أهمية النقد البَنَّاء, وبيانُ آدابه وضوابطه, (2) 24-11-1435
أحمد بن ناصر الطيار
1435/11/23 - 2014/09/18 10:13AM
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين, أما بعد:
فاتقوا عباد الله, واعلموا أنَّ الحديث في الجمعة الماضية, كان عن أهمية الْمَدْحِ والثَّناءِ بضوابطه, وبقي الحديث عن أهمية النقد بشروطه, والحذرِ منه إذا خلا من آدابه وضوابطه.
معاشر المسلمين: لَمَّا كان الناسُ مَجْبُولين على الخطأ والنقص, والخللُ والتقصيرُ من طبيعةِ البشر, كان الواجبُ عليهم أنْ يُناصح ويُقوِّمَ بعضُهم بعضًا, ومن مُسمَّيات النصيحة وأنواعها: النقد.
فالنقد البنَّاءُ من النصحية الواجبة أو الحسنة, ولا ينبغي لعاقلٍ أنْ يتضايق منه. ولما كان النقدُ مُنتشراً في ما بيننا, ونستعمله بلا اسْتثناء, كان لزاماً علينا أنْ نقف معه, ونعرف آدابَه وضوابطَه, لاسيما والكثير من الناس أخطأ في اسْتعماله, وأجحف في نقده.
والنقد يأتي لمعانٍ منها: التمييز والإظهار, يُقال: نقَد الشّيءَ: أي بيَّن حسنَه ورديئه، وأظهر عيوبه ومحاسنه, ونقَد النَّاسَ: أي أظهر ما بهم من عيوب.
فالناقد: يرى أنَّ الآخر مُخطئٌ تماماً, وهو مُصيبٌ في نقده يقيناً, هذا هو الأصل, فمعنى ذلك: أنَّ من نقد أحدًا من الناس, وهو ليس مُتيقناً من صواب قوله وخطأ خصمه, فعمله هذا ليس نقدًا بالمفهوم الصحيح, إنما هو اسْتعلاءٌ أو تخمينٌ, أو محبَّةٌ لإبراز عُيوب الآخرين, ولا يخلو الناقدُ عن غيرٍ علمٍ من إحدى هذه الأمور الثلاثة, وكفى بها شرًّا وعيبًا.
ولا ينبغي أنْ ننقد أحدًا على أيِّ فعلٍ أو قول, إلا إذا خالف دليلاً شرعيًّا صحيحًا, أو خالف عرفاً أو خلقاً اتفق العقلاء عليه.
أمَّا ما عدا ذلك, فلا ينبغي أنْ نُحاكم الناس على حسب أذواقِنا وعاداتنا, فالأذواق والعادات مُختلفةٌ ومُتعددة.
واعلموا - معاشر المسلمين- أنَّ النقد في الأصل بغيضٌ إلى النفوس, ثقيلٌ يشقُّ سماعه وقبوله, فإذا نقدَّت أحداً دون مُستندٍ صحيحٍ لنقدك, أو نقدَّته بأسلوبٍ جافٍّ أو أمام الآخرين, أو أكثرت من نقده, فَسَيَزْداد ثِقَلُه, ويصعُب تحمُّله, وتُعتبر في نظر من نقدَّته مُعتدياً مُخطأً.
وأنت قد تكون في قرارة نفسك ناصحاً مُشفقا, لكنك لم تكن بذلك مُصيباً مُوفَّقاً, لأنك لم تـأت النقد من بابه, ولم تلتزم بضوابطه وآدابه.
فالنقدُ ثقيلٌ وشاقٌّ بحدّ ذاته, فلا ينبغي للعاقل أنْ يزيده ثِقَلاً بخشونة أُسْلُوبه, وفضاضةِ ألفاظه.
والنقدُ واللومُ, لا ينبغي اللجوءُ إليه إلا عند الحاجة إليه, فهو دواءٌ نُدواي به العيوب والأخطاء, ومتى زاد الدواءُ ضرّ المريض ورُبَّما قتله.
