أم المصائب وفاة الحبيب

عبد الله بن علي الطريف
1444/03/10 - 2022/10/06 14:07PM

أم المصائب وفاة الحبيب 1444/3/11هـ

أيها الأحبة: نحن الآن في شهر ربيع الأول، وفي هذا الشهر ولد سيدُ ولدِ آدم، وأفضل الرسل محمد بن عبد الله ﷺ، وفيه هاجر من مكة إلى المدينة تلكم الهجرة التي أعز اللهُ بها الإسلامَ وأهلَه..

وفي هذا الشهر أيضاً وقعت أعظمُ مصيبة على الأمة.. وأكبرُ فاجعةٍ في تاريخ الإسلام.. ألا وهي وفاته ﷺ فما خبر وفاته.؟

فبعد حجّة الوداع رجع ﷺ إلى المدينة، ومكثَ بها أكثر من شهرين، ثم بدأ به الوجع، تقول عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: في يوم من الأيام رجع رسول الله ﷺ من البقيع، فوجدني وأنا أجدُ صُداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! فقال: بل أنا واللهِ يا عائشةُ وارأساه... ثم تتامَّ به وجعُه وهو يدور على نسائِه، حتى اشتدَ عليه، وهو في بيت ميمونةَ، فدعا نساءه فاستأذنهنّ أن يُمرَّضَ في بيتِ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فأذِنَّ له... عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَدْ عَصَبَ رَأسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ؛ فَثَابُوا إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَدَيْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا؛ فَعَجِبْنَا من قَولِ أَبِي بَكْرٍ.!!  فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ.. إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ومودتُه، لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلا سُدَّت إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ. ثم قال: «أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ»

ومكث رسول الله ﷺ يصلي بالناس وهو مريض أحدَ عشرَ يومًا، كان آخرُها يومَ الخميس، قبل موته بأربعة أيام، فصلى بهم المغرب ذلك اليوم، ثم اشتد به المرض حين حضرتِ العشاءُ، فلم يستطع الخروج إلى المسجد، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ ﷺ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَلَمْ يَخْرُج فَأَرْسَلَ ﷺ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، وأعتق النَّبِيُّ ﷺ غِلمانَه، وتصدّق بمالٍ كان عنده، ووهب المسلمين أسلحته.

ثم جاء يوم الاثنين، وما أدراك ما يوم الاثنين.! فقد كان آخرُ يومٍ في حياة الحبيب ﷺ ففِي فَجْرِهِ كَشَفَ ﷺ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَظَرَ إِلَى الصَحَابَةِ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ؛ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: «أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ» وما شعرَ الناسُ أن تلك النظرةَ الحانيةَ الضاحكةَ الباسمةَ هي آخرُ نظرةٍ ينظرها رسولُ الله إليهم، وآخرُ مشهدٍ يرونه فيه.

ولما ارتفع الضحى اشتدَ بِهِ ﷺ الوَجَعُ فَدَعَا فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ َسَارَّهَا فَضَحِكَتْ، تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَبَكَيْتُ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ أَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ.. وَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَتَاهْ، فَقَالَ ﷺ: لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ، إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا..

وكَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» حَتَّى جَعَلَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ. رواه النسائي عن أم سلمة..

وحين اشتد الضحى من ذلك اليوم حانت ساعةُ النزع، وعائشة قد أسندته إلى صدرها، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ الشَرِيفَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٌ» وَعَرَضَتْ لَهُ بُحَّةٌ، ثم رفع يدَهُ أو إِصبَعَهُ وشخصَ بصرُهُ نحو السقفِ، وتحركت شفتاه فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا اللَّهم اغفرْ لي وارحمني وألحقني فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَيَّرُ.. ثم مالت يدُه وفاضتْ روحُه الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية.. فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَبَتَاهْ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأوَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ..  

أيها الإخوة: وتسرّبَ النبأُ الفادحُ من البيتِ المحزونِ ولَهُ طَنينٌ في الاذان، وَثُقْلٌ ترزحُ تحتَه النفوسُ، وتدورُ به البصائرُ والأبصارُ، وشعرَ المؤمنونَ أنَّ افاقَ المدينةِ أظلمتْ، فتركتهم لوعةُ الثُّكْلِ حيارى لا يدرون ما يفعلون.. واشتدَ بالناسِ الكربَ والحزنَ، وغَطَّتْ المصيبةُ عقولَهم، وسُكّرتْ أبصارُهم، وحارت ألبابُهم.. واضطرب المسلمون فمنهم من دُهِشْ فخربط، ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اُعْتُقلَ لسانُه فلم ينطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وحُقَ لهم ذلك..

وَلَمَا سَمَعَ أَبُو بَكْرٍ بِذلِك جَاءَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نزلَ بِبَاب الْمَسْجِد، ثمَّ أقبلَ مكروباً حَزينًا، فَاسْتَأْذنَ فِي بَيتِ ابْنَته عَائِشَةَ؛ فَأَذنت لَهُ رَضِي الله عَنهُما، فَدخل وَرَسُولُ الله ﷺ قد توفّي على الْفراشِ، والنسوةُ حولَه، فخَمَرْنَ وجوهَهُنَّ واستترن، إِلَّا مَا كَانَ من عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ الشريف وَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمْي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، طِبْتَ حيّاً ومَيْتًا، والله لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الـمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا».. قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ثمَّ قُمْت مَعَ النِّسَاءِ أصيحُ وألتدم، وأَغْلَقَ أهلُ النبيِّ ﷺ بابَ بيته عليه وهو مُسجى في فراشِهِ.

