أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 3-2-1443هـ

محمد آل مداوي
1443/02/02 - 2021/09/09 08:21AM

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيرا.

أمَّا بعد: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ الله، واذْكُروا وُقُوفَكُمْ بينَ يَدَيهِ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .

أيها المسلمون: امْرَأةٌ عَظِيمَةٌ، هِيَ بُشْرَى جِبرِيلَ لِرَسُولِ اللهِ r وَرُؤيَاهُ في مَنَامِهِ، وهِيَ زَوجُهُ r في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، ولم يَتَزَوَّجْ بِكرًا غَيرَهَا.. هِيَ فُرقَانٌ بينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَبينَ مُؤمِنٍ وَمُنَافِقٍ.. عَابِدَةٌ زَاهِدَةٌ، عَالِمَةٌ فَقِيهةٌ، مُحَدِّثَةٌ فَصِيحَةٌ، طَاهِرَةٌ مُطَهَّرَةٌ، تَقِيَّةٌ نَقِيَّةٌ، أَقرَأَهَا الرُّوحُ الأَمِينُ السَّلامَ، وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ في لِحَافِهَا وَثَوبِهَا، وَأَحَبَّهَا رَسُولُ اللهِ r طُولَ حَيَاتِهِ، وَتُوُفِّيَ في بَيتِهَا وَفي يَومِهَا وَبَينَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا.

إنَّها الصِّدِّيقَةُ بنتُ الصِّدِّيقِ، أمُّ المؤمِنينَ: عائشةُ بنتُ أبي بَكْرٍ، رضيَ اللهُ عنها وعن أبيها.. وُلِدَتْ في الإسْلَامِ، بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ r بِأربَعِ سَنَوَاتٍ، وَنَشَأَتْ في بَيْتٍ مُسْلِمٍ، قَالَتْ رضيَ اللَّهُ عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّين".

فَكَانَ أَبُوْهَا أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ، وَتَبَعًا لِإِسْلَامِهِ أَسْلَمَتْ زَوْجُهُ أُمُّ رُومَانَ، أُمُّ عَائِشَةَ رضيَ اللَّهُ عنها، فَكَانَ أَبَوَاهَا مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ.

وفِي السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنَ البِعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ خَطَبَها النَّبِيُّ r، وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سَنَوَاتٍ، خَطَبَتْهَا لَهُ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ رضيَ اللَّهُ عنها، فَوَافَقَ الوَالِدَانِ وَزَوَّجَاهُ إيَّاهَا، ولَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ بَلَغَتْ تِسْعَ سَنَوَاتٍ.

وَقَدْ رَآهَا النَّبِيُّ r فِي الْمَنَامِ زَوْجَةً لَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَهَا، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، فعَنهَا رضيَ اللهُ عنها قَالَت: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ r: "أُرِيتُكِ في المَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ،
يَجِيءُ بِكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ [أي: قِطْعَةٍ منه] فَقَالَ لي: هَذِهِ امرَأَتُكَ، فَكَشَفتُ عَن وَجهِكِ الثَّوبَ فَإِذَا أَنتِ هِيَ. فَقُلتُ: إِنْ يَكُن هَذَا مِن عِندِ اللهِ يُمضِهِ" متفق عليه. وَحَظِيَتْ عَائِشَةُ رضيَ اللَّهُ عنها بِحُبِّ النَّبِيِّ r، فَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ t أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ r: "أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا.." متفق عليه.

وبَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن جَعَلَ يُرَاعِي ما يَدُورُ في خَاطِرِهَا تُجَاهَهُ، فَعَنهَا رضيَ اللهُ عنها قَالَت: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ r: "إِنِّي لأَعلَمُ إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضْبَى!" قَالَت: فَقُلتُ: مِن أَينَ تَعرِفُ ذَلِكَ؟! فَقَالَ: "أَمَّا إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلتِ: لا وَرَبِّ إِبرَاهِيمَ"، قَالَت: قُلتُ: أَجَلْ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهجُرُ إِلاَّ اسمَكَ.

وَحِينَ رُمِيَتْ بِالإِفْكِ وَعُمْرُهَا آنَذَاكَ لَا يَتَجَاوَزُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَتْ للنبيِّ r ولأبويها: "لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ؛ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ- لَتُصَدِّقُنّ، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) ".

