أم القرى البلد الآمن

د. محمود بن أحمد الدوسري
1438/12/07 - 2017/08/29 21:36PM

  أم القرى: البلد الآمن

د. محمود بن أحمد الدوسري

 

5/11/1438هـ

       الحمد لله ...

في بقعةٍ من أجدبِ بقاع الأرض وأفقرِها, وفي أرضٍ صخرية صمَّاء, تُحيط الصحراء بها من كلِّ مكانٍ, فلا زرعَ فيها ولا ماء, وتفتقر إلى كلِّ أسباب الحياة والنَّماء, اختار الله مكةَ المكرمة لتكون حَرَمَه الآمن, ولتصبح قَلْبَ الدنيا وعاصمةَ العالَم, ولتكون مدينة مُقدَّسة بأمرٍ إلهي وتقديرٍ رباني, فتزهو على كلِّ بقاع الأرض, وتسمو على كلِّ مدن الدُّنيا.

       وقد شاء الله تعالى أن يختار لها هذا المكانَ بتلك المواصفات رغم قُدرته سبحانه على جعلها جنَّةَ الدُّنيا؛ فيُجْرِي بها الأنهار ويُنْشِئ فيها الحدائق الغَنَّاء والجِنان الخضراء؛ لتكون دليلاً من دلائل قدرته وآيةً من آيات إعجازه, قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].

أيها الأحبة الكرام .. مكة المكرمة ذات خصوصية لا تُشاركها فيها مدينة أخرى على وجه الأرض, فالمدن والأماكن على عادة البشر تتفاضل بما فيها من ثروات, وبما أنعم الله عليها من هبات؛ فهذه تمتلك ثروةً معدنية, وتلك ثروة نفطية, وأخرى ثروة زراعية أو مائية, أو غيرها من سائر الثَّروات المادية الفانية.

       أمَّا البلد الحرام, فمعيار تفاضله ومقياس تمايزه مُغايرٌ لهذه المعايير المادية, فالدِّين هو الأساس الذي به يتمايز, ومن أجله يتفاضل على سائر البقاع والبلدان, فهو بلد الله الحرام, وبه الكعبة المشرفة, والأماكن المقدسة والشعائر المُعظَّمة, وهو قِبلة المسلمين, وبه أعظم تجمُّع على وجه الأرض لعبادة الله تعالى لقضاء مناسك الحج والعمرة.

       وعلى هذا, تحتلُّ مكة - في قلب كلِّ مسلمٍ ومسلمة على وجه الأرض - منزلةً سامية ومكانةً عظيمة, ومما لا شكَّ فيه أن مما يميِّز الأمم ويرفع شأنها ويُعلي قدرها هو مدى احتفائها بمقدَّساتها, وتعلُّقها بتاريخها, وتمسكها بأصالتها, وانطلاقها من ماضيها نحو حاضرها ومستقبلها؛ لذا اهتمَّ المسلمون القُدماء منهم والمُحدَثون بالبلد الحرام أيَّما اهتمام, ومنذ أنْ أُسست هذه الدولة المباركة – المملكة العربية السعودية – وهي تُولِي البلدَ الحرام فائق العناية والاحترام.

       عباد الله ..   وإن من كمال قدرة الله تعالى وحكمته وعلمه, المفاضلة والتخصيص والاختيار بين المخلوقات؛ ففاضل بين الملائكة, وفاضل بين الأنبياء, وفاضل بين البشر, وفضَّل بعض الأزمنة على بعض, كما فضَّل بعض الأمكنة على بعض, كما فضَّل جنة الفردوس على سائر الجنان.

       ومن الأمكنة التي فازت بهذا الفضل والعظمة مكة المكرمة, مهبط الوحي, ومهد الرسالة, حيث فيها بيت تطير الأرواح القلوب شوقاً إليه, {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] (1).

      قال ابن القيم – رحمه الله: (ومما يدل على تفضيلها: أن الله تعالى أخبر أنها أمُّ القرى, فالقرى كلُّها تَبَعٌ لها, وفرعٌ عليها, وهي أصلُ القُرى, فيجب ألاَّ يكون لها في القُرى عديل, فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن "الفاتحة" أنها أمُّ القرآن, ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل) (2).

