أما من أضاعني المجتمع التّونسي

أنا من أضاعني المجتمع التّونسي

أنهكني السّهر.. أتنقّل من فضائية أجنبية إلى أخرى محلّية.. لعلّي أشاهد أو أسمع ما يطمئنني على المصير و يلقي بي على فراش هجرته منذ ساعة تحرّري من قيود حاكم حكمني بالحديد و النّار، فأجبره أبنائي على الهروب كالفار.....

نهضت من الفراش مبكّر كالعادة.. اتّجهت إلى الشرفة الصغيرة التي كانت تطلّ على العالم.. استنشقت الهواء بقوّة ليملأني بالحيوية و النّشاط.. ثمّ اتّجهت إلى التلفزة ككلّ مواطن ينتظر ما يسعده.. هنّ أربع قنوات.. ثنتان وطنية !! و ثنتان خاصّة.. كان لابدّ أن يختلفن في كلّ شيء.. لكن ماذا تقول ؟.. البلد يعيش الإعتصامات، و الثورات !! و الانتفاضة.. و تلفزاتنا تبثّ الأغاني و الأفلام و المسلسلات.. فأجبرت على الانتقال إلى الجزيرة و العربية لأتلقّى أخبار القصبة و شارع الحبيب بورقيبة و القصرين و رأس جدير من القنوات الأجنبية.. و هذا ما تعوّدنا عليه قبل الثورة !!

و فجأة خطر ببالي التنزّه في هذا الوقت المبكّر من الصباح..

كان كلّ ما في هذا الصباح جميل.. زرقة السماء.. و أشعّة الشمس الذهبية.. و جبال المكان الشامخة التي تقف بكل كبرياء.. كما أن هطول الأمطار الأخيرة و اكتساء الأرض بالوشاح الأخضر المنمق بالأزهار الصغيرة ، شدّني أكثر للابتعاد بالسيارة.. وصلت إلى مكان هالني جماله الرّائع.. تنقلت في هذه الأرض إلى أن وصلت إلى شجرة ضخمة، جذورها ضاربة في الأعماق، متفرّقة الأغصان، يخرج من بين فتحاتها صوت الرّياح..

و فجأة لمحت طيفا لشخص يجلس القرفصاء تحت هذه الشجرة التي لا تقي حرًّا، بل رسمت الشمس بأشعتها التي خرجت من بين الأغصان لوحات حزينة على وجهه.. اقتربت منه، فإذا به شاب في عنفوانه، ما إن لمحني حتّى حاول إفزاعي بنظراته.. تردّدت قليلا، و لكن مجيئي للاستطلاع دفعني للاقتراب أكثر فسألته:

من أنت ؟.. و ما بك ؟..

رمقني بنظرة حزينة تائهة و قد ملأت عينيه الدّموع و انسكبت على وجنتيه في بحار الوحدة و القهر و الضّياع، ظلّ يبكي، فحاولت تهدئته، و بعد جهد توقّف عن البكاء، فقال: أنا من عذّبوني، و هانوا كرامتي، و جوّعوني، ثمّ لمّا طالبت بحقّي قتلوني..

أنا من أضاعني المجتمع التّونسي بأيديهم.. أنا من ضلّ و طالب و حارب و ما زلت.. أنا من سلبت أرضي.. و أعتدي على عرضي.. و سرقت أموالي.. و أهينت إنسانيتي.. أنا من استخدم ككلمة تهدئ الأوضاع، و الكل يعلم و يرى، و لكنّهم لا يتكلّمون ينتظرون.. و لكنّهم عاجزون يترقّبون.. و لكن لا أحد يقدر أن يرتقي إلى مستوى الحدث.. جميعهم يتحيّنون الفرصة لاستغلالها و الركوب عليها..

تعبت من الانتفاضة و الثورة، و لكن ما أثقل كاهلي و أضعف همّتي تقاعس الجميع..

رئيس الجمهورية المؤقت..

الحكومتان الوقتيتان..

التغيير المسترسل للوزراء حسب الأهواء و الموضة..

لجان مطعون في شرعيتها..

و إعلام غير مصدّق أنّه أصبح حرّا..

جماعة قناة نسمة: الأقربون أولى بالمعروف..

و جماعة قناة حنّبعل و الزرّاع يعتمدون على الضيوف الذين يتقنون " تصفية الحسابات "..

و شعب ينام على قرار و يصبح على مرسوم و يمسي على قانون..

هؤلاء كلّهم مكتفين بالقول و الديماغوجية، أمّا الفعل فلا أحد يسمع و يفهم بالرغم من كلّ ما يرونه و يسمعونه..

في الأفق هناك مشروع ضياع و تهميش للشباب التونسي، غير أنّني لم أستسلم فما زلت أحاول و أجاهد وحدي و لن أتخلّى عن مبدئي مهما حصل..

الحقيقة بهرني كلامه، فقلت إذن أنت السلام الذي نسمع به، فقال: نعم أنا السلام الذي يناضل وحيدا.. أنا السلام الذي شجعت الشهداء على الفداء و التضحية لأجل أن تقوم هذه الانتفاضة لتحرير هذه الأرض الطيّبة.. أنا السلام الذي سيحلّ قريبا ليمسح دموع اليتامى، و يعيد المشرّدين، و يواسى الثكالى و المنكوبين.. أنا من سيظهر في هذا الأسبوع بين المعتصمين ليشدّ على أيديهم و يحقن فيهم القدرة على الصمود و الثبات فإنّ النصر آت..

ثم رحل بسرعة و تركني دون أن يكمل حديثه، لم أستطع اللّحاق به، فقد هالني كلامه، و لن أستطع النطق بكلمة.. شعرت بعدها أنّنا مقصّرون في حقّ شبابنا.. و في حقّ وطننا.. و في دعم أهداف أبطالنا الشهداء.. عندها رفعت صوتي و أطلقت آهاتي الحزينة على ثورة شبابنا.. أطلقتها عاليا إلى السماء لتطير بها حمامة بيضاء، ليسمعها النّاس و يشعروا بحال هذه الانتفاضة و ليقفوا معها بعقولهم لا بعواطفهم، حتى تكون النتيجة منحة لا محنة.. فهل من مجيب ؟؟؟

لم يعد لنا مزيد و غدا إن شاء الله هناك جديد

الشّيخ محمّد الشّاذلي شلبي
المشاهدات 1473 | التعليقات 0