فإذا تحقق الإنسان بأنَّ فلاناً من الناسِ ارتكب أمراً خطأً صريحاً, مُخالفاً بذلك أمراً شرعيًّا, أو أمراً اتفق العقلاء على ذمِّه, فأراد أن ينقُده على ذلك, فلابد أنْ يلتزم بآداب النقد البنَّاء, وهي:
أولاً: الرفق والحلم, وقد ذكر العلماءُ رحمهم الله تعالى, أنَّ من أراد أنْ يأمر بمعروفٍ أو ينهى عن منكر, - والنقد من هذا الباب- لابد أنْ يكون عالماً بما يأمر به أو ينهى عنه, رفيقًا فيما يأمر به أو ينهى عنه, حليمًا فيما يأمر به أو ينهى عنه.
فكذلك ينبغي أنْ يكون الناقد, لابد من العلم قبل النقد، والرفقِ مع النقد، والحلمِ بعد ذلك.
ثانيًا: أنْ يكون النقد في سريةٍ تامة, إمَّا بانفرادٍ, أو عند صُحبةٍ مُتآلفةٍ مُتحابَّة..
ثالثًا: أن تُقدِّم بين يديْ نقدك كلاماً جميلاً, وثناءً صحيحاً.
فهذا ربُّنَا جلَّ جلاله, يقول مُخاطبًا اليهودَ الضالين الظالمين, الْمَغضوبَ عليهم والْمُكذبين, بعد أنْ عدَّد ما منَّ عليهم من النعم والفضائل: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} تأملوا كيف نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ, الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ, وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ ، وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِه.
قال العلامةُ مُحَمَّد رَشِيد رضا رحمه الله تعالى: "وَهَذَا أُسْلُوبٌ حَكِيمٌ فِي الْوَعْظِ ، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ وَاعِظٍ, أَنْ يَبْدَأَ وَعْظَهُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الشَّرَفِ, وَشُعُورِ الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْعُوظِينَ, لِتَسْتَعِدَّ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ".ا.هـ كلامُه رحمه الله
وهذا قدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم, حينما أراد توجيه نقدٍ لابن عمرَ رضي الله عنهما, أثْنَى عليه ثناءً عطراً قبل نقده فقال: « نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ».
رابعًا: أنْ يكون ختامُ النقد بطريقةٍ ودية, وجملةٍ وعبارةٍ مُحفِّزة, فختام النقد والنصيحةِ بمثل ذلك, يُعين على تقبُّلها, وتطييبِ خاطرِ صاحبها.
خامسًا: أنْ يكون النقد للتصرف الذي قام به ذلك الشخص, لا أنْ يكون النقد للشخص نفسه.
فبعضُ الناس, قد لا يُعجبه قولُ أو فعلُ أحدٍ من الناس, فيشتغلُ بنتقدِ ذاتِه وتجريحِ شخصِه, وربما اتهم نيَّته وشكَّك في إخلاصه.
وهذا من التعدي والظلم, فقد أختلفُ معك في رأيك وتصرُّفك, لكن لا يجوز أنْ أقدح فيك وأتهجَّم عليك.
كان بين خالدِ بن الوليد وسعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنهما كلامٌ وسوءُ تفاهم, فذهب رجلٌ يقع في خالدٍ عند سعد بن أبي وقاص فقال: مه, إنَّ ما بَيْنَنَا لم يَبْلُغْ دِيْنَنَا.
سادسًا: أنْ يكون النقد في وقتٍ وجوٍّ مُناسبٍ, فبعضُ الناس لا يُراعي الوقت المناسب في نقده, فيُوقعَ في نفس من نقده الحرجَ والألم.
سابعًا: التوازن بين الثناء والنقد, فلا يُعقل أنْ تُكثر من نقدِ أحدٍ مهما كان, دون أنْ يسمع منك ثناءً عطرا, أو مدحاً صادقاً.
فالنفس البشرية لا تقبل مثل هذا, وترى أنَّ مَن ينقُدها ولا يُثني عليها, مُتحاملاً وحاقداً, أو مُجحفاً مُتتبعاً للزلاَّت.
