أنهلك وفينا الصالحون؟

عبدالعزيز بن محمد
1442/05/23 - 2021/01/07 15:13PM

أيها المسلمون: تَظَلُّ الحياةُ هانئةً راضيةً وارفَة..  تَحُفُّها السكينةٌ وتغشاها الطمأنينةُ.   العيشُ فيها رغيدٌ، والبقاءُ فيها سعيدٌ.  طاهرةٌ أردانُها، نقيةٌ أوقاتُها، صافيةٌ لحظاتُها.  ما لم تُلَوَّث أجواؤها بسمومِ المُهلِكات، وما لم تُدَنَّس بشيوعِ المنكرات.

تَظَلُّ الحياةٌ طيبةً.. ما بَقِيَتْ مُسْتَقِيمَةً على أمرِ الله قانِتةً، خاضِعةً لِحْكْمِهِ ساجدة، مهتديةً بِهَدْيِه، مُسْتَمْسِكةً بشريعته.  فإذا ما تجاوز الإنسانُ أمرَ ربِه وطغى، وجاهرَ بالمُنكرِ وبغى، وارتفعت للمنكرات في الناسِ أعلامٌ، وعَلَت لها في الأرض رايات، وَخَبَتْ جذوةُ الإصلاحِ.. وحفَتَ صوت الناصح، ووهنت عزيمةُ المُصلِحِ، وفَتَرَتِ النفوسِ عن القيامِ بشعيرةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

انْقَلَبَتِ النِّعَم وولَّت.. وأقبلت النِّقَمُ وحَلَّت..   تَتَرَحَّلُ النِّعَمُ عنهم تِبَاعاً، وتتوالى المصائبُ عليهم سِراعاً، قَسْوَةٌ في القلوبِ بعدَ لين، وتلك من أعظم العقوبات وأشْنَعها {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً..} وعُسْرٌ في العيشِ بعدِ يُسْرٍ، وضيقٌ في الرِّزقِ بعدَ سَعَةٍ، وتَسليطٌ للعدوِّ، وانتشارٌ للأوبئةِ، ومحقٌ للبركةِ، وتَنَوُّعٍ للبلاء.   وآثارُ الذنوبِ المنكراتِ في الأرض لا نهايةَ لها..  يُنْزِلُ الله على عبادِه بعضَ آثارِها المؤلمةِ.. لعلهم يَرْعَوون، لعلهم يؤُوبون، لعلهم يتذكرون، لعلهم يُصلِحونَ ما فَسَدَ مِن أحوالِهم ولربِهم يرجعون {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}

وتلك حقيقةٌ لا يرتابُ فيها مؤمنٌ، ولا يُجادلُ فيها إلا المُفتَرون، تَنْزِلُ بالمجتمعاتِ المصائبُ.. فيراها المؤمنُ من الله نذارةً حَلَّت بسببِ ما اقترفه الناسُ من آثام، وأما مَن في قلوبِهم مرضٌ.. فهم عن الآياتِ النُّذُرِ مُعْرِضُوْن  {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}.  

عباد الله: المنكراتُ والآثامُ.. كوارِثُ وأوبئةٌ ونكباتٌ تَفُتِكُ بالأمم،  يسري في الناسِ ضررها، ويَنْتَشِرُ فيهم خطرها، تُقاوَمُ بالنُّصحِ والدعوةِ والإصلاحِ والأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر..

يبدأُ المُنْكَرُ في الناسِ غريباً.. فَيَدُبُّ فيهم رُوَيْداً رُوَيْداً.. فإذا ما قُوبِلَ بالرفضِ والرَّد والإنكارِ تلاشى وتَبَدَّد، وإذا ما أُمْهِل وأُهْمِلَ.. انْتَشَرَ في المجتمعِ وتَمَدَّد.

وإذا تغلغلَت المنكراتُ في أوساطِ المجتمعات.. وتكاثَرَت الذنوبُ واستوطنت، واستقرَّت وتمكنت، تَعْتادُ النفوسُ على مشاهدَتِها، فَيَغِيْبُ عَن القلوبِ قُبْحُها، وتَتَحَوَّلُ كبائرُ الآثامِ في أعيُنِ الناسِ إلى صغائرَ ومُحَقَّرات، فلا يتمعرُ لأجلِها قلبٌ، ولا يرتجِف لشناعتِها فؤاد. تَخْبو جذوةُ الإيمانِ في قلوبِ الناس وتنطفئ.. فلا يَرَوْنَ فِي المُنْكَرِ ما يُنْكَر، ولا يَرونَ في الإنكارِ إلا تدخلاً في شؤونِ الآخرين.

وحينها يكونُ الآمِرُ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ في الناسِ غريباً.. يُنْظَرُ إليه أنَّهُ المُتَخَلِّفُ عن مسيرةِ الإنسان، العائدُ في فِكْرِهِ إلى غابِرِ الأزمان.  وويلٌ للعربِ مِن شَرِّ قد اقترب..  قالت أُمُّ المؤمنين زينبُ بنتُ جحشٍ t يا رسول الله: أَنَهْلِكُ وفِينَا الصَّالحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) متفقٌ عليه

إِنَّ كَثْرَةَ الخَبَثِ لا تَشِيْعُ إلا في المُجْتَمَعاتِ التي تُحْجِمُ عَن القيامِ بفريضةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر.  وإن الخَبَثَ لن يتلاشى بكثرةِ الصالحينَ، وإنما يتلاشى بقيام المسلمين بما أوجبه الله عليهم مِنَ النُّصحِ فيما بَيْنَهُم والإصلاحِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