معشر الأحبة .. إنَّ أوَّل مَنْ نصَّب أنصاب الحرم [أي: علاماته وحدوده] هو إبراهيم الخليل عليه السلام, بدلالة جبريل عليه السلام له, فأراه حدود الحرم, فوضع أنصابها [أي:علاماتها] (3), وقد جدَّد النبي صلى الله عليه وسلم أنصاب

الحرم عام الفتح؛ كما جاء عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما؛ (أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَامَ الفَتْحِ تَمِيمَ بنَ أَسَدٍ الخُزَاعِيَّ فجَدَّدَ أنْصَابَ الحَرَمِ) (4).

       وعلى هذا, فحدود الحرم أمرٌ توقيفي لا دَخْلَ في للعقل, ولا مجال فيه للاجتهاد؛ ومن ثَمَّ كانت الأنصاب وتلك العلامات كي يَخْرُجَ من الحرم ما هو منه, ولا يُزادَ فيه ما ليس منه.

      وقد استمرَّ الأمراء والولاة يجدِّدونها من مختلف النواحي حسب الحاجة حتى بلغ عدد الأعلام المحيطة بالحرم ما يقرب من ألف علم, ويبلغ محيط الحرم المكي: (127 كم), ومساحته: (300ر550 كم2) (5).

     وهناك حدود قديمة للحرم, ذكرها العلماء المؤرِّخون (6), وذلك من كمال عناية العلماء والمؤرِّخين على مرِّ العصور بهذا المكان المُعظَّم, وحديثاً وُضِعَتْ علاماتٌ واضحة غاية الوضوح تُبَيِّن حُدودَ الحرم دون أدنى احتمالٍ لحدوث لبس أو خطأ؛ وذلك نظراً لما يترتَّب على دخول الحرم من أحكامٍ فقهية خاصَّة بالمكان, ومن أهمِّها (7):

       1- من طريق المدينة النبوية (التنعيم): (5ر6 كم).

       2- من طريق جدة السريع: (22 كم).

       3- من طريق الليث الجديد: (17 كم).

       4- من طريق الطائف السيل: (850ر12 كم).

       5- من طريق الطائف الهدا: (5ر15 كم).

      

الخطبة الثانية

       الحمد لله ...

       عباد الله .. للبلد الحرام أسماء كثيرة مشهورة, ورد ذِكْرُها في الكتاب والسنة ولغة العرب, واعتنى العلماء بإبرازها منذ القِدَم, مما يدل على عظم مكانته, وعلو قدره, وأوصل بعضهم هذه الأسماء إلى خمسين اسماً, وهذه العناية الخاصة تدل على شرف المُسمَّى؛ كما قال النووي – رحمه الله: (واعلم أنَّ كثرة الأسماء تدل على عِظَمِ المُسَمَّى, كما في أسماء الله تعالى, وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم, ولا نعلم بلداً أكثرَ أسماءً من مكة والمدينة؛ لكونهما أفضل الأرض) (8).

       إخوتي الكرام .. ومن أسماء البلد الحرام:

1- مكة: وهو أشهر أسمائها وأكثرها لصوقاً بها, ورد ذِكْرُه مَرَّة واحدة في القرآن, في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ...}  [الفتح:٢٤].

       واختلف العلماء في سبب تسميتها مكة: فقيل: سُمِّيَت بذلك؛ لأنها تَمُكُّ مَنْ ظَلَمَ فيها, أي: تُهلكه. وقيل: سُمِّيَت بذلك؛ لِقِلَّة مائها. وقيل: سُمِّيَت بذلك؛ لاجتذابها الناس من الأباعد (9).

2- بكة: وهو من أشهر أسمائها, ورد ذِكْرُه مَرَّة واحدة في القرآن, في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٦]. والراجح أنَّ ومكة وبكة بمعنى واحد, وهو قول عامة أهل اللغة (10).