ثامنًا: عدمُ الإكثار من النقد لشخصٍ واحد, فالإكثار منه يتحول إلى عداوةٍ أو سآمةٍ.
تاسعًا: لزوم الحسنى في المقال، وانتقاءُ اللفظ، وتخيُّر الكلمات، فما كان الرفقُ في شيء إلا زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه، والله تعالى أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، بل أمر بذلك جميع المؤمنين فقال: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾.
فالواجب على الناقد أنْ يَنْتقيَ أحسن الألفاظ والعبارات, ويبتعدَ عن الأساليبِ التي تُثيرُ وتُؤْلم, وتُفسدُ ولا تُصلح.
واعلموا -معاشر المسلمين- أنه بدون هذه الضوابط في النقد: قد تكون كلمات الناقد سهامًا يغرسها في قلب من نقده, وسيفاً يقطع به طُموحه وعزيمته.
فكم سمعنا من الناس من يُحدِّث أنه كان في صباه, يُحبُّ علمًا من العلوم, كالشعر أو الأدب, أو العلمِ الشرعيِّ أو الصناعة, فواجهه مُعلمه أو بعض الناس بنقدٍ لاذِع, فصرف عنايته واهتمامه عن هذا العلم, الذي ربما لو شجعه لأصبح له شأنٌ كبيرٌ.
هذه - يا أمة الإسلام- أهمُّ آدابِ نقدِ الآخرين, فمن أراد أنْ ينتقد أحدًا فينبغي له أنْ يحرص على التحلي بها, والأخذِ بها, حتى يكون محبوبًا في ذاته, ويَنْتَفِعَ الناسُ من نقدِه.
نسأل الله تعالى أنْ يُوفقنا لشكر الناس على محاسن أعمالهم, والتعاملِ الصحيح مع أخطائهم, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: عرفنا آداب النَّاقد, فما هي آدابُ مَنْ وُجِّه إليه نقدٌ من ناصحٍ مُشفق, أو قُوبل بنصيحةٍ من مُخلصٍ ناصح, الذي التزم وأتى بآداب النقد البناء؟.
إنَّ أعظم أدبٍ يجب أنْ يأخذ به: أنْ يتقبل ذلك بصدرٍ رحْب, ويَقْبَلَ ما جاء به من الحق ويعملَ به.
ومن لم يقبلِ الحقّ من أيٍّ أحدٍ كان فهو مُتكبر, قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الكِبْر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناسِ) .
فالمتكبر يرد الحق، ويُعرض عنه ولا يقبله؛ لأنه معتدٌّ برأيه، جازمٌ بصواب عمله, ومع ذلك يحتقر الناس ويزدريهم؛ لأنه يرى نفسه فوقهم.
وقد سُئل أحدُ الحكماء: ما التواضع؟ قال: ألا تقابل أحداً إلا رأيت له الفضل عليك، بكلمةٍ قالها لك، أو معروفٍ أسداه إليك، أو ابتسامةٍ قابلك بها.
قال ابن القيم رحمه الله: من علامات الخشوع: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خُولِفَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ: اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ.
وقال رحمه الله: لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ, حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ, وَمِمَّنْ تُبْغِضُ, فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ, كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. ا.ه كلامه
ومن أعظم آدابه: شُكرُه على ذلك والثناءُ عليه؛ لأنه يعلم أنَّه ما نقده بأسلوبٍ لطيفٍ إلا من محبَّته له, وإشفاقِه عليه.
وإنَّ من يُذَكِّرُنا بأخطائنا, ويُنبِّهُنا على عُيوبنا, قد أسدى لنا معروفاً عظيماً, فجزاؤه أن نشكرَه ونُثنيَ عليه, ونأخذَ بقوله ونعملَ به, فهذا من علامةِ الإيمان وصفاءِ القلب.