وإنها لشعيرةٌ يَجِبُ أن تبقى حاضرةً في قلبِ كُلِّ مسلمٍ يؤمنُ بالله ورِسولِه، فَيَعْمَلُ بما أوجبَه الله عليه، إذ هو مُخاطَبٌ بقولِ رسول الله r : (من رأى منكم مُنْكَرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم  مَنْ رأى منكم منكراً.. خِطابُ تَكلِيفٍ لكل مؤمنٍ يرى أمراً يعلمُ أنهُ في شريعة الله منكراً.. فإنه يجب عليه أن يُغَيِّرَ ذاك المُنكرَ ما استطاعَ إلى ذلك سبيلاً، يُنكرُ المنكرَ بيده، إن كان واقعاً تحتَ ولايته وسُلطانِه، فإن لم يَكُنْ له استطاعةٌ ولا ولايةٌ على التغيير باليدِ، فإنه يُنكِرُ المنكرَ بلسانِه.. نُصحاً وموعظةً وتذكيراً، فإن لم يستطع إلى ذلك، فإنه يُنكرُ المنكرَ بقلبِه، فيُبْغِضُهُ ويكرهُهُ ويهجرُ مكانه، ولا يُقيمُ بين ظهراني مُنْكَرٍ وهو يَقْدِرُ على مُفارَقَتِه.

والتكليفُ بإنكارِ المنكرِ على قدرِ الاستطاعة، وكُلُّ عبدٍ جعلَ الله له مِن القدرةِ ما سيحاسِبُه على تقصيرِه فيها،  وأمر الاستطاعةِ يعلمُه الله مِن كُلِّ مُكَلَّف، واللهُ لا يخفى عليه من أمرِ العبادِ خافية.

فإذا قام مِنَ المسلمين مَن يكفي بالأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر.. فإنَّ مَن قامَ بذلك حقق لنفسِه الفوزَ والفلاح، وأسقط الإثم عن باقي المسلمين، قال ابنُ عثيمين ــ رحمه الله ــ : (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي سقط عن الناس، وإذا لم يقم به من يكفي، وجب على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر) قال الله سبحانَه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بارك الله لي ولكم..


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.

أيها المسلمون: صلاحُ الدينِ والدنيا.. بالقيامِ بالأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، أفلحَ مَن هُديَ لذلك وصابر وصبر {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

وإنَّ أمةً يتوانى عَن النُّصْحِ أفرادُها.. ويَكِلُ بعضُهُم أمرَ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكرِ إلى بعض، فتزدادُ فيهم المُنكراتُ وتتضاعَف، ويضعفُ فيهم الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر ويغيب،  يُوشِكُ أن تَغشاهُم من أمرِ الله غاشيةٌ، فلا يفيقونَ مِنها إلا على ويلاتٍ وندامةٍ وحسرات. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}

وإذا أراد الله بقومٍ خيراً.. أيقظَ ضمائرَهم، وقيض لهم أسبابَ النجاةِ، وأبقى فيهم مَن يَمتَهِنُ سبيلَ النصحِ والإصلاح، يَنْفِي عن أهلِه وعن مجتمعهِ وعن أمتِه كُلَّ مُنكرٍ وخَبَث، يأمُرُ بالمعروفِ برفقٍ، وينهى عن المنكرِ بشفقةٍ، ويُذكِّر العبادَ بربِهم حتى يَرْشُدوا.

عباد الله: وإذا رأى المسلمُ مُنْكراً.. فتجاوزَه ولم يُغَيِّرْه مع القدرةِ على تغييرِه.. ما مَنَعَه إلا خَجَلٌ أو تَفُرِيطٌ أو ضعفُ إيمان.. فقد ارتكب مُنكراً يجبُ عليه أن يتوبَ إلى الله مِنه، فَمِنْ صفاتِ القومِ الذين لُعنوا في القرآن {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ  لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}  وإن إشاعةَ أخبارِ المنكراتِ التي تحدثُ في بعض أطرافِ المجتمع، والتَّحَدُّثِ بها في مجالسِ العامةِ، أو تناقُلِها عبر بعض وسائل التواصُلِ، أو بَثِّ بعضِ صُوَرِها، ولو كان ذلك مِن بابِ الاستنكارِ والاستهجان،   إن ذلك مِن إشاعةِ المنكرِ وفيه مخالفةٌ لشريعة الله،  فالنفوسُ إذا كَثُرَ عليها طرقُ المنكرات، هان عليها ما ترى، ووهنت العزائمُ عن مقاومَةِ المنكرِ وإنكارِه، وصارت المنكراتُ يُرَقِّقُ بعضُها بعضاً.

* وإن المسلمَ حينَ يُنكِرُ مُنْكَراً فإنه يستشعرُ أنَّهُ يحقق لنفسِه بذلك الفلاح، ويُقيمُ لها العُذرَ بين يدي الله، ويرجوا الهدايةَ لِمَن خالَفَ أمر اللهِ وانحرفَ {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

* وَخَيرُ الناسِ للناسِ مَن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم، وَبَيَّنَ لهم سبيلَ نجاتِهم، وحذرهم من أسبابِ هلاكِهم، وإن خالَفَ ذلك أهواءَهم وعارض شهواتِهم  {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..}

* الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ.. شعارُ المؤمنينَ وآيتُهُم،  والمنافقون في طريق الغوايةِ يتخبطون، وعن سبيل الله يَصُدُّون ويُعْرِضون {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ  يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ  نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ  إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

اللهم نور بصائرنا، وأصلح أحوالنا..

المرفقات

1610032271_وفينا الصالحون 24ــ5ــ1442هـ.doc

المشاهدات 1978 | التعليقات 0