3- أم القرى: ورد ذِكْرُ أمِّ القرى مرتين في القرآن الكريم, في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:٩٢].    وسُمِّيَت بذلك؛ لأنها أعظَمُ القُرى، وفيها بيتُ اللهِ تعالى (11).

       4- المسجد الحرام: ورد هذا التركيب الوصفي في القرآن الكريم خمس عشرة مرة(12), وقد أُريد به في بعض المواضع: (البلدُ الحرامُ), والحرام مصدر بمعنى المُحرَّم؛ لأن الله تعالى حرَّمه وعظَّمه (13).

قال ابن القيم - رحمه الله: (المسجد الحرام يراد به في كتاب الله تعالى ثلاثة أشياء: نفس البيت, والمسجد الذي حوله, والحرم كلُّه) (14).

5- البلد: ورد ذِكْرُ البلد ثلاث مرات في القرآن الكريم, في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [ إبراهيم:٣٥]؛ وقوله تعالى: {لآ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2]. وبإجماع المفسرين بأن البلد هو: مكة المكرمة (15).

وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما؛ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ هذا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يوم خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ, فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (16).

6- البلد الأمين: ورد ذِكْرُه مَرَّة واحدة في القرآن, في قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:٣]. أي: (وهذا البلدِ الآمِنِ من أعدائه أن يحاربوا أهله, أو يغزوهم) (17), وهذا قَسَمٌ من الله تعالى يدل على شرف مكة وعظيم مكانتها.

       7- البلدة: قال الله تعالى - على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:٩١]. قال الثعلبي – رحمه الله: (يعني: مكَّة, جعلها حَرَماً آمناً، فلا يُسفك فيها دمٌ حرام، ولا يُظلم فيها أحد، ولا يُهاج، ولا يُصطاد صيدها) (18).

       الدعاء ...

________________

الهوامش:

(1) انظر: بيت الله الحرام الكعبة, لمحمد بن عبد الله شبالة (ص7).

(2) زاد المعاد, (1/49-50).

(3) انظر: المغازي, للواقدي (2/270)؛ مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن,

     لابن الجوزي (1/187)؛ شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام, للفاسي (1/86).

(4) رواه ابن سعد في (الطبقات الكبرى), (4/295). وحسن إسناده ابن حجر في

     (الإصابة), (1/183).

(5) انظر: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية وميدانية,

     (ص165)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص34).

(6) انظر: أخبار مكة, للأزرقي (2/131)؛ أخبار مكة, للفاكهي (5/89).  

(7) انظر: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية وميدانية,

     (ص166-167)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم, (ص34)؛ أحكام الحرم المكي

       الشرعية, (ص40).

(8) تهذيب الأسماء واللغات, (3/332).

(9) انظر: جمهرة اللغة, لابن دريد (1/166)؛ غريب الحديث, للخطابي (3/72)؛

     المخصص, (1/52)؛ جمهرة اللغة, (2/984)؛ معجم ما استعجم, (1/269).

(10) انظر: معجم ما استعجم, (1/269)؛ لسان العرب, (2/133).

(11) انظر: مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن, لابن الجوزي (1/327)؛

      القِرى لقاصد أم القُرى, لمحب الدين الطبري (ص651).

(12) تأمَّلْ نماذجَ لذِكر (المسجد الحرام) في أرقام آيات السور التالية:  

      (البقرة:144, 149, 150, 191, 196, 217)؛ (المائدة:2)؛ (الأنفال:34)؛

      (التوبة:7, 19, 28)؛ الإسراء:1)؛ (الحج:25)؛ (الفتح:25, 27).

(13)  انظر: أسماء الكعبة المشرفة في الدرس اللغوي, (ص13).

(14) أحكام أهل الذمة, (1/400).

(15) انظر: تفسير الطبري, (30/242)؛ تفسير ابن أبي حاتم, (10/3447).

(16) رواه البخاري, (3/1164),(ح 3017). ومسلم, (2/986), (ح1353). 

(17) تفسير الطبري, (30/241).

(18) الكشف والبيان, (7/231).

 

المرفقات

القرى-البلد-الآمن

القرى-البلد-الآمن

المشاهدات 590 | التعليقات 0