(أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) .. سلسلة خطب متجددة للردِّ على الملحدين ..

عبدالله محمد الطوالة
1441/07/08 - 2020/03/03 15:54PM
الحلقة الأولى :
الحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ اهْتدى المهتدون، وبعدلهِ ضلَّ الضَّالون، ولحُكمِهِ خضعَ الخلقُ كلُّهم أجمعون، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، سبحانهُ وبحمده، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ..
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، سبحانهُ وبحمده، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ..
والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هادياً ومبشِّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً منيراً، فبلَّغَ الرسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، صـلَّى اللهُ وسلَّم وبــاركَ  وأنعـمَ  عليـه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنّهار، وسلَّم تسليماً كثيراً ..
أمّا بعدُ: فأوصِيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ، فقد تعرَّفَ إليكم ربُكم بأسمائه وصفاتهِ وأفعالهِ، فاعرِفوه حقَّ معرفتهِ، واقْدُروهُ حقَّ قدْرِه، واشْكُروهُ حقَّ شُكرِه، اصطفى لكم خيرَ رُسلهِ وصفْوةَ خلْقهِ، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وأنزلَ لكم خيرَ كتبهِ وأفضلَ شرائعهِ، كِتَابٌ مُبَارَكٌ، {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ورغبكم في الجنَّة وشوقَكم إليها، فسابقوا فيها وسارعوا إليها، وخوفَكم النَّارَ وحذَّركم منها، فاتقوا النَّارَ ولو بشق تمرةٍ، وأعلَمكم أن عداوةَ الشيطانِ لكم شديدةٌ، {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وكتبَ الموتَ على كلِّ حيٍّ فاستعدوا له .. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: المتأمِّل في القرآن الكريم، يجدُ أنَّه لم يتطرق للحديث عن وجودِ اللهِ جلَّ وعلا كثيراً؛ وما ذاك (والعلم عند الله) إلا لأن الفطرةَ السليمةَ التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها لم تُشكِك في وجود الخالقِ جلَّ وعلا، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وفي صحيح مسلم يقول ربنا تبارك وتعالى: "إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ" ..
إلا أنَّ من المصائب الكبرى التي تفاقمت في هذه الأيام، وأزداد انتشارها، ظاهرةُ الإلحادِ وإنكارِ وجودِ الخالقِ جلّ وعلا .. حيث نلاحظُ ازديادَ الجُرأةِ على التصريح بالمعتقدات والأفكار الشاذة التي تحمل معاني الإلحادِ والكفرِ والزندقةِ، والتشكيك في الثوابت والمقدسات ..
ولا شكَّ يا عباد الله أنَّ الملحِدَ أشدُّ جُرماً من المشركِ وعابدِ الصنم؛ لأنَّ عابدَ الصَنمِ مُقرٌ بوجود اللهِ جل وعلا، وبأنَّه خالقٌ كلِّ شيء، بل ويتوجهُ إليه بكثيرٍ من العبادات، وإنما خلَّدهُ في نارِ جهنمَ شِركُهُ، فهو يعبدُ مع اللهِ غيرُهُ، قال تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .. فأين هذا ممن يجحدُ وجودَ اللهِ تباركَ وتعالى بالكليةِ .. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} ..
إخواني في الله: لقد قرَّرتُ بعد تردُّدٍ طويل أن أطرح هذا الموضوع الشائكّ على مِنبَرِ الجمُعةِ، لأن أولَ خُطوةٍ من خُطواتِ عِلاجِ أيِّ مُشكلةٍ، هي الاعترافُ بوجودِها أولاً، ولأن الرد على المنكرين منهج قُرآني واضح، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} .. ولأنّهُ قد تبينَ أنَّ استمرارَ تجاهُلِ هذه الظاهرةِ قد ساهمَ في استِفحالِها، فلا بدَّ والحالُ كذلك من مُجابهتها .. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .. ولأن درهم وقايةٍ خيرٌ من قنطار علاج .. ولأن صفاءَ العقيدةِ من أعظم ما منَّ الله به على أبناء هذه البلادِ المباركة، وهذا يُحتمُ على كلِّ غيورٍ أن يبذلَ كلَّ ما في وسعه حفاظاً عليها، وحمايةً لأجيالنا الغالية من هذه اللوثات الضالة، التي تُبعثِرُ تماسك المجتمع، وتُفسِدُ لُحمَتهُ، وتزرعُ الشِقاقَ والخِلافَ بين أبنائه ..
