أمر الفتوى.. 144/8/2هـ
عبد الله بن علي الطريف
أمر الفتوى.. 144/8/2هـ
إِنَّ الحَمدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]
أَمَا بَعْدُ أيها الإخوة: للفتوى في الأمة أهميةٌ بالغةٌ لشرفها العظيم ونفعها العميم، ولذلك قال ابن القيم عن المفتي: "هُوَ الْمَنْصِبُ الَّذِي تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ رَبُّ الْأَرْبَابِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) [النساء:127] وَكَفَى بِمَا تَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ شَرَفًا وَجَلَالَةً؛ إذْ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) [النساء:176]. وَلِيَعْلَمَ الْمُفْتِي عَمَّنْ يَنُوبُ فِي فَتْوَاهُ، وَلِيُوقِنَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ غَدًا وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ"
وكفى هذا المنصب شرفًا وجلالة أن يتولاه الله تعالى بنفسه". وقال أيضاً رحمه الله: "وَأَوَّلُ مَنْ قَامَ بِهَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَكَانَ يُفْتِي عَنْ اللَّهِ بِوَحْيِهِ الْمُبِينِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ لَهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). [ص:86] فَكَانَتْ فَتَاوِيهِ ﷺ جَوَامِعَ الْأَحْكَامِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى فَصْلِ الْخِطَابِ" أهـ. ثُمَّ قَامَ بِالْفَتْوَى بَعْدَهُ كوكبةٌ أَصْحَابِهِ ﷺ الكِرَامِ وَكَانُوُا أَلْيَنُ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وَأَحْسَنُهَا بَيَانًا، وَأَصْدَقُهَا إيمَانًا، وَأَعَمُّهَا نَصِيحَةً، وَأَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ وَسِيلَةً، وَكَانُوا بَيْنَ مُكْثِرٍ مِنْهَا وَمُقِلٍّ وَمُتَوَسِّطٍ".. فقاموا بها أحسن قيام، فكانوا سادة المفتين وخيرَ مبلغ لهذا الدين، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) [سبأ:6] قال: أصحاب محمد ﷺ.
ثم جاء من بعدهم التابعون وأتباعُ التابعين، وكثيرُ من الأئمةِ المجتهدين والعلماءِ العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم من علم غزير وقلبٍ مستنير ورقابة لله العليم الخبير، فأسدوا إلى الأمة خدمات جليلة كان لها أثر في نشر العلم وإصلاح العمل.
أيها الإخوة: ومما يُظهر مَنْزلة الفتوى أيضًا أنها بيان لأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، ولهذا شبه ابن القيم رحمه الله تعالى المفتي بالوزير الموقع عن الملك، فقال: "إِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنْ الْمُلُوكِ بِالْمَحِلِّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُ، وَلَا يُجْهَلُ قَدْرُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ، فَكَيْف بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ.؟" أ هـ
وبما أن الفتوى بيانٌ لأحكام الله والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن اللهِ فإن القولَ على الله تعالى بغير علم من أعظمِ المحرمات؛ لما فيه من جُرأةٍ وافتراءٍ على الله وإغواءٍ وإضلالٍ للناس، وهو من كبائر الإثم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33] ومما يدل أيضًا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل:116، 117] لهذا هَابَ الفتيا كثيرٌ من الصحابة، وتدافعوها بينهم لِمَا جعل الله في قلوبهم من الخوف والرقابة. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله r يُسأل أحدُهم عن المسألة فيردَّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول.. وفي رواية: ما منهم من أحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.. ولذلك نَجِدُ اَلَّذِينَ حُفِظَتْ عَنْهُمْ الْفَتْوَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِائَةٌ وَنَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ نَفْسًا، مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ فقط.. الْمُتَوَسِّطُونَ فِي الْفُتْيَا مِنْهُمْ ثلاثةَ عشر.. أما البقية فهم مقلون منها.. وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ... وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَأَبِي حُصَيْنٍ قَالُوُا: إنَّ أَحَدَهُمْ لِيُفْتِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.. وَقَالَ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَسُحْنُونُ: "أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا". وَعَن عَطاءِ بنِ السَّائِبِ التَّابِعِيّ: "أدركتُ أَقْوَامًا يُسْأَلُ أحدُهم عَن الشَّيْءِ فيتكلمُ وَهُوَ يَرْعُدُ".. يقصد من الخوف من الفتوى.
