أَمِّنْ إِيْمانَك

عبدالعزيز بن محمد
1443/02/02 - 2021/09/09 11:37AM

أيها المسلمون: خلائقُ من الإنسِ لا يُحصيهم إلا الله، يملؤون الأرضَ في أرجائها. قاراتُ الأرضِ تَعُجُّ بِهِم، على اختلافٍ في أجناسِهم وألوانِهم، وألسنتهم وأحوالِهم. يتوارثون هذه الأرضَ استعمَرَهُمُ اللهُ فيها.

إنسانٌ كَرَّمَهُ اللهُ، وفَضَّلَهُ على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً، كَرَّمَهُ بالعقلِ والعلمِ، وأَهَّلَهُ لِحَمْلِ التكاليفِ الشرعيةِ والأوامرِ والنواهي الربانيةِ، فاجتبى منهُ ولياً، وصفياً ونبياً ورسولا.

خَلَقَ اللهُ الإنسانَ في أحسَنِ تقويم، وسَخَرَ لَه ما في السماواتِ وما في الأرض، وَحمَلَهُ في البر والبحر والجوِّ. وأقدرَهُ على العروجِ في مَرَاقي الفضاءِ الأرحَب، لِيُرِيَهُ من عظيمِ الآيات، ولييسرَ له دقائقَ المُخترعاتِ، عَلَّهُ أن يكونَ لِرَبِه شَكُوراً. 

إنسانٌ خَلَقَهُ اللهُ لحكمة ظاهرة، وأوجدَهُ على هذه الأرضِ لِيَبْتَلِيْه، فأبانَ لَه طريقَ الحقِّ من طريق الضلالة، وطريقَ الرشادِ من طريقِ الغواية، وفَصَّل له الآياتِ ولِتَسْتَبِيْنَ سبيلُ المجرمين {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}

خَلَقَ الله الإنسانَ وأوجدَهُ على هذه الأرضِ.. لِيُحَقِقَ العبوديةَ لله حدهُ لا شريكَ له، فبعثَ الأنبياءَ وأرسلَ المرسلين، وأنزلَ الكُتُبَ وأقامَ البراهين، فافترقَ الناسُ في تحقيقِ عبوديتِهم لرَبهم ما بين طائعٍ وعَصِيْ، وسعيد وشقي {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 

وَحُجَّةُ اللهِ على عبادِهِ قَائِمَةٌ، والصراطُ إليه مستقيمٌ، فَمَن سَلكَ دربَ الرَّسولِ وَصلْ، ومن انحرفَ عنه غوى {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}

فَضَلَّ عن الإيمانِ أكثرُ العالمين، زاغوا عَنْ دَرْبِ النَّجَاةِ وانحرفوا عَنْ دَرْبِ الهداية {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}  وللعبادِ موعدٌ للحسابِ لَن يُخلَفُوه، يحشرُون إلى ربهم لِتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}

أيها المسلمون: إِنَّ الهدايةَ للإيمانِ أعْظَمُ مِنَّةٍ وأجَلُّ كرامة. هي حياةٌ والضلالُة موت، هي نورٌ والكفرُ ظلام {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

فَهَلَ أدركَ مؤمنٌ.. أيُّ نِعمَةٍ نالَها؟ وأيُّ كرامةٍ حازها؟ مَنَّ عليك أنْ هَدَاكَ للإيمان.. وأممٌ من الإنسِ و الجنِّ لا يُحصيْهِمْ إلا اللهُ يَتَخَبَّطُوْنَ في ضَلالٍ مُبِين! فَمَن الذي برحمته هداك؟   

* مَنَّ عليكَ أنْ هَدَاكَ للإيمان.. ولم ترَ رسولَ اللهِ عيناك، ولم تَسْمَعْ حَديثَهُ أُذُناك، ولم تَشْهَدْ مواقِفَه ومجالِسَه ومشاهِدَه. وقد شَهِدَ أقوامٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فناصبوه العداءَ، وجاهروا له بالحربِ والصدِّ والبغضاء، فصاروا إلى النار هم فيها خالدون. وأنت َبَيْنَكَ وَبَيْنَ عَهْدِ الرسالةِ أربعةَ عَشَرَ قَرْناً، أنارَ اللهُ لك قلبَكَ.. فَحَبَّبَ إليكَ الإيمانَ وزينَهُ في قلبكَ، وكَرَه إليكَ الكُفرَ والفُسُوقَ والعصيان، فَمَن الذي برحمته هداك؟  وَمَن الذي بفضْلِهِ نَجَّاك؟   

* مَنَّ عَلَيْكَ أنْ هَدَاكَ للإيمانِ.. لَمْ تُدرِك الإيمانَ بشرفِ أصلٍ ولا بِعُلُوِّ نَسَب، ولا بِحِدَّةِ ذكاءٍ ولا بطولِ بحثٍ ولا بعظيمِ سبب.  لَمْ تُدرِك الإيمانَ بِفطنةٍ ولا بنباهةٍ ولا بِـحُسنِ تدبير، ولَكِنَّها مِنَّةٌ مَنَّها عليك اللطيفُ الخبير {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فاحْمَدِ الله الذي بفضْلِهِ هداك؟  

* مَنَّ عَلَيْكَ أَنْ هَدَاكَ للإيمان.. وَلَوْ خَتَمَ على قلبِكَ لما هُدِيتَ، ولو اجتمع مَن في الأرضِ كُلُّهم جميعاً على أن يسلكوا بك درب الهدايةِ لما قَدِروا.  أَكْرَمُ الخَلْقِ على اللهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال له رَبُّه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فَمَن الذي برحمته هداك؟ 

* مَنَّ عليك أنْ هَدَاكَ للإيمان.. فأنت موعودٌ من الله بأكرمِ وَعْدٍ.. إنْ أنت على دربِ الإيمانِ بَقِيْت{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فَمَن الذي برحمته هداك؟

* مَنَّ عليك أنْ هَدَاكَ للإيمان.. فقلبُك في طُمَأنينةٍ وسعادةٍ وانشراح، لم يغَشَكَ في رَبِّكَ شَّكٌ، ولم تُخالِطكَ في دِيْنِكَ ظُنُوْن، تقولُها بصدقٍ وإخلاصٍ وإيمانٍ (رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً) فَمَن الذي برحمته هداك؟  {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بارك الله لي ولكم...


الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً . أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.

أيها المسلمون: إِنَّ الهدايةَ إلى الإيمانِ.. نورٌ يقذفُهُ الله في قلبِ مَن يشاءُ مِنْ عِبادِه، ومَن لم يجعل اللهُ له نوراً فماله من نور.  أدركَ ذلِكَ أعرفُ الناسِ باللهِ، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فعَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ، أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ، يَقُولُ : (وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ، وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا، إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا) رواه البخاري ومسلم

(وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا) قالها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  وأهلُ الجنةِ قالوها مُغْتَبِطِيْنَ بِمِنَّةِ الله عليهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} مَنَّ عليك أنْ هَدَاكَ للإيمان.. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}

* مَنَّ عليك أنْ هَدَاكَ للإيمان.. فأنت محسودٌ وأنت مُحارَب {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يرمونكَ بالشكوك، ويغزونَكَ بالشبهاتِ، ويدعونكَ للصدِّ عن الإيمان. 

رأوكَ منشرحَ الصدرِ على صراطٍ مستقيم.. فلَمْ يهنؤوا بِهَنَائِك، ولم يطيبوا بطمأنيتك، ولم يرضوا بثباتِك. ففتحوا لدروب الضلال عليكَ أبواباً مشرعة {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}

فأَمِّنْ إيمانَكَ أَن يُسْلَبْ، وأَمِّنْ إِيمانَكَ أَن يُخْتَطَف، وأَمِّنْ إِيمانَكَ أَن يَضُعُفْ، وأَمِّنْ إِيمانَكَ أَن يُخْتَرَم.  اعْتَصِمْ بالله.. فَمَن اعتَصَمَ باللهِ وُقِي، ولا تَسْلُكْ طريقَ الحائرين، فمَن سلك دربَ الحيارى هَلَك .

أولُ مُنْعَطَفٍ للزيغِ.. وُلُوجٌ في دهاليزِ الشَّكِ والتذبذبِ والريب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} ولا يزالُ إبْلِيْسُ وجنودُهُ مِنْ شياطينِ الجنِّ والإنسِ، يُشِيْعُوْنَ في الناسِ أسئلةَ الشَّكِ، وَيَنْشُرُونَ فيهم وَسَاوِسَ السُّوءِ،  لتَضِلَّ عقولٌ مؤمنةٌ بعدَ أنْ عَقَلَت، ولتنحرِفَ قلوبٌ مؤمنةٌ بعد أن آمنت باللهِ ورَضِيَت. 

والمؤمنٌ يَنْفُرُ مِنْ وَسَاوِسِ الشياطين، وينأى عن شُبُهاتِ المُلحدين، يحمي دينَه ودِيْنَ عباد الله.  فَهوَ بِنُوْرِ الوَحْيِ يَسْيِرْ، وعلى هَدْيِ الرَّسُوْلِ يَخْطُو. ينشرُ علماً.. يُقْصِيْ بِهِ شُبْهَةً وَيَقْصِمُ بِه ضلالة،  ويدمغُ به باطلاً ويَدْحَرُ بِه شيطان.

يغزو الشيطانُ عقلَ المؤمنِ لِيُوْرِدَهُ الضلال. والمؤمنُ يستقوي عليه بالله. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشيطانُ أحدَكُمْ فيقولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كذا؟ حتى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكْ؟ فإذا بلغه فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ) متفق عليه   توجيْهٌ نبويٌ.. بِهِ تأَمِينٌ للإيمان.. استعاذةِ بالله من الشيطانِ، وانتهاءٌ عن الاسترسالِ مع وَسَاوِسِه. فَمَن أخذَ بهذا التوجيهِ أَمِنْ. 

توجيهُ نبويٌ.. بالكفِّ عن الاسترسالِ مع الوساوسِ والأوهامِ والشُّكوك.  فما الظَّنُّ بِمَن يدعو إلى الخوضِ في غمارها. في دَعَواتٍ شاعَت في العالمِ الإسلامي ليبقى المؤمنٌ أسيراً للوساوسِ قريناً للرِّيَب. في دَعَواتٍ ماكرةٍ.. أورثت في بعضِ المسلمينَ رِدَّةً عن دين الله وكُفراً وإلحاداً.

أَلا إِنَّ المؤمنَ مَسْؤولٌ عن تأَمِينِ دينِه، وَتَأْمِيْنِ دِينِ مَنْ ولاهُ الله عليهم، يُفَقِهُهُم في دينِهم، وينأى بهم عن شُبُهاتِ المبْطلين، ويُقِيمُهُم على تعظيمِ الله، ويُغرِسُ فِيهم معاني أسماِ الله الحسنى وصفاتِه العليا، ويَسلُكَ بِهِم سبيل المؤمنين. {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} اللهم توفنا مسلمين ..

المرفقات

1631187439_أَمِّنْ إِيمانَك 3 ـ2ــ1443هـ.doc

المشاهدات 1787 | التعليقات 0