أَمْجَادُ حَافِظِ القُرْآنِ

راكان المغربي
1445/02/07 - 2023/08/23 11:12AM

الخطبة الأولى:

أما بعد:

مَنْ ذا الذي لا يتمنى الرفعةَ؟ ومَنْ ذا الذي يرى المجدَ ولا تُحدِّثُه نفسُه بالارتقاءِ إليه؟

النفوسُ الكبيرةُ دائما ما تَهفُو للصعودِ في المعالي، وتسعى لبلوغِ الأمجاد.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللَّهَ يحبُّ معاليَ الأمورِ ويَكرَهُ سَفسافَها).

واليوم! أنا هنا لأدلَّكم على أعلى مراتبِ المعالي، وأسنى درجاتِ الشرف، التي يمكن أن يبلغَها إنسان..

يقول الله سبحانه وتعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي أن هذا القرآنَ شرفٌ لك ولقومِك، ترتقون به وترتفعون في الدنيا والآخرة.

عباد الله

القرآنُ أعظمُ رفيق، وخيرُ جليس، وأوفى صديق، من صَحبَه نال من الشرف أعلاه، وحاز من الرفعة منتهاها. من صحب القرآنَ فهو المؤهلُ لولاية الرحمن، والقربُ من الكريم المنان. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ الناسِ، وإنَّ أهْلَ القرآنِ أهْلُ اللهِ وخاصَّتُه). أهلُ القرآنِ الذين يحفظونه ويعملون به هم أولياءُ اللهِ الذين اختصّهم الله بمحبته وقربه.

عن عامر بن واثلة رضي الله عنه: أنَّ نَافِعَ بنَ عبدِ الحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بعُسْفَانَ، وَكانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ علَى مَكَّةَ، فَقالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ علَى أَهْلِ الوَادِي، فَقالَ: ابْنَ أَبْزَى، قالَ: وَمَنِ ابنُ أَبْزَى؟ قالَ: مَوْلًى مِن مَوَالِينَا -والمولى اسمٌ يُطلَقُ على العبدِ الذي حُرِّرَ من الرِّقِّ-، فقالَ عمر: اسْتَخْلَفْتَ عليهم مَوْلًى؟! فقالَ نافع: إنَّه قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإنَّه عَالِمٌ بالفَرَائِضِ، فقالَ عُمَرُ: أَمَا إنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قدْ قالَ: (إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ).

هذه الرفعةُ لصاحبِ القرآنِ رفعةٌ سامقةٌ شاهقةٌ، تشمل رفعةَ الدنيا ورفعةَ الآخرة.

فمن رفعةِ حافظِ القرآن أنه هو الذي يُقدَّمُ في الصلاة، يؤمُّ الناسَ ويقودُهم للترقِّي في سلمِ العبودية، في أهم أركانِ الإسلامِ بعدَ الشهادتين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ).

وفي حالِ الاضطرارِ إلى الدفنِ الجماعي فإن حافظَ القرآنِ هو المُقَّدَّمُ، فعن جابر رضي الله عنه: " كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَجْمَعُ بيْنَ رَجُلَيْنِ مِن قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يقولُ: أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ له إلى أحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ".

وقد أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن من إجلالِ الله تعالى إكرامَ حامل ِالقرآن العاملِ به، وذلك لأنه يحمل في صدرِه كلامُ الله، فإكرامُه من تعظيمِ الله وإجلالِه سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من إجْلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشيبةِ المسلمِ، وحاملِ القرآنِ؛ غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطانِ المقسطِ).

هذه المكانةُ الرفيعةُ لصاحب القرآن في الدنيا تجعل الناسَ يغبطونه عليها، وتتشوف نفوسُهم للوصول إليها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهو يَتْلُوهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُنْفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ).

وأما حين تقومُ الساعةُ، فصاحبُ القرآنِ هناك له شأنٌ خاصٌ، ومكانةٌ عاليةٌ مقدرةٌ.

فحين يشتدُّ الموقفُ، ويفزعُ الناسُ من أهوالِ الساعةِ، ويتذكرُ كلُّ إنسانٍ جرائمَه وجرائرَه، يأتي القرآنُ لصاحبِه الذي صاحبَه في الدنيا، وقضى معاه الساعاتِ الطوالَ ليلاً ونهاراً في تلاوةٍ وتدبرٍ، وحفظٍ ومعاهدةٍ. يأتي القرآنُ ليَشفعَ ويُحاميَ ويُدافعَ عن صاحبِه الذي لم ينسَهُ في الدنيا، فلم يخذلْهُ القرآنُ في الآخرة. يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما).

وفي حديثٍ آخرَ يصفُ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين القرآنِ وصاحبِه يومَ القيامة فيقول: (يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: ياربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه ، فيَرضَى عنه).