علامةُ شكرِ المرء إعلانُ حمده ... فمن كتم المعروف منهم فما شكر
نسأل الله تعالى, أنْ يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه, وأنْ يأخذ بأيدينا لقبول الحقّ والرُّجُوعِ إليه, إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
فاتقوا عباد الله, واعلموا أنَّ الحديث في الجمعة الماضية, كان عن أهمية الْمَدْحِ والثَّناءِ بضوابطه, وبقي الحديث عن أهمية النقد بشروطه, والحذرِ منه إذا خلا من آدابه وضوابطه.
معاشر المسلمين: لَمَّا كان الناسُ مَجْبُولين على الخطأ والنقص, والخللُ والتقصيرُ من طبيعةِ البشر, كان الواجبُ عليهم أنْ يُناصح ويُقوِّمَ بعضُهم بعضًا, ومن مُسمَّيات النصيحة وأنواعها: النقد.
فالنقد البنَّاءُ من النصحية الواجبة أو الحسنة, ولا ينبغي لعاقلٍ أنْ يتضايق منه. ولما كان النقدُ مُنتشراً في ما بيننا, ونستعمله بلا اسْتثناء, كان لزاماً علينا أنْ نقف معه, ونعرف آدابَه وضوابطَه, لاسيما والكثير من الناس أخطأ في اسْتعماله, وأجحف في نقده.
والنقد يأتي لمعانٍ منها: التمييز والإظهار, يُقال: نقَد الشّيءَ: أي بيَّن حسنَه ورديئه، وأظهر عيوبه ومحاسنه, ونقَد النَّاسَ: أي أظهر ما بهم من عيوب.
فالناقد: يرى أنَّ الآخر مُخطئٌ تماماً, وهو مُصيبٌ في نقده يقيناً, هذا هو الأصل, فمعنى ذلك: أنَّ من نقد أحدًا من الناس, وهو ليس مُتيقناً من صواب قوله وخطأ خصمه, فعمله هذا ليس نقدًا بالمفهوم الصحيح, إنما هو اسْتعلاءٌ أو تخمينٌ, أو محبَّةٌ لإبراز عُيوب الآخرين, ولا يخلو الناقدُ عن غيرٍ علمٍ من إحدى هذه الأمور الثلاثة, وكفى بها شرًّا وعيبًا.
ولا ينبغي أنْ ننقد أحدًا على أيِّ فعلٍ أو قول, إلا إذا خالف دليلاً شرعيًّا صحيحًا, أو خالف عرفاً أو خلقاً اتفق العقلاء عليه.
أمَّا ما عدا ذلك, فلا ينبغي أنْ نُحاكم الناس على حسب أذواقِنا وعاداتنا, فالأذواق والعادات مُختلفةٌ ومُتعددة.
واعلموا - معاشر المسلمين- أنَّ النقد في الأصل بغيضٌ إلى النفوس, ثقيلٌ يشقُّ سماعه وقبوله, فإذا نقدَّت أحداً دون مُستندٍ صحيحٍ لنقدك, أو نقدَّته بأسلوبٍ جافٍّ أو أمام الآخرين, أو أكثرت من نقده, فَسَيَزْداد ثِقَلُه, ويصعُب تحمُّله, وتُعتبر في نظر من نقدَّته مُعتدياً مُخطأً.
وأنت قد تكون في قرارة نفسك ناصحاً مُشفقا, لكنك لم تكن بذلك مُصيباً مُوفَّقاً, لأنك لم تـأت النقد من بابه, ولم تلتزم بضوابطه وآدابه.
فالنقدُ ثقيلٌ وشاقٌّ بحدّ ذاته, فلا ينبغي للعاقل أنْ يزيده ثِقَلاً بخشونة أُسْلُوبه, وفضاضةِ ألفاظه.
والنقدُ واللومُ, لا ينبغي اللجوءُ إليه إلا عند الحاجة إليه, فهو دواءٌ نُدواي به العيوب والأخطاء, ومتى زاد الدواءُ ضرّ المريض ورُبَّما قتله.
