أنفاس لا تعود (الوقت)
تركي بن عبدالله الميمان
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فَأُوْصِيْكُم ونَفْسِي بِالتَّمَسُّكِ بِالدِّيْنِ، والصَّبْرِ واليَقِينِ؛ ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
عِبَادَ اللهِ: يَعِيْشُ كُلُّ إِنْسَانٍ حَيٍّ، في نِعْمَةٍ عَظِيْمَةٍ، لا يَعْلَمُقَدْرَها حَقًّا إِلَّا المَوْتَى! وَهَذِهِ النِّعْمَةُ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ، لِمَنِاغْتَنَمَهَا، وسَبَبٌ لِلْخَسَارِ لِمَنْ ضَيَّعَها؛ إِنَّهَا نِعْمَةُ الوَقْتِ!
وَلِشَرَفِ الوَقْتِ؛ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ في كِتَابِهِ؛ فَأَقْسَمَ بـ(الفَجْرِ، والضُّحَى، والعَصْرِ)؛ بَلْ أَقْسَمَ بِالزَّمَنِ كُلِّهِ: لَيْلِهِ ونَهَارِهِ؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾.
واللهُ يُقَلِّبُ الوَقْتَ: مِنْ ظُلْمَةٍ إلى إِشْرَاقٍ؛ لإِيْقَاظِ القُلُوْبِ؛ لِذِكْرِ عَلَّامِ الغيوب! قال U: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.
وَمِنْ حِيْنِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الإِنْسَانِ في هَذِهِ الدَّارِ؛ فَهُوَ مُسَافِرٌ إلى دَارِ القَرَارِ؛ ومُدَّةُ سَفَرِهِ: هِيَ عُمُرُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي كُتِبَ لَه! ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.
قال الحَسَنُ: (ابْنَ آدَمَ، إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ؛ كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ، ذَهَبَ بَعْضُكَ!).
وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ
وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْك يَضِيعُ
وَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبْدِ: طُولُ العُمُرِ مَعَ صَلاحِ العَمَلِ؛ قالﷺ: (خَيْرُ النَّاسِ: مَنْ طالَ عُمرهُ، وحَسُنَ عَمَلُهُ).
وكانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ: يَغْتَنِمُونَ أَعْمَارَهُمْ، وَيَغَارُوْنَ على أَوْقَاتِهِمْ! قال الحَسَنُ البَصْرِيُّ: (أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا، كَانُوا على أَوْقَاتِهِمْ؛أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا على دَرَاهِمِكُمْ ودَنَانِيْرِكُم!). قال عَبْدُالرَّحْمَن بنُ مَهْدِيٍّ: (لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَدًا، مَا قَدِرَ أَنْ يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئًا!). قال الذَّهَبِيُّ: (كَانَتْ أَوْقَاتُهُ مَعْمُوْرَةً بِالتَّعَبُّدِ وَالأَوْرَادِ).
والصِّحَّةُ والفَرَاغُ: هُمَا رَأْسُ المال، والرَّابِحُ مَنِ اغْتَنَمَ أَوْقَاتَ العَافِيَة!قال ﷺ: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ،وَالفَرَاغُ). قال ابنُ حَجَر: (أَشَارَ بِقَوْلِهِ "كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" إِلَى أنَّالَّذِي يُوَفَّقُ لِذَلِكَ قَلِيل! فَمَنِ اسْتَعْمَلَ فَرَاغَهُ وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللهِفَهُوَ الْمَغْبُونُ؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ يَعْقُبُهُ الشُّغْلُ؛ وَالصِّحَّةُ يَعْقُبُهَا السَّقَمُ). قالَ ابنُ عُثَيْمِين: (يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ ما دَامَ في حالِ الصِّحَّةِ والفَرَاغ؛ أَنْ يَحْرِصَ على الأَعْمَالِ الصَّالِحَة، حَتَّى إِذَا عَجَزَ عَنْهَا لمرَضٍ أو شُغل؛ كُتِبَتْ لَهُ كَامِلَة).
ولا يَعْرِفُ قَدْرَ أَوْقَاتِ العَافِيَةِ؛ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَأَلْهَمَهُ اغْتِنَامَذَلِكَ! ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. يقول ابْنُ قُدامة: (اغْتَنِمْ حَيَاتَكَ النَّفِيسَةَ، وَاحْتَفِظْ بِأَوْقَاتِكَ العَزِيزَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُمُرَكُلَّهُ قَصِيرٌ، وَالْبَاقِي مِنْهُ يَسِير، وبِهَذِهِ الحَيَاةِ اليَسِيرَةِ:خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيمِ، أَوْ الْعَذَابِ الأَلِيمِ؛ فَلَا تُضَيِّعْ جَوَاهِرَ عُمُرِكَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَاجْتَهِدْ أَلَّا يَخْلُوَ نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِك إلَّا فِيطَاعَةٍ).
