أمك ثم أمك ثم أمك

إبراهيم بن سلطان العريفان
1437/01/24 - 2015/11/06 07:58AM
الحمد لله أمر بالإحسان إلى الوالدين وبِرِّهما، وقَرَنَ حقَّه بحقِّهِما تعْظيماً لشأنِهِما، وبياناً لفضْلِهِما، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسُولُه، وصفِيُّه من خلْقِه، بعثه الله بالهدى ودين الحق، فبلَّغَ البلاغَ المبين، وأدَّى الرسالةَ، ونصحَ الأمَّةَ، وأزالَ بإذنِ ربِّه الغُمَّةَ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ والتابعين ومن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليماً كثيراً.
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى ، فإنَّ تقوى الله هي العروةُ الوثقى، والسعادة الكبرى، والنجاةُ العظمى في الآخرة والأولى ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ).
إخوة الإيمان والعقيدة ... سنقف وإياكم مع القلب الرحيم والصدر الحنون، مع القلب المجبولٌ على الشفقة، مع القلب الذي خلِق يوم خُلِق فركّبت فيه الرحمة، مع القلب الذي يحِبَّ وإن لم يُحَبّ، ويحنو وإن أغلِظ عليه. إنه قلب الأم.
إنها الأم – عباد الله - المخلوق الذي قدّم وضحّى ولم يزل.
أمك يا عبد الله .. كم حزنت لتفرح، وجاعت لتشبع، وبكت لتضحك، وسهرت لتنام، وتحمّلت الصعاب في سبيل راحتك، إذا فرحت فرحت، وإن حزنتَ حزنت، إذا دَاهمك الهمّ فحياتها في غمّ، أملها أن تحيى سعيدًا رضيًّا راضيا مرضيًا،
الأم المخلوق الضعيف الذي يعطي ولا يطلب أجرًا، ويبذل ولا يأمل شكرًا، هل سمعتَ عن مخلوق يحبّك أكثر من ماله! يحبك أكثر من دنياه! يحبك أكثر من نفسه التي بين جنبيه! إنها الأم، الأم وكفى .. رمز الحنان.
تذكَّر حالَ صغرك، تذكّر ضعف طفولتك، فقد حملتك أمك في بطنها تسعةَ أشهر وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وتحملها فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى، وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر، تتصبّر، تتصبّر، وعندما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها واستنشقت ريحك وتحسست أنفاسك تتردّد .. نسيت آلامها وتناست أوجاعها، رأتك فعلّقت فيك آمالها ورأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم انصرفت إلى خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، وتنميك بهزالها، وتقوّيك بضعفها، فطعامك درّها وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، إن غابت عنك دعوتَها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب الخير كلَّه عندها، وتظنّ الشرّ لا يصل إليك إذا ضمّتك إلى صدرها أو لاحظتك بعينها، فلما تم فصالك في عامين وبدأت بالمشي، أخذت تحيطك بعنايتها وتتبعك نظراتها وتسعى وراءك خوفًا عليك، ثم كبرت وأخذت منك السنين، فأخذ منها الشوق والحنين، صورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، صوتك أبدى على مسمعها من تغريد البلابل وغناء الأطيار، ريحك أروع عندها من الأطياب والأزهار، سعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، يرخص عندها كلّ شيء في سبيل راحتك، حتى ترخص عندها نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.
عباد الله .. وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بأدق وصف؛ بل ذكر علامةً تميزه عن غيره، وقبيلته التي يُنْسَبُ إليها، وأخبر عن علو منزلته عند الله وعند ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى أنه صلى الله عليه وسلم أمر البررةَ الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها ؛ لأنه إذا أقسم على الله أبره. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابَه ( يأتي عليكُم أُوَيْسُ ابْنُ عامِرٍ معَ أمْدادِ أهلِ اليمن مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَـرَنٍ ، كان به بَرَصٌ فَبَرِأَ مِنْهُ إلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له والدةٌ هو بها بارٌ ، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ، فإِنِ اسْتـَطَعْتَ – أي يا عمر - أنْ يَسْتَغْفِرَ لك فافـْعَلْ ) فكان عمر إذا أتى عليه أمدادُ أهلِ اليمن يسألهم عنه أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال مِن مُرَادٍ ثُمَّ من قَرَنٍ ؟ قال: نعم ، قال: فكان بك برصٌ فَبَرِأتَ مِنْهُ إلا موضِعَ دِرْهَمٍ؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: وذكر الحديثَ السابقَ وطلب منه أن يستغفر لهُ، فاسْتَغْفَرَ لَهُ . ، إنه أويس بن عامر القَرَنِي الذي منعه بِرُّه بأمِّه قدومَهُ على النبي ليراه ويسمعَ منه.
إن البر بالأم علامةُ كمالِ الإيمان , وحُسْنِ الإسْلام لأنها صاحبةُ القلب الرحيم، والصدر الحنون ، التي سرت الرحمةُ في جسدها كسريان الدم بالعروق، ونفْسُها الطيبة وَسِعَتْ ما لم تسعه ملايينُ النفوس.
إنها الأم .. يا من تريد النجاة، الزم رجليها، فثمّ الجنة، قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟ قال: نعم، قال: برّ أمك، فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموبقات.
إن البر دأب الصالحين وسيرة العارفين، أراد ابن الحسن التميمي قتلَ عقرب فدخلت في جحر، فأدخل أصابعه خلفها فلدغته، فقيل له في ذلك، قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي وتلدغها.
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراءه على ظهره، يقول: إني لها بعيرها المدلَّل، إن أذعِرت ركابها لم أذعر، الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟! قال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة.
أنها ( أمك، ثم أمك، ثم أمك )
نسأل الله تعالى أن يعيننا ويوفقنا في البر لأمهاتنا وآبائنا...
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... مع هذا الحب الفياض، والعطف الرؤوف، والحنان المتدفق، نسمع ونرى من صور العقوق ونكران الجميل، والقسوة العجيبة، والغلظة الرهيبة، وإساءة العمل وسوء التعامل ... ما لا يتحمله عقل ولا قلب.
بالأمس القريب .. وإذا بالخبر العاجل عن شاب يطعن أمه في المنطقة الغربية .. أهذا حق الأم على ولدها!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق ).
إن حق الأم على الولد عظيم، وشانها كبير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنَّ اللهَ يُوصِيكُم بأمهاتِكم ، ثم يُوصِيكُم بأمهاتِكم ، ثم يُوصِيكُم بآبائِكم ، ثم يُوصِيكُم بالأقربِ فالأقربِ
عباد الله .. إن بر الوالدين لا ينتهي بموتهما، جاء رجل من بني سلِمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرّهما بعد موتهما؟ قال ( نعم، الصلاةُ عليهما والاستغفارُ لهما، وانفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحِم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما )
وبر الوالدين يستمرّ في ذرية الإنسان وعقبِه من بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعِفّوا تعِف نساؤكم ) أسأل الله أن يعينني وأياكم على بر الوالدين وطاعتهما والإحسان إليهما أحياء وأمواتًا.
اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم، فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته. اللهم اجزهما عنا خيراً، اللهم اجزهما عنا خيراً، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك. اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين يسقون فيها من رحيق مختوم، ختامه مسك.
المرفقات

862.doc

المشاهدات 1963 | التعليقات 0