أموتٌ غيرُ أحياءٍ

عنان عنان
1436/03/01 - 2014/12/23 16:13PM
( الخُطبةُ الاولى )

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينهُ ونستغفرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فَهُوَ المهتدِـ، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ......

أمَّا بعدُ: ها نحنُ عبادَ اللهِ، نودعُ عاماً ونستقبلُ عاماً جديداً، فكيفَ ودعناهُ؟ هلْ ودعناهُ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وذكرٍ للهِ؟، أمْ ودعناهُ بشهواتٍ وملذاتٍ وتكاسلٍ عَنِ الصلواتِ ونظرٍ على المحرماتِ؟ اعلمْ يا عبدَ اللهِ، أنَّهُ كلُّ يومٍ يمُرُّ عليك يُبعدكَ مَنَ الدنيا وُيقربُكَ مِنَ الاخرةِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ في الحديثِ القُدسي: (( يا عبادي إنَّما هيَ أعمالُكم أُحصيها لكم وأُفيَكم إياها، فَمَنْ وجدَ خيراً فليحمدِ اللهَ، ومَنْ وجدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلومنَّ إلَّا نفسَهُ. )).

عِبادَ اللهِ: كُلُنا يَعِرفُ الموتَ، ولَكنْ في الحقيقةِ، هناكَ أنواعٌ شتَّى للموتِ،
مِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ النفسِ، وهذا أعظمُ أنواعِ الموتِ، قالَ سبحانهُ: (( كُلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنَّما توفون أُجوركم يومَ القيامةِ فَمَنْ زُحزحَ عَنِ النَّارِ وأُدخِلَ الجنةَ فقدْ فازَ وما الحياةُ الدنيا إلَّا متاعُ الغرورِ. )) وقالَ سبحانه: (( فأصابتكم مصيبةُ الموتِ )) فَهُوَ مصيبةٌ ما بعدَها مُصيبةٌ، ورزيةٌ ما بعدها رزيةٌ، وطامةٌ ما بعدَها طامةٌ، عندما تاتيكَ المنيةُ، يَجتمعُ عليكَ أهلُكَ ويُحيطونَ بِكَ إحاطةَ المعصمِ، يتمنونَ بقائكَ، ولكنْ لا يستطيعونَ بقائكَ، فإنَّ الذي أعطاكَ الدنيا بلا اختيارٍ منكَ، سوفَ يَسلُبُها بلا اختيارٍ منكَ، فاللهِ ما أخذَ ولهُ ما أعطى وكلُّ شيءٍ عندهُ بمقدارٍ، عِبادَ اللهِ: ما قيمةُ الحياةِ إنْ لمْ تكنْ في طاعةِ اللهِ؟
أمَا قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( خيرُكم مَنْ طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ، وشَرُكم مَنْ طالَ عُمرُهُ وساءَ عملُهُ. ))
قال تعالى: (( فلا تعجلْ عليهم إنَّما نعدُّ لهم عداً )) قالَ ابنُ عباسٍ: نعدُ أنفاسَهم في الدنيا، فإنَّ العينَ قدْ تَطرُفُ ولا تطرفُ الاخرى إلَّا بينَ يدي اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ تعالى: (( الذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلوكم أيُكم أحسنُ عملاً )) فقدمَ الموتَ على الحياةِ، تنبيهاً على أنَّ الحياةَ الحقيقةَ هيَ التي بعدَ الموتِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( اللهمَّ مَنْ آمنَ بكَ وشَهِدَ أنَّي رسولَكَ فحبِّبْ إليهِ لقائَكَ وسَهّْل عليهِ قضائكَ وأقللْ لهُ مِنَ الدنيا، ومَنْ لمْ يُؤمنْ بكَ ولمْ يشهدْ أنَّي رسولَكَ فلا تُحبِّبْ إليهِ لقائكَ ولا تسهّْل عليهِ قضائكَ وأكثرْ لهُ مِنَ الدنيا. )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الكفارِ الذينَ لمْ يُؤمنوا بالاسلامِ، فالاسلامُ حياةُ الروحِ والقلوبِ وَيُخرجُ العبدَ مِنَ الظُلماتِ إلى النُّورِ، قالَ سبحانهُ: (( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122] ))
فالكافرُ ميتُ القلبِ، وإنْ كانَ حيَّ البدنِ.