وَلَئِنْ كانَ العَمَلُ مَجْهدَةً؛ فَإِنَّ الفَرَاغَ مَفْسَدَةٌ، ونَفْسَكَ إِنْ لَمْتَشْغَلْهَا بِالحَقِّ، شَغَلَتْكَ بِالبَاطِلِ؛ والمُوفَّقُ مَنِ اغْتَنَمَ وَقْتَه، وسَارَعَ إلى جَنَّةِ رَبِّهِ؛ والمَحْرُوْمُ مَنْ حُرِمَ بَرَكَةُ وَقْتِه، ﴿وَكَانَ أَمْرُهُفُرُطًا﴾. يقولُ ابنُ عُثَيْمِين: (إذا رَأَيْتَ وَقْتَكَ يَمْضِي، وعُمُرَكَ يَذْهَبُ، وَأَنْتَ لَمْ تُنْتِجْ شَيئًا مُفِيْدًا ولا نَافِعًا، وَلَمْ تَجِدْ بَرَكَةً في الوَقْتِ؛ فَاحْذَرْ أَنْ يَكُوْنَ أَدْرَكَكَ قَوْلُهُتَعَالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾).
وَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ: أَنْ يَعْرِفَ شَرَفَ زَمَانِهِ وَوَقْتِه؛ فَلَا يَضِيعُمِنْهُ لَحْظَةٌ في غَيْرِ قُرْبَة.
قالَ ابنُ عَقِيل: (لَا يَحِلُّ لي أَنْ أُضِيْعَ سَاعَةً مِنْ عُمُرِي، حَتَّى إِذَا تَعَطَّلَ لِسَانِي عَنْ مُذَاكَرَة، وَبَصَرِيْ عَنْمُطَالَعَة؛ أَعْمَلْتُ فِكْرِيْ في حَالَةِ رَاحَتِي؛ فَلَا أَنْهَضُ إِلَّا وَقَدْ خَطَرَ لِيْ مَا أُسَطِّرُه، وَإِنِّي لَأَجِدُ مِنْ حِرْصِي على العِلْمِ وَأَنَا في الثَّمَانِين؛ أَشَدّ مَمَّا كُنْتُ أَجِدُهُ وَأَنَا ابْنُعِشْرِينَ!).
والمُسْلِمُ يَغَارُ عَلَى أَوْقَاتِهِ أَنْ تَضِيعَ في غَيرِ فَائِدَة؛ فَهُوَ يُحَدِّدُ هَدَفَه،وَيُخَطِّطُ لِوَقْتِه، لَيْسَ عِنْدَهُ فَرَاغٌ أَوْ مَلَل، وَلَا إِحبَاطٌ أَوْ كَسَل!وشِعَارُه: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَنْلا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنيا وَقْتُهَا قَصِيرٌ، فَكُنْ حَرِيصًا على أَوْقَاتِكَ، بَخِيْلًا بِزَمَانِك، وإلَّا سَتَنْدَم حِيْنَ لا يَنْفَعُ النَّدَم! قال ابنُ مَسعودٍ t: (ما نَدِمْتُ على شَيءٍ؛ نَدَمِي على يَومٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ: نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، ولم يَزِدْ فيه عَمَلِي). وقال ابْنُ القَيِّم: (إِضَاعَةُالوَقْتِ؛ أَشَدُّ مِنَ الموت؛ لأَنَّ إِضَاعَةَ الوَقْتِ: تَقْطَعُكَ عَنِ اللهِوالدَّارِ الآخِرَةِ، وَأَمَّا الموتُ: فَيَقْطَعُكَ عَنِ الدُّنيا وأَهْلِهَا).
وَكُلُّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ العُمُر؛ جَوْهَرَةٌ نَفِيْسَةٌ، يُمْكِنُ أَنْيَشْتَرِيَ بِهَا كَنْزًا مِنَ الكُنُوزِ، لا يَتَنَاهَى نَعِيمُهُ أَبَدَ الآبَاد! فَإِضَاعَةُ هَذِهِ الأَنْفَاس: خُسْرَانٌ عَظِيمٌ؛ وَيَظْهَرُ هَذَا الخَسْرَانُيَوْمَ التَّغَابُن! ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ .
واعْلَمُوا أَنَّكُمْ غدًا بَيْنَ يَدِي اللهِ مَوْقُوْفُون، وَعَنْ أَوْقَاتِكُمْ مَسْؤُوْلُوْن؛ و(لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ).
وَكُلُّ غَائِبٍ قَدْ يَعُوْد، إِلَّا الوَقْتَ المَفْقُود! فَهُوَ أَنْفَاسٌ لا تَعُوْد، فَاغْتَنِمُوا أَعْمَارَكُمْ: بِجَمْعِ الحَسَنَات، وَرَفْعِ الدَّرَجَات؛ وَاعْلَمُواأَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ مَحْدُودَةٌ، وَأَنْفَاسَكُمْ مَعْدُودَةٌ! ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
* * * *
* اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في أَوْقَاتِنَا وأَعْمَارِنَا، واسْتَعْمِلْنَا في طاعَتِك.
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
قناة الخُطَب الوَجِيْزَة
https://t.me/alkhutab
المرفقات
1721209362_أنفاس لا تعود (نسخة مختصرة).pdf
1721209363_أنفاس لا تعود (نسخة للطباعة).pdf
1721209363_أنفاس لا تعود.pdf
1721209365_أنفاس لا تعود.docx
1721209365_أنفاس لا تعود (نسخة مختصرة).docx
1721209365_أنفاس لا تعود (نسخة للطباعة).docx