فإذا تحقق الإنسان بأنَّ فلاناً من الناسِ ارتكب أمراً خطأً صريحاً, مُخالفاً بذلك أمراً شرعيًّا, أو أمراً اتفق العقلاء على ذمِّه, فأراد أن ينقُده على ذلك, فلابد أنْ يلتزم بآداب النقد البنَّاء, وهي:
أولاً: الرفق والحلم, وقد ذكر العلماءُ رحمهم الله تعالى, أنَّ من أراد أنْ يأمر بمعروفٍ أو ينهى عن منكر, - والنقد من هذا الباب- لابد أنْ يكون عالماً بما يأمر به أو ينهى عنه, رفيقًا فيما يأمر به أو ينهى عنه, حليمًا فيما يأمر به أو ينهى عنه.
فكذلك ينبغي أنْ يكون الناقد, لابد من العلم قبل النقد، والرفقِ مع النقد، والحلمِ بعد ذلك.
ثانيًا: أنْ يكون النقد في سريةٍ تامة, إمَّا بانفرادٍ, أو عند صُحبةٍ مُتآلفةٍ مُتحابَّة..
ثالثًا: أن تُقدِّم بين يديْ نقدك كلاماً جميلاً, وثناءً صحيحاً.
فهذا ربُّنَا جلَّ جلاله, يقول مُخاطبًا اليهودَ الضالين الظالمين, الْمَغضوبَ عليهم والْمُكذبين, بعد أنْ عدَّد ما منَّ عليهم من النعم والفضائل: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} تأملوا كيف نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ, الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ, وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ ، وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِه.
قال العلامةُ مُحَمَّد رَشِيد رضا رحمه الله تعالى: "وَهَذَا أُسْلُوبٌ حَكِيمٌ فِي الْوَعْظِ ، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ وَاعِظٍ, أَنْ يَبْدَأَ وَعْظَهُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الشَّرَفِ, وَشُعُورِ الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْعُوظِينَ, لِتَسْتَعِدَّ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ".ا.هـ كلامُه رحمه الله
وهذا قدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم, حينما أراد توجيه نقدٍ لابن عمرَ رضي الله عنهما, أثْنَى عليه ثناءً عطراً قبل نقده فقال: « نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ».
رابعًا: أنْ يكون ختامُ النقد بطريقةٍ ودية, وجملةٍ وعبارةٍ مُحفِّزة, فختام النقد والنصيحةِ بمثل ذلك, يُعين على تقبُّلها, وتطييبِ خاطرِ صاحبها.
خامسًا: أنْ يكون النقد للتصرف الذي قام به ذلك الشخص, لا أنْ يكون النقد للشخص نفسه.
فبعضُ الناس, قد لا يُعجبه قولُ أو فعلُ أحدٍ من الناس, فيشتغلُ بنتقدِ ذاتِه وتجريحِ شخصِه, وربما اتهم نيَّته وشكَّك في إخلاصه.
وهذا من التعدي والظلم, فقد أختلفُ معك في رأيك وتصرُّفك, لكن لا يجوز أنْ أقدح فيك وأتهجَّم عليك.
كان بين خالدِ بن الوليد وسعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنهما كلامٌ وسوءُ تفاهم, فذهب رجلٌ يقع في خالدٍ عند سعد بن أبي وقاص فقال: مه, إنَّ ما بَيْنَنَا لم يَبْلُغْ دِيْنَنَا.
سادسًا: أنْ يكون النقد في وقتٍ وجوٍّ مُناسبٍ, فبعضُ الناس لا يُراعي الوقت المناسب في نقده, فيُوقعَ في نفس من نقده الحرجَ والألم.
سابعًا: التوازن بين الثناء والنقد, فلا يُعقل أنْ تُكثر من نقدِ أحدٍ مهما كان, دون أنْ يسمع منك ثناءً عطرا, أو مدحاً صادقاً.
فالنفس البشرية لا تقبل مثل هذا, وترى أنَّ مَن ينقُدها ولا يُثني عليها, مُتحاملاً وحاقداً, أو مُجحفاً مُتتبعاً للزلاَّت.
