أهمية الوفاء بالعهود والتحذير من الغدر والخيانة

سعيد المفضلي
1438/04/08 - 2017/01/06 07:44AM
أهمية الوفاء بالعهود والتحذير من الغدر والخيانة
الخطبة الأولى:
إن المتأمل في واقع أمتنا في هذا العصر، يرى أنها تتقاذفها الأمواج، وتميل بها الرياح، تلتفت يمينًا وشمالا تبحث عن منقذ لها، ومركب النجاة بين يديها، تأوي إلى الغرب وتهوي إلى الشرق ويتآمر عليها شراذم البشر وشرار الخليقة وعزّتها ونصرتها ومنعتها باللجوء إلى كتاب ربها، ولكن يا ليت قومي يعلمون فيعملون.
وفي السنوات الأخيرة أصبحت الدول تعيش في قلاقل ومحن، وباتت الشعوب - وبالأخص الشعوب الإسلامية - لا تأمن على حياتها وممتلكاتها، فلم يعد الإنسان يطمئن إلى عهد ولا إلى ميثاق، توقّع العهود في الصباح وتنقض في المساء، أنشئت الهيئات والمنظمات الدولية، ولكنها أصبحت كلا على الضعفاء وسلاحًا فتّاكًا بيد الأقوياء، وسادت شريعة الغاب ومملكة البحار، القوي يأكل الضعيف، والكبير يقضي على الصغير بل حتى على مستوى الأفراد والجماعات لم يعد للعهود مكانًا، ولا للمواثيق احترامًا، إلا ما ندر ممن يؤمن بالله واتخذ القرآن له دستورًا وأمانًا، وإن من أسباب شقاء هذه الأمة وبؤسها بعدها عن كتاب ربها، وعدم التزام كثير من أفرادها بعهود الله ومواثيقه، في العقيدة والسلوك والمعاملات والأخلاق والتقدير، ولذلك اختلت الموازين والقيم، وضعفت الأمة.
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] .
وروى مسلم في صحيحه " أن حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ  فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ :« انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ».
وفي سنن أبي داود (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: « إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ».
إخوة الإسلام : في النصوص السابقة أمر للمؤمنين بالوفاء بالعهد.. والوفاء بالعهد أدب رباني حميد ، وخلق نبوي كريم ... وسلوك إسلامي نبيل...
جعله الله صفة لأنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده. فقال تعالى في إبراهيم عليه السلام : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].
وقال تعالى في إسماعيل عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّ} [مريم: 54].
ومدح سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بقوله تعالى : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].وجعل الله الوفاء بالعهد صفة لأوليائه.. فقال في أولي الألباب: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19، 20]..
أيها الموحدون : ولكن ..ما معنى الوفاء بالعهد ؟؟؟
فأقول ...الوفاء بالعهد هو قيام المسلم بما التزم به...سواء أكان التزامه إيمانا وتصديقا..أو قولاً.. أو كتابة ..أو عملا....
فكل أمر ألزمت به نفسك فهو عهد ووعد .
والعهد ينقسم إلى قسمين:... عهد بين الله وبين الناس.. وعهد بين الناس بعضهم بعضاً..
فأما العهود التي بين الله وبين الناس فهي كثيرة:.
أولها إيمانك بالله وتصديقك لرسوله... هذا عهد يجب عيك الوفاء به ..
فالتزامك بدين الله.. وإتباعك لشرع الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم ..هذا عهد..
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما أحل الله وما حرم.. وما فرض في القرآن فهو عهد"..
فمن تهاون في أداء الصلاة ، أو إيتاء الزكاة ، أو في صوم رمضان ، أو أداء الحج مع القدرة ، فقد نكث عهده مع الله.
ومن تخلق بغير أخلاق المؤمنين .. فكذب إذا حدث ، أو خان إذا اؤتمن ، أو أخلف إذا وعد .. فقد نكث عهده مع الله ...
ومن ساءت معاملته مع العباد ..فعق والديه.. أو قطع رحمه.. أو أساء إلى جاره ..أو غش في بيعه وشرائه .. أو أضاع زوجته وأولاده .. فقد نكث عهده مع الله ...
ومن والى الكفار ..وعادى المؤمنين الأبرار .. وانتصر للباطل ..واخفق الحق .. فقد نكث عهده مع الله ..
وعلى الإجمال ...فالمعرضون عن دين الله.. أولئك نكثوا عهدهم مع الله.. وتهاونوا بشرع الله... بل وأبرموا عهداً مع الشيطان. بمخالفتهم لشرع الرحمن .
وكذلك من الوفاء بالعهد.. نشر العلم وبيانه ، فهذا من الوفاء بالعهد...قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
قال قتادة:.. هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم.. فمن تعلم علماً.. فليعلمه للناس. وإياكم وكتمان العلم . فإن كتمان العلم هلكة..
فيا سعادة عالم ناطق. ومستمع داع.. هذا تعلم علماً فبلغه. وهذا سمع خيراً فقبله.
وبيع النفس والمال بالجنة عهد. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة: 111]
إخوة الإسلام: وأما العهود التي بين الناس بعضهم بعضاً؛ فهي كثيرة أيضاُ.. فإذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء. يقال:. أنهما تعاهدا..
فعقد الزواج عهد لأنه التزام بين الزوج والزوجة، قال : كما في البخاري (عَنْ عُقْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ: « أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ » .
فلابد للمسلم أن يؤدي ما التزم به من الشروط في عقد الزواج. لأنه استحل بها الفرج.. فأيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر، ليس في نفسه أن يؤديها حقها؛ فقد خدعها..
بل ويجب على كل من الزوج والزوجة أن يكونا من الأوفياء في الحياة وبعد الممات..
فهذا رسول الله كان وفيا مع خديجة حتى بعد موتها ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتِ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ ..عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ،
فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ ، فَقَالَ « اللَّهُمَّ هَالَةَ »
قَالَتْ فَغِرْتُ...فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ.. قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا )
وفي رواية الإمام أحمد قَالَ : « مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ
وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ »..
هكذا كان رسول الله  وفيا لها حتى بعد موتها ..
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم



الخطبة الثانية:
أما بعد أيها المسلمون
وما زلنا مع الوفاء بالعهد ...
فتربية الأولاد عهد على الوالدين يجب الوفاء به ..
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]..
فمن أهملهم... لم يوف بما عهد إليه...
بل ونهى رسول الله  أن يعد الإنسان أحد أولاده بوعد ولا يفي له به .. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له.. فإن رسول الله قال: « العِدَةُ عطيَّةٌ » رواه الطبراني .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ  فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِىٌّ . قال: فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لأَلْعَبَ فَقَالَتْ أُمِّي يَا عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَ أُعْطِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ ».
قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْراً. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ » رواه أحمد.
والوفاء يكون في البيع والشراء ففي صحيح البخاري، عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه – قَالَ.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا.. بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ...وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا »
والوفاء بالوعد يكون في المواعيد والاتفاقات ... فإذا أعطيت أخاك موعدا فلا تخلفه .. وإذا اتفقت معه على أمر فلا تماطله.
والوفاء يكون أيضا في العهود والمواثيق ... وفي الشروط والمصالحات ..
وفي إنجاز الأعمال وأداء الواجبات ...وفي كل أنواع المعاملات. ما لم يكن في محرم. فلا وفاء في أمر حرام.. يخالف الشرع والدين .
وقد كان  أعظم خلق الله وفاء بالوعد فقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ  بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ فَنَسِيتُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلاَثٍ فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ فَقَالَ: « يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَىَّ أَنَا هَا هُنَا مُنْذُ ثَلاَثٍ أَنْتَظِرُكَ ». رواه أبو داود
أيها المسلمون: وأما جزاء من لم يف بالعهد ..أو أخلف في الوعد .. فقد جاء عن النبي  أنه قال: « العِدَةُ دين.. ويل لمن وعد ثم أخلف.ويل له. ويل له. ثلاثا » رواه الطبراني في المعجم
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :« مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطُّ إِلاَّ كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ، وَلاَ ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، وَلاَ مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلاَّ حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ». رواه البيهقي والحاكم والطبراني
أيها الإخوة المباركون: عليكم بالوفاء بالعهد. والصدق في الوعد. ولا تلزموا أنفسكم بما لا تستطيعون أداءه. أولا تتحملون الوفاء به.
واعلموا أن من أخلف الوعد ولم يف بالعهد. فقد تخلق بأخلاق المنافقين؛ لأن الرسول  قال فيما رواه البخاري:
« آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ».
ومن هنا جاءت العهود والمواثيق بين دولتنا الحبيبة المملكة العربية السعودية وبين الدول الأخرى التي ترتبط معها بمصالح سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. فكانت رائدة في الوفاء به وحسن أدائه، لا يُعرف عنها الغدر ولا الخيانة، حتى في أحلك الظروف وأقساها، بل إنها تنصف من نفسها قبل أن تطلب الإنصاف من الآخرين.
وشر الدواب أولئك الذين يعاهدوننا ثم ينقضون عهودهم، خسة وخيانة، وجزاؤهم شديد وعقابهم أليم، ليكونوا عبرة لغيرهم ونكالا للآخرين: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأنفال: 55 - 57].
وأقرب مثال على ما ذكر، انتهاك المليشيات الحوثية في اليمن ومن معهم من قوات صالح الاتفاقيات المعاهدات الأممية ونقضهم للهدنة، مقابل التزام قوات التحالف بتلك الاتفاقيات والمعاهدات..
المرفقات

1230.doc

المشاهدات 3664 | التعليقات 0