أهمية الوسطية والاعتدال في حياة الأمة
أ.د عبدالله الطيار
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(آل عمران: الآية 102).
عباد الله: من استقرأ شريعة الإسلام في الحرص على وحدة الكلمة وتآلف القلوب ولم الشمل، والتحذير من الاختلاف والتفرق؛ تبين له تلك العناية البالغة لهذا الجانب كي تقوى الأمة ويتحقق عزها، ويدوم أمنها واستقرارها، ولا يستطيع الأعداء نيل بغيتهم منها. فوحدة الكلمة ولمّ الشمل وتآلف القلوب من أهم مقومات هذا الدين، ومن الدعائم الأساسية لهذا المجتمع، لأن به تتحقق مصالح الدين والدنيا، والتناصر والتعاون والتعاضد ، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران: 103)، وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ..}(الحجرات: الآية 10)، ولن يتأتى النصر على الأعداء إلا بعد أن تتوحد هذه الأمة على منهج الكتاب والسنة، ونقف صفًا واحدًا في مواجهة الأفكار المنحرفة. وإني أحذر شبابنا من التأثر بالشائعات الكاذبة والأراجيف المغرضة والأفكار الوافدة الهدامة التي تُنشر عبر الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والتي تهدف إلى الطعن في الدين والأخلاق، وبث الفرقة والاختلاف، والقدح في الولاة والعلماء، بل علينا أن نتكاتف مع ولاة أمرنا وعلمائنا ونتعاون معهم على إقامة الحق وتطبيق الشرع ورعاية مصالح الدين والدنيا.
عباد الله: إن أمة الإسلام لها سِمَتُها البارزة بين الأمم، فهي الأمة الوسط، ومنهجها منهج وسطي، أثنى الله تعالى عليها في كتابه فقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}(البقرة: الآية 143)، فهي الأمة الوسط بكل معاني الكلمة: شرفاً وإحساناً، وفضلاً وتوازناً، واعتدالاً وقصداً، وعقيدةً ولفظاً، وشريعةً ومنهجاً، وموقعاً تاريخياً.
وشريعتها الربانية تتسم بأنها شريعة السماحة ورفع الحرج؛ وموافقة الفطر السليمة، وهي وسط في كل القضايا الدينية، والدنيوية، والعبادات، والمعاملات،.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [فإن الفرقة الناجية أهلَ السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فِرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم].
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: [إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذِ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرتَ إلى كُليِّةٍ شرعية فتأمَّلها تجدها حاملةً على التوسط والاعتدال، ورأيتَ التوسطَ فيها لائحًا، ومسلكَ الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقِل الذي يُلجأ إليه].
ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله:[وعلى الجملة فالأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلبُ مصلحة أو درءُ مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير].
فهذه الوسطية التي جاء بها الإسلام إنما جاءت لتحقيق مبدأ التوازن الذي تقوم عليه سُنَّة اللَّه في خلقه، وفق نظام رباني، ومشيئة وحكمة إلهية، وتقدير مسبق، وثوابتَ وسننٍ لا تبديل لها، فإذا فَقَدتْ ذلك مالتْ مع الأهواء، وأصبحتْ إما تفريطاً أو إفراطاً.
فما من شعيرة من شعائر الدين إلا وهي محفوفة بالوسطية فلا غلو فيها، ولا تفريط.
والله جل وعلا لم يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج في التحريم، كما في قضية الأصنام التي كانت حول الكعبة، وكذلك الخمر التي جاء الأمر بتحريمها تدريجياً، تهيئة وترويضاً للنفوس على تقبل أوامر الله، واستجابة لأحكام الدين.
وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على التيسير، ويحث أصحابه عليه كما في قوله: (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا) (رواه البخاري)، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)( رواه البخاري)، وورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا) (رواه البخاري).
عباد الله: إن الوسطية التي جاء بها الإسلام لها مظاهرها المتعددة؛ والتي تشمل جميع شرائع الدين، وفرائضه، وأحكامه ، ومن ذلك:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ميز الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة بالوسطية بين جميع فرق المسلمين، فقال عنهم: (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ)(رواه أحمد). فهم العدول الخيار، وأهل التوسط والاعتدال عقيدةً وعلماً وعملاً وأخلاقاً، وهم وسط بين أهل الغلو والتقصير, والتفريط والإفراط .
قال ابن القيم رحمه الله: [فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين, ولم يلحقوا بغلو المعتدين].
وهم وسط في باب الأسماء والصفات، فيثبتون ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم, من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل،لا يتجاوزون القرآن والحديث.