معاشر المؤمنين الكرام: لئن كنّا نعترفُ بازديادِ ظاهرةِ الالحادِ، فإن لذلك أسباباً كثيرةً:
أولُها: ضعفُ الحصانةِ العلمية والشرعية، لكثيرٍ من أبناء المسلمين، فإذا صاحبَ ذلك فضولٌ قاتل، وجُرأةٌ على الخوض في أمورٍ أكبرَ من طاقة العقلِ العادي، فقد أودى الانسان بنفسه إلى التهلُكة، وضلَّ ضلالاً مبيناً .. ولا نقول أن الخوضَ في هذه الأمور ممنوعٌ مطلقاً، بل نقول إنهُ لا بدَّ من استعدادٍ علميٍ قويٍ قبل ذلك، وعلى يَدِ شخصٍ خبير، كمن يُريد أن يغوصَ في أعماق البحار، فلا بد أن يتجهز بأجهزةٍ خاصة، ولا بد أن يتدرَّب جيداً، وأن يتدرج في ذلك تحت إشراف مدربٍ خبير، ولا فما أسهلَ أن يغرقَ ويهلك ..
ثاني الأسباب: ميلُ البعض نحو الانفلات من القيود الدينية .. والاستعدادُ لأن يضحي عمداً بتدينه ليتمكن من تلبية شهواتهِ المحرمة بلا أيِّ قيودٍ أو تأنيبِ نفس .. يعني أن يقتل الانسان ضميره، ونفسه اللوامة، حتى لا يبقى في نفسه من ينازعه في المعصية ..
ثالثها: انفتاح القنوات الفضائية وغيرها من وسائل التواصل والإعلام على نشر مثل هذا الفكر الضال، وفتح المجال لأربابه، وتمكينهم من طرح شُبهاتهم، وتشكيك الناس في عقائدهم وأصول دينهم ..
رابعها: التقليد الأعمى والانبهار بالأقوى: فكثيراً ما تنتشر بعضُ الأفكار الخاطئة بين الشباب لا عن قناعة بها، ولكن تقليدًا لغيرهم من الشخصيات المشهورة، أو تأثراً بالأصدقاء الذين انزلقوا في هذه الهاوية ..
خامسها: اعتقادُ البعض أن تنحية الغرب للدين هو السبب الأكبر لتقدمهم، فإذا أردنا أن نصل إلى ما وصلوا، فلا بد أن نتخلى عن الدين كما تخلوا، وهذا خلاف العقل والمنطق، فالعاقل يُحسنُ إذا أحسنَ الناس، وإن اساءوا تجنت اساءتهم ..
سادسها: معاناة البعض من اضطراباتٍ نفسيةٍ عصيبة، نتيجة تعرضهم لظروفٍ قاسية، ومشاكل اجتماعية معقدة، تجعلهم يعيشون صراعاً فكرياً مشوشاً، يفقدون به توازنهم وقدرتهم على التفكير الصحيح، فيكونون بذلك أكثر استجابة للأفكار الإلحادية من غيرهم ..
سابعها: عدم مواكبة الكثير من المشايخ والعلماء للمستجدات المتسارعة .. والتأخر في الرد على الشبهات .. وترك الشباب فريسة لها، خصوصاً مع إحجام الكثير من الشباب عن مناقشة هذه الأفكار خوفاً من أن يتعرض للأحراج أو التصنيف أو العقوبة ..
