ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟

عبدالله اليابس
1439/07/19 - 2018/04/05 18:54PM

العفو                                    الجمعة 20/7/1439هـ  

الحمد لله العفو الغفور, لا تنقضي نعمه ولا تحصى على مر الدهور, وسع الخلائق حلمُه مَهما ارتكبوا من شرور, يتوب على من تاب ويغفر لمن أناب و يجبر المكسور, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الظلمات والنور, و أشهد أن سيدنا محمداً عبده و رسوله المرفوع ذكره في التوراة و الإنجيل والزبور, المزمل بالفضيلة والمدثر بالطهر والعفاف و المبرأ من الشرور, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.

أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة.. يدخل مكة .. التي خَرَج منها قبل سنوات يسيرة.. خرج فاراً بدينه من صناديد قريش .. وقد آذوه وضربوه وسبوه بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه ..

ها هو صلى الله عليه وسلم يدخل مكة اليوم فاتحًا .. ويُجمع له كفار مكة عند الكعبة.. فيأتيها.. ويأخذ بعُضادتي بابها .. ثم يلتفت إلى أولئك الكفرة .. ينظر إليهم فيسألهم: (ما تقولون؟ وما تظنون؟ ما تظنون أني فاعل بكم؟) .. وكأني بهم وقد بَلَغَت قلوبُهم حناجِرَهم .. هذا محمد .. الذي أخرجناه وطردناه وآذيناه .. هذا محمد الذي قاتلناه وقتلنا أصحابَه وأدميناه.. هذا محمد الذي ما تركنا نقيصة إلا وبها وصمناه.. يا ترى .. ماذا يفعل بنا؟ وكيف ينتقم منا؟

هنا تعالت أصواتهم بالصياح: نقول خَيْرًا .. أَخٌ كَرِيمٌ .. وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.. هنا نطق الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه .. نطق بعبارة أصبحت درسًا في مكارم الأخلاق .. نطق ليثبت بفعله قبل قوله أنه ما انتقم لنفسه قط .. وأنه يقدم العفو على الانتقام .. قال صلى الله عليه وسلم: (أقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.. اذهبوا فأنتم الطلقاء !!).. قال الراوي: فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.

أيها المسلمون .. العفو من خصال الكرام .. وأفضل ما يكون العفو عند المقدرة على الانتقام .. وكما أن العفو من أخلاق الكبار فإنه من أخلاق المتقين: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

قال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلًا شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه).

إذا أخطأ عليك أحد أو أساء إليك فإنك بالخيار .. إما أن لا تعفو.. وتأخذَ حقَّك منه يوم الحساب .. وستأخذ حقك بالعدل .. وإما أن تعفو {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.. لكن ما جزاؤك إن عفوت؟

إن لم تعفُ في الدنيا أخذت حقك كاملاً يوم القيامة.. وإن عفوت اليوم فإن الله لم يُسمِّ لك أجرً محددًا وإنما تكفل سبحانه وتعالى بأجرك: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.

إذا وعدك الله بالأجر .. وتكفل به .. فاعلم أن أجرك عند الله عظيم..

عن مبارك بن فضالة قال: كنا عند المنصور فدعا برجل ودعا بالسيف، فقال المبارك: يا أمير المؤمنين، سمعت الحسين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إذا كان يوم القيامة، قام مناد من عند الله ينادي: ليقم الذين أجرهم على الله، فلا يقوم إلا من عفا) فقال المنصور: خلوا سبيله.

روى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي.

الله أكبر .. عفا عن الناس في الدنيا .. فعفا عنه العفو أحوج ما يكون للعفو.. والجزاء من جنس العمل, روى أحمد في مسند وصححه الألباني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (ارحموا تُرحموا، واغفروا يَغفر لكم).

قيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ لأنَّ لذة العفو يلحقها حَمدُ العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم.

قال الشافعي رحمه الله:

لما عفوتُ ولم أَحقِدْ على أحدٍ ***أرحتُ نفسي مِن همِّ العداواتِ

قال بعض البلغاء: "ما ذبَّ عن الأعراض ..كالصفح والإعراض".

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).

إن العافي عن الناس يَعَزّ ويرتفع مرتين: مرة في قلوب الناس بعدم انتقامه.. ومرة يرتفع في منازل الآخرة ..

روى أبو داوود وغيره وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت! ثم أعاد عليه الكلام، فصمت! فلما كان في الثالثة، قال: (اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة).

قال الأصمعي: أُتي المنصور برجل يعاقبه فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين. فعفا عنه.

أيها الإخوة.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آيةً في العفو.. كان العفو له سجية وطبعًا, فهذه عائشة رضي الله عنها كما عند مسلم في صحيحه تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: (لقد لقيتُ من قومك، وكان أشدّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذ عَرَضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني مَلَك الجبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئتَ؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا).

إنه طبع العفو .. وعفو الطبع .. من غير كلفة ولا مراء .. فإن كنتَ تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان لك في رسول الله أسوة.

خذِ العفوَ وأْمُرْ بعرفٍ كما *** أُمرتَ وأعرضْ عن الجاهلين

ولِنْ في الكلامِ لكلِّ الأنامِ *** فمُستحسَنٌ من ذوي الجاه لين

 بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ.. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. لما عرف سلفُنا فضل العفو كان لهم سجية وطبعًا..

فهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه جلس ذات يوم في السوق يبتاع طعامًا، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حُلَّت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: "اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه".

وهذا المأمون يقول: "لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالجرائم".

وهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.. بعد أن عذبه المعتصم عذاباً شديدًا ومات المعتصم وانقشعت الغمة يقول رحمه الله: "كل من ذكرني ففي حل؛ إلا مبتدعًا, وقد جعلت أبا إسحاق ــ يعني المعتصم ــ في حل, ورأيت الله تعالى يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}, وما ينفعك أن يُعذِّب الله أخاك المسلم في سببك؟".

    إذا كنتُ لا أعفو عن الذنبِ مِن أخٍ **وقلتُ أُكافيه فأينَ التفاضلُ

فإن أقطعِ الإخوانَ في كلِّ عسرةٍ **بقيتُ وحيدًا ليس لي من أُواصلُ

ولكنني أُغضي جُفوني على القذَى**وأصفحُ عمَّا رابني وأُجاملُ

إذا كنت تسأل الله العفو .. فاعفُ عن خلقه اليوم يعفو عنك غدًا ..

روى أحمد وغيره وصححه الألباني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًّا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت, واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت, يا رب العالمين.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

20-7-1439

20-7-1439

المشاهدات 3237 | التعليقات 0