ويصفُ صلى الله عليه وسلم لنا موقفا آخر فيقول: (يَجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ كالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، يقولُ لصاحبِهِ: هل تَعرِفُني؟ أنا الذي كنتُ أُسهِرُ لَيْلَكَ، وأُظْمِئُ هَواجِرَكَ، وإنَّ كلَّ تاجرٍ مِن وراءِ تِجارتِهِ، وأنا لكَ اليومَ مِن وراءِ كلِّ تاجرٍ؛ فيُعطَى المُلْكَ بيمينِهِ، والخُلْدَ بشِمالِهِ، ويوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، ويُكْسى والِداهُ حُلَّتَيْنِ لا تقومُ لهما الدُّنيا وما فيها؛ فيقولانِ: يا ربِّ، أنَّى لنا هذا؟! فيُقالُ: بتعليمِ وَلَدِكُما القرآنَ)

والموقفُ الأحلى لصاحبِ القرآن، هو ذلك الموقفُ الذي يَسْرُدُ فيه محفوظَه في ذلك اليوم، كما كان يَسْرُدُ محفوظَه في الدنيا على شيوخِه ومعلمِيه، ولكن الفرقَ أن المكافأةَ هناك عاجلةٌ، والجزاءَ حاضرٌ لا يتأخر. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَتكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها). فيقرأ الآية تلو الآية، وبكل آية يرتفع في درجات الجنان درجة بعد درجة.

يُقَالُ يومَ البعثِ للقراءِ              بعدِ الوُرُودِ احْظَوْا بالارْتِقَاءِ

في الدَّرَجَاتِ واقْرَؤُوا القُرْآنَا          وَرَتِّلُوهُ واسْكُنُوا الِجنَانَا

بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

عن حذيفةَ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، هل بعد هذا الخيرِ شرٌّ؟ قال: (فتنةٌ وشرٌّ). قال : قلتُ: يا رسولَ اللهِ ، هل بعد هذا الشَّرِّ خيرٌ؟ فقال : (يا حُذَيفةُ، تعلَّمْ كتابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فيه. تعلَّمْ كتابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فيه. تعلَّمْ كتابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فيه).

أخي في الله

إنَّ أعظم مشروعٍ يجني لكَ الأرباحَ الوفيرة، والمكاسبَ الأكيدة، هو أن تبدأَ في مشروعِ تعلمِ القرآن وحفظِه. وإنَّ أعظمَ مشروعٍ تحفظُ به ولدَك، وتؤمنُ مستقبلَه بإذن الله، هو أن تُلْحِقَه بحلقاتِ تحفيظِ القرآن.

ألا تحبونَ أن تكونوا أنتم وأولادُكم من خيارِ هذه الأمة؟

دونَكم هذا الطريق، طريقُ تعلمِ القرآن. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ).

ولا غرابةَ في ذلك!

فالذي يتعلمُ القرآنَ يقضي ليلَه ونهارَه في تلاوةِ حروفِ القرآنِ وترديدِها وتكرارِها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (منْ قرأَ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها). فتلاوةُ الصفحةِ الواحدةِ من المصحفِ مرةً واحدةً ينالُ بها المرءُ آلافَ الحسنات، وتتضاعفُ تلك الآلافُ كلما كرَّرَ المسلمُ تلاوتَها وترديدِها لحفظِها ومراجعَتِها.

حين يخرجُ المسلمُ من بيتِه ليتعلمَ القرآنَ في المسجدِ، فإنه يأخذُ أجرَ المجاهدِ في سبيلِ الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من دخلَ مسجِدَنا هذا ليتعلَّمَ خيرًا، أو ليعلِّمَهُ، كانَ كالمُجاهدِ في سَبيلِ اللَّهِ).

أجرُ تعلمِ القرآنِ خيرٌ من كلِّ أجورِ الدنيا ومكافآتِها وأعطياتِها، قال صلى الله عليه وسلم: (أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ).

ويقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبينُ لنا بعضَ فضائلِ حلقاتِ القرآن: (ما اجتمعَ قومٌ في بيتِ من بيوتِ اللهِ يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وحفتْهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده).

فهل هناك أربحُ من هذه التِّجارةِ؟ وهل هناك أنجحُ من هذا المشروعِ؟

لا والله!

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.

اللهم علّمنا منه ما جهلنا، وذكّرنا منه ما نُسِّينا، وارزقنا تلاوته وحفظه وتدبره والعمل به آناء الليل والنهار.

المرفقات

1692778251_أمجاد حافظ القرآن.docx

1692778253_أمجاد حافظ القرآن.pdf

المشاهدات 1009 | التعليقات 0