معاشر المؤمنين الكرام: الإلحادُ فكرٌ ضالٌ مُدمِّر، له آثارٌ ونتائج دنيويةٍ سيئةٌ جداً، خلافاً لما ينتظرُ الملحِدَ من جزاءٍ أخروي مُروع، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} .. فمن أسوءِ نتائجِ الإلحادِ الدنيوية: أن يقعَ الملحِد فريسةً سهلةً للقلق والصراع النفسي .. لأن الالحاد عقيدةٌ فارغةٌ، قائمةٌ على نفي الإله، فهو خَواءٌ روحيٌ وعقليٌ لا يقدمُ حلولاً مقنعة .. وحيث أنَّ هناك تساؤلاتٍ كثيرة، تظلُ تعتلجُ في نفس الملحدِ وعقلهِ، تجعلهُ يعيشُ صِراعاً نفسياً رهيباً .. هل أنا على صوابٍ أم على خطأ؟ ما هي الغاية من وجودي؟ ما هو مصيري بعد الموت؟ .. سلسلةٌ طويلةٌ من التساؤلات التي يزدادُ تأجُّجها مع تعرضِ الملحدِ لما يذكرهُ بالموت، كالأمراض وفقدانِ الأحبةِ .. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ..
ومن نتائج الالحاد السيئة: الأنانية والأثرة: فليس في عقيدة الملحدِ بذلٌ للمعروفِ ولا تقديمٌ للإحسانِ .. فهو لا يفكرُ إلا في نفسه فقط، وأنَّ هذه الدنيا هي جنتهُ وفرصته، فإن لم يستغلها فاتته، ولأنهُ لا يؤمنُ بالآخرة، فهو لا يرجو ثواباً ولا يخافُ عقاباً .. ولذلك فلا يُنتظرُ منه برٌ بوالدٍ، ولا صلةٌ لقريبٍ، ولا وفاءٌ لصديقٍ، ولا إحسانٌ لجارٍ، فضلاً عن أن يقوم بمساعدة محتاجٍ أو إغاثةِ ملهوفٍ .. إلا بقدر ما يعودُ عليه بالفائدة، فمصالحه الخاصة هي التي تشكِّل أخلاقهُ وتصرفاتهِ ..
ومن نتائجِ الالحاد السيئة: الجنوحُ للجريمة والانحراف: فالإلحادُ لا يربي ضميراً، ولا يبني مُراقبةً ذاتية، ولا يُزكي أخلاقاً، ولا يضبِطُ سُلوكاً، بل العكس هو الصحيح .. فالملحد محرومٌ من التوجيه السليم، فاقدٌ لما يردعهُ عن الممنوعِ والحرامِ، سِوى نفسهُ وهواهُ وما يشتهيه .. كسائر الحيوانات همُّهُ أن يملأ بطنه، وأن يقضي وطرهُ بأيِّ طريقة كانت ..
ورابعُ النتائج السيئة: انهيارُ أنظمةِ المجتمع التكافلية، فالأسرة وغيرها من أنظمة المجتمع، إنما تقومُ على التعاون والتكافُل، وعلى الإحسان والتراحم، وعلى البذل والتضحية ابتغاءَ مرضاة اللهِ والدارِ الآخرة، وكلُّ هذا ليس في عقيدة الملحدِ ولا من أخلاقه ..
وخامس النتائج وأسواها: تمزقُ المجتمع وتفرقهُ، وتحولهِ إلى شيعٍ وأحزابٍ مُتصارعةٍ متناحرة، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} ...      
بارك الله ..
 
 
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه واخوانه، وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب ..