بل نُقِلَ عن الأئمةِ الأربعةِ في ذلك ما يدلُ على تورعِهم عن الفتوى.. فقد قَالَ الإمامُ أَبُو حنيفَة: لَوْلَا الفَرَقُ من الله تَعَالَى أَن يضيع الْعلم مَا أفتيتُ، يكون لَهُم المهنأ وَعليَّ الْوِزْرُ.".. وعن مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رُبمَا كَانَ يُسْأَلُ عَن خمسين مَسْأَلَة فَلَا يُجيبُ فِي وَاحِدَةٍ منها.. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَنْبَغِي لَهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ فِيهَا أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفُ يَكُونُ خَلَاصُهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُجِيبَ فِيهَا.. وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقيل لَهُ إِنَّهَا مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة، فَغَضبَ وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعلمِ خَفِيف، أَمَا سَمِعتَ قَولَ اللهِ تَعَالَى (إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا).. وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب، فقيل له فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب.. وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يُكثر أن يقول لا أدري وذلك فيما عُرف الأقاويلُ فيه.. ومن بعدهم مشايخنا رحمهم الله رحمة واسعة، نعم هكذا كان الأئمة المعتبرين.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: الفتوى بغير علم تؤدي الى الشقاق والفوضى واستسهال الإرهاب وتكفير المسلمين وترويع الآمنين واستباحة الدماء المعصومة.. وتفتح أبواب السوء فكم من هالك بسبب فتوى هؤلاء.
والفتوى بغير علم تؤدى إلى الشك بالمسلمات، وتبلبل الفكر وتنشر الفوضى الفكرية في المجتمع وتضع من قدر العلماء المعتبرين..
ومع الأسف فقد تصدر للفتوى بعض طلاب العلم فأفتوا بقضايا خطيرة بخلاف الفتوى المشهورة فأحدثت هذه الفتاوى عند الناس اضطراباً وشكاً، وصارت فتواهم المرجوحة مادة دسمة لرواد الإعلام الجديد صدروا بها حساباتهم.
أيها الإخوة: لو كان كلُ قولٍ معتبرٌ ما استقام للناس دين ولا عقيدة..
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الناس لا يفصلُ بينهم إلا كتاب مُنَزَّل، أو وحي من السماء، ولو رُدُّوا لأهوائهم فلكل واحد عقل.
أيها الإخوة: وفي خضم هذا التخوض، وكثرة من يبدي في الشريعة حكماً وفي الدين رأيا؛ فإننا نقول كما قال الأولون: إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ولا تبرأ الذمة بمجرد أن تجعل بينك وبين النار مفتياً، ولكن الواجب على المكلف أن يتحرى وأن يعرف مَنْ يسأل، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43].. والبلية كل البلية في القصد إلى الأخذ بأخفِ الأقوال في مسائل الخلاف، وسؤال من ليس أهلاً للفتيا، ممن لا تبرأ به الذمة، ولا يخرج المكلف من التبعة.
وحدود الله لا تستباح بزلة عالم ولا فتوى متعالم، ومن تتبع الرخص؛ فسق بإجماع العلماء، وتحلل من ربقة التكليف، ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله، والبر ما سكنت إليه النفس واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر.
أيها الإخوة: إن اللافت للنظر في المشهد العلمي اليوم، ورغم وجود بقية من أهل العلم تترسم خُطا الأسلاف، وتعي ثقل التركة، إلا أن حِمى علم الشريعة استباحه بعض أنصاف المتعلمين وأرباعهم. حتى إن بعضهم ربما اعتمد على حديث منسوخ، أو استدل بأثر ضعيف، أو اتكئ على شبهة أجاب عنها العلماء.
وأصبحت المسألة الشرعية التي لو عرضت على أبي بكر؛ لجمع لها أهل بدر، ولو سئل عنها أئمة العلم لتدافعوها، أصبحت مادة لمغرد أو مسنب، أو عنواناً جاذباً لحوار فضائي، أو فكرة لرسام هزلي.. فإنا لله وإنا إليه راجعون..
وبعد أيها الإخوة: فقد صدر في رمضان عام 1431هـ أمر ملكي كريم بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء ومن يرى سماحة المفتي أهليته لذلك بعد موافقة ولي الأمر، ويستثنى من ذلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، على أن يمنع منعاً باتاً التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة، وكل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائناً من كان. وبهذا وضع هذا الأمر حدا لمن ركب مركب الفتوى وهو لا يملك من أدواتها شيء. فجزاهم اللهُ عنا كل خير ووفقهم لما يحب ويرضى..