْرَةِ فِي شَيءٍ: إِقْرارُ الزَّوجَةِ أَوِ الزَّوجِ أَوِ الأَوْلَادِ عَلَى المُنْكَرِ، وَالمُدَاهَنَةُ فِي دِينِ اللهِ، وَتَرْكُهُمْ عَلَى المُخَالَفَاتِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَعَامُلَاتِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَغَيرِ ذَلِكَ.
لَيسَ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالتَّوسِعَةِ؛ تَوفِيرُ مَا يَطْلُبُونَ دُونَ النَّظَرِ فَي حِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ؛ فَخَيرُ النَّاسِ خُلُقًا وَأَحْسَنُهُمْ عِشْرَةً؛ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ هَتَكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: ( يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ ) . ( قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ألا فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَتَفَقَّهُوا فِي دِيْنِكُمْ، وَتَحَلُّوا بِمَكَارِمِ الَأخْلَاقِ؛ تَسْعَدُوا وَيَسْعَدُ بِكُمْ أَهْلُكُمْ، وَمَنْ حَوْلَكُمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَيَجَعَلَنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
ثُمَّ صَلُّوا رَحِمَكُمُ اللهُ وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيْكَ بِأَعْدَائِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُم وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1700678271_أَهَمِّيَّةُ بِنَاءِ الأُسْرَةِ فِي الإِسْلَامِ.pdf
1700678276_أَهَمِّيَّةُ بِنَاءِ الأُسْرَةِ فِي الإِسْلَامِ.docx