معاشر المؤمنين الكرام: الالحاد فكرٌ غريبٌ، وعقيدة فارغة، مصادمٌ للعقل والمنطق، لا يَسنِدُهُ علمٌ ولا دليل .. دليلهُ ردُّ الدليل وجحده .. قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ..}.. والجحود هو ردُّ الحقِّ بعد معرفته، قال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ... والملحِدُ حين جَحدَ وجودَ الِله تبارك وتعالى، فقد استبدلهُ بإلهِ آخر .. فهو يؤمن بأن الكونَ والطبيعةَ أزليةٌ قديمةٌ، ليس لها بداية، وليس لها نهاية، وأنها قد أوجدت نفسها بنفسها عن طريق العشوائية والصدفة .. ولكي نردَّ على هذا الزعم رداً علمياً ومنطقياً ! نحتاجُ لأن نعرِّفَ الصُدفةَ تعريفاً دقِيقاً يُقيدها ويضبطها .. ثم نثبتُ له ولغيره أنَّ الكونَ لهُ بدايةٌ، وله نهاية، وأنه ليس بأزليٍ ولا قديم ..
الصدفةُ أو العشوائيةُ أو طبيعةُ الأشياءِ كما يحلو لهم أن يسموها كذباً .. تعني عندهم أن يتلاقى عُنصرين أو أكثرَ بلا تنسيقٍ، وبلا علمٍ مسبقٍ لأيٍّ منها، فتتداخل هذه العناصرُ بطريقةٍ عشوائيةٍ غير مُنسقةٍ، وبلا مُرجِحٍ لاحتمالٍ على آخر، فيتكونُ من ذلك التداخُل مخلوقٌ أكثرَ تطوراً من العناصرِ التي دخلت في تكوينه، ثم يظلُ هذا المخلوقُ المتطورُ يتقابلُ ويتداخَلُ مع عناصِرَ أخرى، أيضاً عن طريقِ الصدفةِ والعشوائيةِ وبلا تخطيطٍ ولا مُرجحٍ .. وهكذا يظلُ هذا المخلوقُ عبرَ ملايينِ السنينِ ينتقلُ من تطورٍ إلى آخرَ حتى يصلَ إلى الصورةِ الحاليةِ، حيواناً كانَ أو نباتاً أو أيَّ شيءٍ آخر ..
وكما هو واضحٌ من شرحِ التعريفِ فأبرزُ صفاتِ الصدفةِ أنها عمياءُ، بكماءُ، صمّاءُ، خرقاء .. تخبط خبط عشواء، بلا عقلٍ وبلا تفكير، وبلا حكمةٍ وبلا تدبير ..
والملحد حين يعتقدُ أن العالم أزليٌ قديم، ليس له بداية، وليس له نهاية،  فهو اعتقادٌ باطلٌ، تظافرت الأدلةُ العقليةُ والعلميةُ الموثقةُ على بُطلانِه، وعلى اثبات أن الكونَ لهُ بدايةٌ وله نهايةٌ، وأنهُ ليس بأزليٍ ولا قديم ..
فلو كان الكونُ أزلياً قديماً وبلا خالقٍ كما يزعمون، فلا بدَّ أن يكونَ الكونُ هو من خلقَ نفسهُ، والعقلُ والمنطقُ يرفضُ هذا تماماً .. لأنَّ خالقُ الشيءِ لا بدَّ أن يكونَ موجوداً قبل عملية الخلق، أي لا بُدَّ من وجودِ الصانعِ قبلَ الصنعة .. هذا من الناحية العقلية المنطقية، أما من الناحية العلمية فهناك عدة أدلة:
أولها: أن هناك حقيقةٌ علميةٌ ثابتة، توصل لها الفلكي المشهور هابل .. وهي أنَّ المجراتِ والأفلاكَ عموماً في تباعُدٍ مستمرٍ عن بعضها، وبسرعاتٍ هائلة، وقد نسفَ هذا الاكتشافُ خُرافةَ أزليةِ الكونِ من جذورها .. فلو كان الكون يتمدَّدُ مُنذُ الأزل، لكانت النجومُ والأفلاكُ قد تبعثرت وتشتت .. ولكان من المفترض ألا نرى أي جُرمٍ في السماء، لأنها ستكونُ قد تباعدت عن بعضها بمسافات لا نهائية ..