قال ابنُ كَثيرٍ رحمه الله: "فغَارَ اللهُ لها؛ وأَنْزَلَ بَرَاءتَها في عَشْرِ آيَاتٍ تُتْلَى على الزَّمان؛ فسَمَا ذِكْرُها وعَلا شَأنُها؛ لِتَسْمَعَ عَفَافَها وهيَ في صِبَاهَا؛ فَشَهِدَ اللهُ لها بأنَّها مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ ووَعَدَها بمغْفِرَةٍ ورِزْقٍ كَرِيم" فَرَضِيَ اللَّهُ عنها وَأَرْضَاهَا، وَجَمَعَنَا بِهَا وبأُمَّهاتِ المؤمنينَ فِي دَارِ النَّعِيمِ معَ النبيِّ r والنَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، وحَسُنَ أولئكَ رَفِيقا.. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، فطوبي للمستغفرين!.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله على عَظيمِ نِعْمَتِه، والصلاةُ والسلامُ على رسولِه وأزواجِه وذُريَّتِه.

أما بعد: أَيُّهَا المُسلِمُونَ:

ولَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ r أَحَبَّ أَنْ يَبْقَى عِنْدَ عَائِشَةَ؛ مِنْ حُبِّهِ لَهَا، فَأَذِنَ لَهُ نِسَاؤُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ بِذَلِكَ، قالَتْ رضيَ اللهُ عنها: "إِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r تُوُفِّيَ في بَيتي وَفي يَومِي وَبَينَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَينَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبي بَكرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ r، فَرَأَيتُهُ يَنظُرُ إِلَيهِ، وَعَرَفتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلتُ: آخُذُهُ لَكَ؟! فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلتُهُ فَاشتَدَّ عَلَيهِ وَقُلتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟! فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنتُهُ فَأَمَرَّهُ، وَبَينَ يَدَيهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَيهِ في المَاءِ فَيَمسَحُ بهمَا وَجهَهُ وَيَقُولُ: "لا إِلَهَ إِلا اللهُ، إِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: "في الرَّفِيقِ الأَعلَى"، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.

وقد مَكَثَتْ عَائِشَةُ رضيَ اللَّهُ عنها فِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ تِسْعَ سَنَوَاتٍ، فَمَاتَ عَنْهَا النَّبِيُّ r وَعُمْرُهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا فَقَطْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ r سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَتْ وَعُمْرُهَا خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَدُفِنَتْ مَعَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ r فِي الْبَقِيعِ.

وَبَعْدُ أَيُّهَا المسلمون: فإنَّ التَّذكيرَ بسِيرَةِ النبيِّ r وسِيرَةِ أزوَاجِهِ وأصحَابِه، والاعْتِنَاءِ بها، وتَعَلُّمِها وامتِثالِها؛ خُلُقُ الصَّالحينَ، وطَريقَةُ الصِّدِّيقينَ؛ فَهُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَزْكَاهَا، وَدِينُ اللَّهِ وَصَلَ إِلَيْنَا عَنْ طَرِيقِهِمْ؛ فَلَهُمُ الْفَضْلُ بَعْدَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وهَدَانا -بِما بلَّغَنا مِنْ أخلاقِهمْ- لأحْسَنِ الأخْلاقِ، وَجَعَلَ دَارَ الْخُلْدِ مَأْوَانَا وَمَأْوَاهُمْ.

اللهُمَّ إنَّا نُشْهِدُكَ أنَّا نُحِبُّ رَسُولَكَ r، ونُشْهِدُكَ على حُبِّنَا لأُمِّنا عائشةَ رضيَ اللهً عنها، ولأُمَّهاتِ المؤمنين، وللصَّحابةِ أجمعين. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، اللهم وعُمَّ بالأمن والرخاء جميعَ أوطان المسلمين، يا رب العالمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه وولي عهده لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وأصلح لهم البطانة، واجمع بهم كلمة المسلمين يا رب العالمين.

اللهم احفظ رجالَ أمننا، وانصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم احفظهم بحفظك التام، واكلأهم بعينك التي لا تنام، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا..

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

1631175715_خطبة_3_2_1443_أم_المؤمنين_عائشة_رضي_الله_عنها.docx

المشاهدات 729 | التعليقات 0