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ القلوبِ بِضعفِ الايمانِ، والقلبُ الميتِ لا يعرفُ ربَّهُ ولا يهتدي بنورهِ، فالحياةُ الحقيقةُ هيَ حياةُ القلبِ في طاعةِ اللهِ، في البرِ والتقوى، وعُمرُ الانسانِ ومدةُ حياتهِ، هيَ حياتُهُ باللهِ، ولا عُمرَ له سِواها
فإذا اعرضَ العبدُ عَنِ اللهِ، وانغمسَ في مادياتِ الدنيا وطغاها على الروحانياتِ، ضيعَ حياتَهُ الحقيقةَ، ويقولُ: (( يا ليتني قدمتُ لِحياتي )) فقالَ لِحياتي فحياتُنا لمْ تبدأْ بعدَ
قال الله تعالى: (( فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء ))[الروم: 52]، شبَّهَهم في موتِ قلوبِهم بأهل القُبُور؛ فإنهم قد ماتت أرواحُهم، وصارَت أجسامُهم قبورًا لها، فكما أنه لا يسمعُ أصحابُ القبور، كذلك لا يسمعُ هؤلاء.

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ القلبِ بالشهواتِ، عن حُذيفة بن اليَمان قال: سمعتُ رسول الله يقول: «تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصيرَ على قلبَين: على أبيَضَ مثل الصفاء، قلا تضُرُّه فتنةٌ ما دامَت السماواتُ والأرض، والآخر أسود مربادّا، كالكُوز مُجخِّيًا، لا يعرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكرًا، إلا ما أُشرِبَ من هواه».
وكما أنَّهُ إذا مَرِضَ العبدُ فإنَّهُ لا ينفعُ بهِ الطعامُ والشرابُ، كذلكَ القلبُ الذي ماتَ بالشهواتِ لا تنفعُ بهِ المواعظُ، فأصبحتْ قلوبُنا قاسيةً كالحجارةِ، بلْ هيَ أشدُ قسوةً، ونرى أياتِ اللهِ بأعيننا ولمْ نتعظْ، قالَ سبحانهُ: (( وكأينْ مِنْ أيةٍ في السمواتِ والارضِ يمرونَ عليها وهم عنها مُعرضونَ. )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الصلاةِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( سيأتي على النَّاسِ زمانٌ، تُماتُ فيهِ الصلواتُ ))
فقلَّ المصلونَ وكَثُرَ المغنونَ، واللهُ يقولُ: (( اقتربَ للنَّاسِ حسابُهُم وهم في غفلةٍ مُعرضونَ )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الخشوعِ في الصلاةِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أولُ شيءٍ يُرفعُ مِنْ هذهِ الامةِ، الخشوعُ حتى لا ترى فيها خاشعاً. رواه الطبرانيُّ وصححه الالبانيُّ. )). وقرأَ أحدُ السلفِ هذهِ الايةَ: (( يايها الذينَ آمنوا لا تقربوا الصلاةَ وأنتم سُكارى )) فقالَ: كمْ مِنْ إنسانٍ يصلِّ وقدْ أسكرتْهُ الدنيا بشهواتِها ومتاعِها.

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الانجازِ والطُموحِ، والموتُ يعني الياسَ والخمولَ والكسلَ وتعطيلَ الطاقاتِ والبطالةِ، والانجازُ هوَ أنْ تُنجزَ لنفسكَ وأمتكَ ووطنكَ ومجتمعكَ شيئاً، ولقدْ غَرَسَ فينا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الانجازَ والطُموحَ فقالَ: (( إذا سألتمُ اللهَ الجنةَ فأسالوهُ الفردوسَ. )) وقالَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمهُ اللهُ: (( إنَّ لي نفساً تواقةً )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الوقتِ، قالَ الحسنُ البصريُّ رحمهُ اللهُ: (( ما مِنْ يومٍ تنشقُّ فجرُهُ، إلَّا نادَ منادٍ مِنْ قِبَلِ الحقِّ، يا ابنَ أدمَ أنا خلقٌ جديدٌ وعلى عملِكَ شهيدٌ، فتزودّْ منَّي بعملٍ صالحٍ، فإنَّي لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ. ))
والوقتُ كالسيفِ إنْ لمْ تقطعْهُ قطعكَ، ومِنَ المؤسفِ نرى الكثيرَ مِنَ النَّاسِ لا يُبالونَ بضياعِ أوقاتِهم ولمْ يستثمروها بطاعةِ اللهِ والعلمِ النَّافعِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( نعمتانِ مغبونٌ فيها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصحةُ والفراغُ. )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الاخلاقِ، فلا يتصفُ أكثرُ النَّاسِ بُحسنِ الخلقِ، وحُسنِ العشرةِ، ولينِ الكلامِ، والكلامِ الطيبِ، والابتسامةِ المشرقةِ، والنبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: (( تَبَسُّمكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ. )).

نفعني اللهُ وإياكم بهدي كتابهِ، وأجارنا مِنْ خزي عذابهِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ وتوبوا إليهِ، إنَّهُ هُوَ التوابُ الرحيمُ".

( الخُطبةُ الثانيةُ )

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الخلقِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعينَ
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ: ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الرحمةِ مِنْ قلوبِ النَّاسِ، فانتشر الفحشُ والتفحشُ والغلظةُ والقسوةُ وسوءِ الاخلاقِ وسوءُ الجوارِ، فالنَّاسُ لا يشعرونَ ببعضٍ، ونسوا قولَ اللهِ: (( إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ )) ونسوا قولَ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَثَلُ المؤمنينَ في تواديهم وتراحمِهم مثلُ الجسدِ الواحِدِ، إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحُمَّى )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، موتُ الامانةِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( لا تقومُ الساعةُ حتى يظهرَ الفُحشُ والتفاحشُ، وقطيعةُ الرحمِ، وحتى يؤتمنُ الخائنُ، ويُخونُ الامينُ. )) وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: (( إنَّ أولَ ما تَفقدونَ مِنْ دينِكم الامانةُ، وآخرَ ما يبقى الصلاةُ. )).

ومِنْ أنواعِ الموتِ، النَّومُ، فالنومُ أيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ العظيمةِ، الدالةُ على قُدرتهِ سبحانهُ وتعالى، ونعمةٌ مِنْ نعمهِ، قالَ تعالى: (( اللهُ يتوفى الانفُسَ حينَ موتها والتي لمْ تَمُتْ في منامِها فَيُمسِكُ التي قضى عليها الموتُ ويُرسلُ الاخرى إلى أجلٍ مسمَّى إنَّ في ذلكَ لاياتٍ لقومٍ يتفكرونَ. )) وقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( الموتُ أخو النومِ، وأهلُ الجنَّةِ لا يموتونَ ولا يَنامونَ.صححهُ الالبانيُّ رحمهُ اللهُ. ((
وكثرةُ النومِ موتٌ للحياةِ، ومَظِنَّةُ فسادٍ، وفواتٌ للمصالحِ، وقدْ سُئلَ عُمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ عَنْ جِدِّهِ في نهارِهِ وقيامِهِ في ليلهِ، فقالَ: (( إنَّي لوْ نمتُ في نهاري ضيعتُ رعيتي، ولوْ نمتُ في ليلي ضيعتُ نفسي. )) قالَ تعالى: (( وَهُوَ الذي يتوفاكم بالليلِ ويعلمُ ما جرحتم بالنهارِ. ))

يا عبدَ اللهِ: إذا أردتَ أنْ تُحي قلبَكَ فعليكَ بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، والتقوى أنْ تجعلَ بينك وبينَ اللهِ وقايةً مِنْ عذابهِ، وأنْ تراقبَ اللهِ في خلوتِكَ وجلوتِكَ، أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ فإنْ لمْ تكنْ تراهُ فَهُوَ يراكَ، وإذا أردتَ أنْ تَعِرفِ مدى إيمانَكَ، راقبْ نفسَكَ في الخلواتِ، فالايمانُ لا يظهرُ بصلاةِ ركعتينِ وصيامِ نهارٍ، إنَّما يظهرُ بمجاهدةِ النفسِ عَنِ الهوى في الخُلوةِ التي بينَكَ وبينَ اللهِ،
وأسوقُ إليكم قصةً جميلةً عَنِ التقوى (( أُضطرَّتْ امرأةٌ إلى المالِ، فسألتْ رجلاً فلمْ يزلْ يُروادها حتى إذا خلا بها، فقالتْ: إنِّي لمْ أعملْ هذا العملَ في حياتي يوماً قطُّ، فلا تفضحني ولا تُطلعُ علينا أحداً، فقالَ لها: ما تركتُ باباً إلَّا وأغلقتْهُ، فقالتْ لهُ: ولكنْ بقيَ بابٌ لمْ تتركْهُ البابُ الذي بيننا وبينَ اللهِ، فاستحضرَ الايمانُ قلبَهُ، وارتعدتْ فرائسُهُ، فقامَ عَنِ الاثمِ والخطيئةِ بعدَ أنْ كانَ مقترفاً بها. )) إنَّهُ الايمانُ واللهِ الذي يردعُ عَنِ المفاسدِ، وصدقَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذْ قالَ: (( لا يزني الزاني حين يزني وَهُوَ مؤمنٌ. )) ففي هذهِ اللحظةِ يرتفعُ عنهُ الايمان.

عبادَ اللهِ عليكم بطريقِ الحقِّ، ولا يضرُكم بِقلةِ السالكينَ، وإياكم وطريقَ الضلالةِ ولا تغتروا بِكثرةِ الهالكينَ،
وإذا رأيتم النَّاسَ مُنغمسينَ في الشهواتِ، فإنَّ اللهَ يقولُ: (( ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يُؤمنونَ ))".

وصلِّ اللهمَّ وباركْ على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابهِ وسلِّم تسليماً كثيراً".
المرفقات

617.doc

المشاهدات 2009 | التعليقات 1

بورك فيك ونفع الله بك وزادك من فضله وخيره وإحسانه.