ولو كان الكونُ أزلياً لتساوت درجاتُ حرارتهِ .. فمعلومٌ أن الحرارةَ تنتقلُ من الاجسامِ الحارةِ إلى الاجسامِ الباردةِ حتى تتساوى تماماً .. فلو كانَ الكونُ قديماً أزلياً لفقدت كلٌ النجومِ حرارَتها تماماً، ولتساوت مع غيرها، وهذا ما لم يحدث، فالكون إذن ليس أزلياً ..
وكذلك فقد أكتشف العلماء أن هناك نجوماً تنفجِرُ وتموتُ، وأنَّ هناكَ نجوماً تولدُ وتنشأُ من جديدٍ، ولو كانَ الكونُ أزلياً لاستقرت حالةُ الكونِ وسكنت على حالةٍ واحدة .. أمَا والوضعُ لا يزالُ يتغيرُ ويتبدلُ، فإن هذا لا يدُلُ على الأزليةِ ... إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة ..
وطالما أننا بدأنا هذا الموضوعَ الشائكَ، فلا بُدَّ من استِيفَاءِ الحديثِ عنهُ، ولذا فسيكونُ لنا معَ الإلحادِ وقفةٌ طويلةٌ، قد تمتدُ لعِدَّةِ خُطبٍ قادمة بإذن الله، نبسط فيها الكلامَ عنه، ونقدم الأدلة المتنوعة التي تثبت وجود الخالق جلَّ وعلا، ونردُّ على جميعِ شُبهِ الملحِدين رداً علمياً ومنطقياً مُقنعاً وشافياً بإذن الله، بل وسنطرحُ عليهم أسئلةً كثيرةً عن الإلحادِ نتحداهم أن يجيبوا على أيِّ سؤالٍ منها ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صل ..    
المشاهدات 4370 | التعليقات 7

الحلقة الثانية : الأدلة العقلية في اثبات وجود خالقِ البرية رداً على الملحدين والدهرية
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريك لهُ، لهُ الجلالُ والجمالُ والكمالُ والغنى، منهُ الـمُبتدأُ، وعليهِ الـمُعتمدُ، وإليهِ الـمُنتَهى، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ..
وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ، النبيُّ المصطفى، والقدوةُ الـمُجتبى، فعليه صلَّى اللهُ ما قــلمٌ جــرى .. أو لاحَ  بـرقٌ في الأبــاطِــح أو سَـرى .. والآلِ والصحبِ الكرامِ أوليِ النُّهَى، والتابعينِ وتابعيهم، ومن اقتفَى .. وسلّم تسليماً كثيراً ..
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أن الإيمانَ إذا وقرَ في القلبِ فاضَ على الجوارحِ، فأصبحت الحركات والسكنات كلها للهِ، جاء في الحديث القدسي: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَهُ الذي يسمَع به، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَهُ التي يبطِشُ بها، ورجلَهُ التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنّهُ" .. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: تحدثنا في الخطبة الماضية عن ظاهرة الإلحاد، وذكرنا سبعةً من أبرز أساب انتشارها، ثم ذكرنا خمسةً من أسوأ نتائج الإلحاد وثمراته السيئة في الدنيا، وعرَّفنا الصدفة تعريفاً علمياً، وشرحنا معناها، واثبتنا أن الكون ليس بأزلي ولا قديم، وأن له بداية وله نهاية .. وفيما يتعلق بالأدلة التي تثبت وجود الله تبارك وتعالى، فهي كثيرة جداً، بل ومتنوعة .. فهناك أدلةٌ عقليةٌ منطقية، وهناك أدلةٌ علمية، وهناك أدلةٌ رياضيةٌ حسابية، وغيرها الكثير ..
وسنقف اليوم بإذن الله، مع النوع الأول فقط، بل مع بعض أدلة النوع الأول فقط ..
نسأل الله العون والتسديد، والإخلاص والقبول ..