ثامنًا: عدمُ الإكثار من النقد لشخصٍ واحد, فالإكثار منه يتحول إلى عداوةٍ أو سآمةٍ.
تاسعًا: لزوم الحسنى في المقال، وانتقاءُ اللفظ، وتخيُّر الكلمات، فما كان الرفقُ في شيء إلا زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه، والله تعالى أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، بل أمر بذلك جميع المؤمنين فقال: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾.
فالواجب على الناقد أنْ يَنْتقيَ أحسن الألفاظ والعبارات, ويبتعدَ عن الأساليبِ التي تُثيرُ وتُؤْلم, وتُفسدُ ولا تُصلح.
واعلموا -معاشر المسلمين- أنه بدون هذه الضوابط في النقد: قد تكون كلمات الناقد سهامًا يغرسها في قلب من نقده, وسيفاً يقطع به طُموحه وعزيمته.
فكم سمعنا من الناس من يُحدِّث أنه كان في صباه, يُحبُّ علمًا من العلوم, كالشعر أو الأدب, أو العلمِ الشرعيِّ أو الصناعة, فواجهه مُعلمه أو بعض الناس بنقدٍ لاذِع, فصرف عنايته واهتمامه عن هذا العلم, الذي ربما لو شجعه لأصبح له شأنٌ كبيرٌ.
هذه - يا أمة الإسلام- أهمُّ آدابِ نقدِ الآخرين, فمن أراد أنْ ينتقد أحدًا فينبغي له أنْ يحرص على التحلي بها, والأخذِ بها, حتى يكون محبوبًا في ذاته, ويَنْتَفِعَ الناسُ من نقدِه.
نسأل الله تعالى أنْ يُوفقنا لشكر الناس على محاسن أعمالهم, والتعاملِ الصحيح مع أخطائهم, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: عرفنا آداب النَّاقد, فما هي آدابُ مَنْ وُجِّه إليه نقدٌ من ناصحٍ مُشفق, أو قُوبل بنصيحةٍ من مُخلصٍ ناصح, الذي التزم وأتى بآداب النقد البناء؟.
إنَّ أعظم أدبٍ يجب أنْ يأخذ به: أنْ يتقبل ذلك بصدرٍ رحْب, ويَقْبَلَ ما جاء به من الحق ويعملَ به.
ومن لم يقبلِ الحقّ من أيٍّ أحدٍ كان فهو مُتكبر, قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الكِبْر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناسِ) .
فالمتكبر يرد الحق، ويُعرض عنه ولا يقبله؛ لأنه معتدٌّ برأيه، جازمٌ بصواب عمله, ومع ذلك يحتقر الناس ويزدريهم؛ لأنه يرى نفسه فوقهم.
وقد سُئل أحدُ الحكماء: ما التواضع؟ قال: ألا تقابل أحداً إلا رأيت له الفضل عليك، بكلمةٍ قالها لك، أو معروفٍ أسداه إليك، أو ابتسامةٍ قابلك بها.
قال ابن القيم رحمه الله: من علامات الخشوع: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خُولِفَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ: اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ.
وقال رحمه الله: لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ, حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ, وَمِمَّنْ تُبْغِضُ, فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ, كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. ا.ه كلامه
ومن أعظم آدابه: شُكرُه على ذلك والثناءُ عليه؛ لأنه يعلم أنَّه ما نقده بأسلوبٍ لطيفٍ إلا من محبَّته له, وإشفاقِه عليه.
وإنَّ من يُذَكِّرُنا بأخطائنا, ويُنبِّهُنا على عُيوبنا, قد أسدى لنا معروفاً عظيماً, فجزاؤه أن نشكرَه ونُثنيَ عليه, ونأخذَ بقوله ونعملَ به, فهذا من علامةِ الإيمان وصفاءِ القلب.
علامةُ شكرِ المرء إعلانُ حمده ... فمن كتم المعروف منهم فما شكر
نسأل الله تعالى, أنْ يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه, وأنْ يأخذ بأيدينا لقبول الحقّ والرُّجُوعِ إليه, إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق