﴿ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ الجمعة 1441/12/17هـ

يوسف العوض
1441/12/15 - 2020/08/05 19:48PM
الخطبة الأولى
 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى ، وَأَسْعَد وأشقى ، وَأَضَلَّ بِحِكْمَتِه وَهَدَى ، وَمَنَع وَأَعْطَى ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ العليُّ الْأَعْلَى ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى ، وَالرَّسُولُ الْمُجْتَبَى ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى ،  ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ وبعد ..
 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : كرَّمَ اللَّهُ هَذَا الْإِنْسَانَ وَشَرَّفَه وَمَيَّزَه كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } وَهَذَا مِنْ كَرَمِهِ عَلَيْهِم وَإِحْسَانِه الَّذِي لَا يُقادَرُ قَدْرُه حَيْث كَرَّمَ بَنِي آدَمَ بِجَمِيع وُجُوهِ الْإِكْرَام ، فكرَّمَهم بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْأَوْلِيَاءَ والأصفياءَ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِم بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَهُم أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ  إلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَأْبَى لِنَفْسِهِ إلَّا التَّشَبُّهَ بِالْحَيَوَانَاتِ فِي طِبَاعِهَا  وحَظُّه مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : (( وَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ مُتَفَاوِتُون بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي هَمَّ عَلَى أخلاقِها وطباعِها )) .
 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : لذلك يقولُ اللهُ ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكُمْ﴾ أي: كلُّ ما يَدِبُّ في الأرض، وكلُّ ما يَطيرُ في جَوِّ السَّماءِ بجَناحَيهِ، على اختلافِ أنواعِها كلِّها، إنَّما هي أجناسٌ وأصنافٌ مُصَنَّفةٌ مِثْلُكم أيُّها الناسُ؛ خلقْناها كما خلقْناكم، ورزقْناها كما رزقناكم، ويَعْرِف بعضُها بعضًا كما تَعرفونَ ويَتزاوجونَ ويتناسلون ، ولها آجالٌ محدَّدة ، وهي أنواعٌ تختلفُ أيضًا في أحجامِها، وألوانِها، ولُغاتِها ، وقُدراتِها وغيرِ ذلك كما هو واقعٌ بينكم ، ومِنهم مَن يَكُونُ عَلى أخْلاقِ السِّباعِ العادِيَةِ ، ومِنهم مَن يَكُونُ عَلى أخْلاقِ الكِلابِ وأخْلاقِ الخَنازِيرِ وأخْلاقِ الحَمِيرِ ، ومِنهم مَن يَتَطَوَّسُ في ثِيابِهِ كَما يَتَطَوَّسُ الطّاوُوسُ في رِيشِهِ ومِنهم مَن يَكُونُ بَلِيدًا كالحِمارِ ، ومِنهم مَن يُؤْثِرُ عَلى نَفْسِهِ كالدِّيكِ ، ومِنهم مِن يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ كالحَمامِ ، ومِنهُمُ الحَقُودُ كالجَمَلِ ، ومِنهُمُ الَّذِي هو خَيْرٌ كُلُّهُ كالغَنَمِ ، ومِنهم أشْباهُ الثَّعالِبِ الَّتِي تَرُوغُ كَرَوَغانِها ، وقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعالى أهْلَ الجَحِيمِ والغَيِّ بِالحُمُرِ تارَةً  وبِالكَلْبِ تارَةً ، وبِالأنْعامِ تارَةً ، وتَقْوى هَذِهِ المُشابَهَةُ باطِنًا حَتّى تَظْهَرَ في الصُّورَةِ الظّاهِرَةِ ظُهُورًا خَفِيًّا ، يَراهُ المُتَفَرِّسُونَ وتَظْهَرُ في الأعْمالِ ظُهُورًا يَراهُ كُلُّ أحَدٍ ، ولا يَزالُ يَقْوى حَتّى تُسْتَشْنَعَ الصُّورَةُ فَتَنْقَلِبُ لَهُ الصُّورَةُ بِإذْنِ اللَّهِ وهو المَسْخُ التّامُّ ، فَيَقْلِبُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى الصُّورَةَ الظّاهِرَةَ عَلى صُورَةِ ذَلِكَ الحَيَوانِ ، كَما فَعَلَ بِاليَهُودِ وأشْباهِهِمْ ويَفْعَلُ بِقَوْمٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ يَمْسَخُهم قِرَدَةً وخَنازِيرَ.
 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنَ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ ما هي عَلى نُفُوسِ الحَيَواناتِ العادِيَّةِ وغَيْرِها ، وهَذا هو تَأْوِيلُ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكم ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ ﴾ وَعَلى هَذا الشَّبَهِ اعْتِمادُ أهْلِ التَّعْبِيرِ لِلرُّؤْيا في رُؤْيَةِ هَذِهِ الحَيَواناتِ في المَنامِ عِنْدِ الإنْسانِ وفي دارِهِ، أوْ أنَّها تُحارِبُهُ وهو كَما اعْتَمَدُوهُ، وقَدْ وقَعَ لَنا ولِغَيْرِنا مِن ذَلِكَ في المَنامِ وقائِعُ كَثِيرَةٌ فَكانَ تَأْوِيلُها مُطابِقًا لِأقْوامٍ عَلى طِباعِ تِلْكَ الحَيَواناتِ، وقَدْ رَأى النَّبِيُّ ﷺ في قِصَّةِ أُحُدٍ بَقَرًا تُنْحَرُ فَكانَ مَن أُصِيبُ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِنَحْرِ الكُفّارِ فَإنَّ البَقَرَ أنْفَعُ الحَيَواناتِ لِلْأرْضِ وبِها صَلاحُها وفَلاحُها مَعَ ما فِيها مِنَ السَّكِينَةِ والمَنافِعِ والذِّلِّ بِكَسْرِ الذّالِ فَإنَّها ذَلُولٌ مُذَلَّلَةٌ مُنْقادَةٌ غَيْرُ أبِيَّةٍ، والجَوامِيسُ كِبارُهم ورُؤَساؤُهُمْ، ورَأى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ كَأنَّ دِيكًا نَقَرَهُ ثَلاثَ نَقَراتٍ فَكانَ طَعْنَ أبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ، والدِّيكُ رَجُلٌ أعْجَمِيٌّ شِرِّيرٌ.
 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنْ فَوَائِدِ الْآيَة في قولهِ تعالى ﴿ وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكم ...﴾  أنَّ الإنسانَ يجِبُ أن يَعرِفَ قَدْرَ نَفْسِه؛ فهو بالنِّسبةِ لعَظَمةِ الله- عزَّ وجلَّ- كالنَّملةِ ؛ لقوله: أُمَمٌ أَمْثَالُكُم إذَن لا تترفَّعْ ولا تتعالَ ، فما أنتَ إلَّا مِثلُ هذه الدوابِّ بالنِّسبةِ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ ، وإن كانَ الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً ﴾  أي: لم يُفَضِّلْ بني آدَمَ على ما خَلَقَ اللهُ ، بل على كثيرٍ مِمَّا خَلَقَ الله تعالى .
وأَيضَاً مِنْ فَوَائِدِ الْآيَة في قولهِ ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ فيه تَنبيهٌ للمُسْلمين على الرِّفقِ بالحيوانِ ، فإنَّ الإخبارَ بأنَّها أُمَمٌ أمثالُنا تنبيهٌ على المشاركةِ في المخلوقيَّةِ وصفاتِ الحيوانيَّة كلِّها .
 
بـارك اللَّه لـي وَلَكُم بالقـرآن الْعَظِيم ، ونفعنــي وإيَّــاكــم بمــا فِيه مـن الْآيَات والـذكر الْحَكِيم ، وأقـولُ مـا سمـعتم وَاسْتَغْفِرُوا اللـهَ لـي ولــكم مـن كُلِّ ذنـبٍ ، فَيَا فَوْز الْمُسْتَغْفِرِين ويــا نَجَاةَ التــائبين .
 
 
الخطبة الثانية
 
 الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَفَرِّدِ بِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِه وَمَجْدِه ، الْمُدَبَّرِ لِلْأُمُور بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَحَمدِه ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِه ، وَرُبُوبِيَّتِه وَفَضْلِه ورِفْدِه ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، خيرُ داعٍ إلَى هداهُ وَرُشْدِه ، اللَّهُمّ صلِّ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِه وَجُنْدِه .
 
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْخَالِقِ لَهَا سُبْحَانَه ، وَعَلَى إتْقَانِ صُنعِه ، وَعَجِيبِ تَدْبِيرِه ولَطيفِ حِكْمَتِه ، فَإِنَّ فِيمَا أَوْدَعَهَا مِنْ غَرَائِبِ الْمَعَارِفِ ، وغوامضِ الْحِيَلِ ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ ، وَالتَّأَنِّي لِمَا تُرِيدُه ، مَا يَسْتَنْطَقَ الْأَفْوَاهَ بِالتَّسْبِيحِ ، وَيَمْلَأُ الْقُلُوبَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ حِكْمَتِه وَقُدْرَتِه ، وَمَا يَعْلَمُ بِهِ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبثاً ، وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى ، وَأَنَّ لَهُ – سُبْحَانَه – فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ حِكْمَةً بَاهِرَةً وَآيَةً ظَاهِرةً وبرهاناً قاطعاً ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ ، وَأَنَّه الْمُتَفَرِّدُ بِكُلِّ كَمَالٍ دُون خَلْقِه ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
 
 اللَّهُمّ صلِّ وسلِّم وباركْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وارضَ اللَّهُمّ عَن خُلَفَائِه الرَّاشِدِين ، وَعَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ ، وَعَنْ التَّابِعِينَ ، ومَن تبِعهم بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَعَنَّا مَعَهُم بمنِّك وَرَحْمَتك ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

 

المشاهدات 1422 | التعليقات 0