الدليل العقلي الأول: دليل التصميم الحكيم (العلة الغائية):
يزعم الملحد أن الطبيعة والصدفة هي التي أوجدت كل المخلوقات، وأنه لا هدف لها ولا حكمة من وراء ذلك كله، وهذا يتعارض عقلاً مع ملايين التصاميم الحكيمة، التي تُظهر بوضوح أن هناك هدفاً محدداً من إيجادها بتلك الهيئة المحكمة، يقول الله جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، يعني بلا هدفٍ ولا حِكمة .. ولكي يتضح الأمر أكثر، تخيل وعاءً يحوي مجموعةً من الآلات الدقيقة المختلفة، ولما تأملتها عن قرب تبين لك أن لكلِ واحدةٍ منها مكاناً تركيبياً دقيقاً من الأخرى .. فأخذت تركب هذه الآلاتِ مع بعضها، وعندما انتهيت من تركيب آخر قطعةِ منها، وأصبحت كلُّها جهازاً واحداً متكاملاً، إذا بصوتٍ رتيب يَخرجُ مِنها، دققت في الأمر فإذا هو صوتُ ساعةٍ زمنية .. فما الذي ستفهمه من هذا كله ؟ .. ستدرك أن لكل آلةٍ من تلك الآلات التي دخلت في تركيب الساعة، لها هدفٌ جُزئيٌ مُعين، وأن لمجموع تلك الآلات المختلفة، هدفٌ نهائيٌ مختلف، وهو ضبط الزمن .. هذا الهدف النهائي يسمى (العلةُ الغائية)، والغائيةُ من الغاية، يعني الهدف الذي من أجله صُنعت تلك الآلاتُ الفرعية المختلفة كُلها .. فهذا الهدف النهائي أو العلةُ الغائيةُ يتَطلَبُ الوصولُ إليهَا عَقلٌ مُدبرٌ، وتَخطيطٌ مُحكمٌ، وتنفيذٌ مُتقنٌ، وكُلُّ هذا يَتنَافى كُلياً مع الطبيعةِ والعشوائيةِ والصدفة ..
فالمصنوعاتٌ المعقدةِ، ذاتُ التصميمِ المرتبِ، والتكوينِ المركبِ، المبنيُ على هَدفٍ مُحدَّدٍ، لا بُدّ أنَّ هُناكَ عَقلاً أبدعَ تخطِيطِها، وأتقنَ تصميمها، وأحْكمَ تنظيمها .. {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} .. وكلَّما ارتقى تكوين المخلوق وتعقد، كان ذلك أشدَّ دِلالةً على وجود خالقٍ حكيم، ومدبِّر عليم .. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ..
إنَّ جسم الإنسان شديد التعقيد، يتكون من اثني عشر جهازاَ حيويّاً، كل جهازٍ منها يؤدي وظيفةً أساسيةً مختلفة، وكلُّ جهازٍ منها يتكون من مجموعةٍ من الأعضاء، كلُ عضوٍ منها يؤدي وظيفةً معينةً في غاية الأهمية لعمل الجهاز .. ثم هناك الدماغ الذي يُدير ويُنسق عمل كل تلك الأجهزة المتكاملة .. فهذه العلل الغائية المركبة تتنافى كُلياً مع الصدفة والطبيعة العشوائية ..
مثال آخر: زهرة الأوركيدا .. نباتٌ في غاية التعقيد، فهذه الزهرة العجيبة، ولكي تجذب النحلَ ليحُطَّ عليها، تتخذُ شكلاً وحجماً ولوناً مطابقاً تمامًا لأُنثى النحل، ليس ذلك فحسب بل إنها تُفرز نفس رائحة النحلة .. فيأتي ذكر النحلِ ويقتربُ منها وهو لا يعرف أنها زهرة، فتلتصق حبيبات الطلع بجسده، فينقلها إلى زهرةٍ أخرى دون أن يدري أنه يقوم بعملية تلقيحٍ مثالي للزهرة .. كلُّ هذا وهي كائنٌ نباتيٌ لا يعقل ولا يعلم، ولا يعي من أمره شيئًا .. ليس هذا فحسب بل إن هذه العمليات المعقدة والمتقنة من تطابق الحجم والشكل واللون والرائحة تتم في ظل ظرفٍ زمنيٍ محدد، وفي أيامٌ معينةٌ من كلِّ عام، إنها عملياتٌ معقدةٌ جداً، ومحسوبةٌ بكل دقةٍ، ولها هدفٌ نهائيٌ خفي ..