أيها الإخوة: ثمَّ خَرَجَ أبو بكرٍ سَرِيعاً من بَيتِ ابْنَته عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ.. وعمرُ واقف في تلك الساعةِ العصيبةِ يَخْطُبُ في الناس مفجوعٌ يقول: إن رسول الله ﷺ ما مات، فقال: اجلس يا عمرُ، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.) [آل عمران:144]. قال ابن عباس: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أَنزلَ هذه الآية حتى تلاها أبو بكرٍ عليهم، فتلقاها الناسُ منه كلُّهم فما أسمعُ بشرًا إلا وهو يتلوها. وأما عمر فقال: والله، ما هو أن سمعتَ أبا بكر تلاها فعرفتُ أنه الحق، فعقِرتُ حتى ما تُقِلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله ﷺ قد مات.

وحدثتْ أحداثٌ كثيرةٌ مهمة فيها عبرةٌ ففي ذلك الضحى.. وقع أمر السقيفة فقد اجتمع المهاجرون والأنصار وجرى حوار طويل بعده، تمت البيعة الخاصة لأبي بكر، ثم صلى رضي الله عنه بالناس الظهر وتمت البيعة العامة.. وهنا تساؤل قد يطرحه أحد؛ فيقول كيف يسعى فضلاء الصحابة في بيعةِ خليفةٍ لرسول الله ﷺ ويتحدثون عنها، وهو لم يبرد جسده الشريف بعد.؟. الجواب: فعلوا ذلك لعلمهم بضرورة أمر الولاية، وأنه لا يصلح وقت وإنْ كان يسيراً إلا وقد تنصب إمام للمسلمين يتولى أمرهم ويدير شئونهم.. فبالولاية تنتظم مصالحُ العبادِ والبلادِ، ويحصلُ الأمنُ والاستقرارُ والاجتماعُ بين أفراد المجتمع.. فالحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد..

الخطبة الثانية:

أما بعد أيها الإخوة: وَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بكرٍ يوم الاثنين، وجاء يَوْمُ الثُّلَاثَاء أقبلَ النَّاسُ على جَهازِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وتولى أهلُ بيتِهِ وبعض مواليه ذلك، ثم اختلفوا كيف يغسلونه هل يجردونه من ملابسه كما يعمل بالموتى، أم ماذا يفعلون.؟ فأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: «أَنْ اغْسِلُوا النَّبِيَّ ﷺ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ» فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ وكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض يَمَانِية، لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة.. وَلما فرغوا من جهازهِ ﷺ في يَوْم الثُّلَاثَاء، وُضع على سَرِيره فِي بَيته، فَدخل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ أَفْوَاجًا، يصلونَ عَلَيْهِ ثمَّ يخرجُون، وَيدخل آخَرُونَ حَتَّى صلوا عَلَيْهِ كلهم لا يؤمهم أحد.

وقرب الفجر ليلة الأربعاء َأرادوا دفنه ﷺ فاخْتَلَفُوا أَيْنَ يُدفَن، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُه ﷺ قَالَ: «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ»، ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ. رواه الترمذي عن عَائِشَةُ وصححه الألباني.

فحفروا قبره ولحدوا له لحداً وأَدخل ﷺ في لحده من قِبل الْقبْلَة، وَنُصب عَلَيْهِ تسع لبنات نصبا، ثم دفنوه وَرُفع قَبره نَحوا من شبر مُسنماً، ووضعت عليه الْحَصْبَاء.. ورش على قبره ﷺ المَاء رشاً وبُدَأَ به من قبلِ رَأسه من شِقَّه الْأَيْمن حَتَّى انْتهى إِلَى رجلَيْهِ..

قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ» وقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَصِحْنَا وَصَاحَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ صَيْحَةً وَاحِدَةً.. وَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالْفَجْرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ بَكَى، فَانْتَحَبَ، فَزَادَنَا حُزْنًا، وَعَالَجَ النَّاسُ الدُّخُولَ إِلَى قَبْرِهِ، فَغُلِّقَ دُونَهُمْ..

فَيَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ! مَا أُصِبْنَا بَعْدَهَا بِمُصِيبَةٍ إِلَّا هَانَتْ إِذَا ذَكَرْنَا مُصِيبَتَنَا بِهِ ﷺ وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقال أَنَسُ: «..مَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» رواه الترمذي وهو صحيح. وَكَانَ أطول النَّاس بكاء يَوْمئِذٍ عقبَة بن عَامر، ومعاذ بن جبل فَقَالَ لَهما عمر رَضِي الله عَنهُم: حسبكما رحمكما الله..

وبعد: فأيُ مصيبةٍ توازي فقدَهُ ﷺ فمصيبةُ المسلمين به ﷺ ليست مثلَ المصائبِ بالآباء والأمهات، والأولاد، والأزواج، والأحباب.. بل لن تأتيَ مصيبةٌ بعدَها أعظمَ منها أبداً إلى يومِ القيامة.! فَقَدْ قَالَ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي» رواه ابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ وصححه الألباني. اللهم توفنا مسلمين، واحشرنا في زمرة النبيين مع الذين أنعمت عليهم...

 

 

المشاهدات 4492 | التعليقات 0