وهم وسط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم, فيعتقدون أنها أصل من أصول الإيمان, وأن الإيمان لا يكتمل للمرء حتى يحبه أكثر من نفسه وأهله وماله وولده والناس أجمعين, ولا يقدمون محبة أحد من الخلق على محبته, ولا يغلون في محبته فيعطونه شيئاً من الخصائص التي لا تجوز إلا لله. لأنه بشر, لا يعلم الغيب, ولا يُدْعَى من دون الله, ولا يستغاث به.
وهم وسط بين من يغلو في القبور, فيشيدها ويزخرفُها, أو يتخذها مساجدَ يصلي إليها أو عندها, أو يطوفُ بها, ويذبحُ عندها ويدعو أصحابها. وبين من يهينها, أو يطأُ عليها ولا يعرف لأصحابها حرمة. بل يوارون أهلها على ما يقتضيه الشرع, ويزورون القبور للسلام على الميت والدعاء والإستغفار له, ولا يتجاوزون ذلك.
وهم وسط في باب الإيمان والعمل بين الخوارج الذين يكفرون أهل الكبائر, وبين المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب.
وهم وسط في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أهل الغلو من الخوارج والمعتزلة الذين يغالون في الإنكار حتى يصل الأمر بهم إلى إخراج المسلم من دينه ويستحلون دمه, والخروج على ولي الأمر المسلم وشق عصا الطاعة وسفك الدم وزعزعة الأمن. وبين من يسعون لتعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً.
بل هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعةُ الغراءُ, التزاما بأمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرون السمع والطاعة بالمعروف لولي الأمر المسلم برًّا كان أو فاجراً، في العسر واليسر والمنشط والمكره, إلا أن يُؤمروا بمعصية الله .
وهم وسط في أداء العبادات الظاهرة, كالصلاة والصيام وسائر العبادات, فلا ينقطعون بها عن الدنيا والسعي في تحصيل ما ينفعهم مما أباح الله, ولا ينشغلون بالدنيا عنها. بل يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويكملونه بالنوافل على حسب القدرة والاستطاعة, متبعين في ذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم, فلا يزيدون على هديه ولا ينقصون.
وهم وسط في أمور الدنيا: فلا يغالون في طلبها وتحصيلها, ولا ينقطعون عن بذل أسباب الرزق الحلال والعيش الهني, والتمتع بما أباح الله, من غير إسراف ولا مخيلة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(الأنعام: الآية 153 ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم لقاه.
عباد الله: ينبغي على كل مسلم أن يعبد الله على علم وبصيرة، وأن يحذر مكائد الشيطان الذي يُحيد عن الطريق المستقيم، ويُزيغ عن الهدي القاصد، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)(رواه البخاري).
قال ابن القيم رحمه الله: [ما أمر الله عزَّ وجل بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفِر من العبد من الخطيئتين].
وقال الأوزاعي رحمه الله:[ما من أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ به، إلا عارض الشيطانُ فيه بخصلتين، ولا يبالى أيهما أصاب: الغلو، أو التقصير].
فإذا أردنا أن نحقق الوسطية في حياتنا فعلينا:
أولاً: أن نتمسك بكتاب ربنا جل وعلا، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهما الواقيان ــ بإذن الله تعالى ــ من الوقوع في الخطأ والزلل، والخروج عن الصراط الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده، وارتضاه رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته.
ثانياً: تأصيل مفهوم وسطية وعدل الإسلام بين جميع فئات المجتمع من خلال المناهج الدراسية، ومنابر المساجد، وعبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، والندوات، واللقاءات وغير ذلك.
ثالثاً: العمل على تحقيق منهج الوسطية والاعتدال في حياتنا، وأن نبتعد عن كل أسباب الغلو والتطرف، سواء في الفكر أو في العمل.
رابعاً: أن يقوم العلماء بدورهم المنوط بهم من إيضاح خطورة التطرف والإرهاب، والانحراف عن المنهج الحق، والتحذير من الشبهات والشهوات التي تصيب المجتمع المسلم، وخاصة شباب هذه الأمة الذين هم عمادها بعد الله تعالى.
خامساً: يجب على الجميع رجالا ونساءً، شبابا وفتياتٍ أن يطيعوا ولاة أمرهم في المعروف، وأن يلتفوا حول علماءهم ويأخذوا عنهم الحق، وأن يرجعوا إليهم في جميع الملمات فهم أدرى الناس بالواقع، وأعلم الناس بما يعود عليهم بالخير في العاجل والآجل.
أسأل الله جل وعلا أن يهدينا سواء السبيل، وأن يثبتنا على صراطه المستقيم، وأن ينصر دينه وكتابه وعباده المؤمنين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.