فهل الطبيعة والصدفة هي من صمَّم ونفَّذ كلَّ هذا .. أفلا تعقلون ..
البعوضةُ مثالٌ ثالث: فهذه الحشرةُ الصغيرةُ جداً، لها مائةُ عيٍن في رأسها، ولها ثلاثة قلوب في جوفها، ولها ستة سكاكین في فمها، وهي مزودة بجهازٍ يميز الحرارة، يدلها على مكان الجلد البشري ولو في الظلام، كما أنها مزودةٌ بجهازِ تخديرٍ یُساعدها على غرز إبرتها دون أن یشعر الإنسان، وما یحس به المقروص إنما هو ألم المص، والبعوضةُ مزودةٌ أيضًا بجهاز ِتحليلٍ للدم؛ فهي لا تستسیغُ كل الدماء، كما أنها مزودةٌ بجهازٍ لتمییعِ الدم واسالتهِ حتى یسري في خرطومها الدقیق ..
فهل الذي وضع كلَّ تلك الأجهزةِ المعقدةِ داخل تلك البعوضة الصغيرة، عاقلٌ حكيمٌ, له هدفٌ نهائي من كلِّ ذلك، أم أنها الصدفة والعشوائية ..
أفلا قليلٌ من الإنصاف والعقلانية يا معشر الملحدين ..  فلو كان من عندِ غير اللهِ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ..
وهناك المئات والألوف من الأمثلةِ غيرَ ذلك، كُلها تدلُ على التصميم الحكيم، والعلة الغائية .. رحلةُ السلمون الشهيرة، ورحلةُ السلطعونِ العجيبة، ورحلةُ البطرِيقِ الأشدُّ عجباً، والطيورُ المهاجرة، والحشراتُ الزاحفة، وبيوتُ النملِ المنظمة، وممالكُ النحلِ المذهلة .. كُل واحدةِ منها, مثالٌ صارخٌ وقويٌ على التصميم الحكيم والعلة الغائية ..
ثم يأتي الملحد ليقول: كلُّ هذا صدفة .. مالكم كيف تحكمون ..
والأشدَُّ عجباً أن من يؤمنُ بالصدفة كخالقٍ للكونِ لا يقبلُ أن تكونَ الآلاتُ المعقدةُ كالطائرات والسياراتِ والحواسيبِ، لا يقبلُ أن تكون الصدفةُ هي من أوجدها ! لاعتقاده أنها لا بدَّ أن تكون من صُنع عاقلٍ مُبدعٍ حكيم .. أوليس خَلقُ الانسانِ والحيوانِ والأفلاكِ أكبرُ وأعقدُ من خَلقِ تلك الآلاتِ بملايين المرات .. صدقت يارب: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ..
لقد انزاحت الرمال منذُ سنواتٍ قريبةٍ في صحراء الربع الخالي, فظهرت بقايا مدينةٍ بائدة، مغمورةٍ تحت الرمال، فلم يتبادر إلى ذهنِ احدٍ من عُلماء الآثار أو من غيرهم أنَّ هذه المدينةِ وُجِدت صُدفةً أو بفعل العواملِ الطبيعية، أو بأيِّ سببٍ آخرَ غيرَ الانسان، لأن إيجادها يحتاجُ إلى عاقلٍ حكيمٍ، له هدفٌ وقصدٌ من إيجادها بتلك الهيئة المحكمة ..
دليلٌ عقلي آخر: دليل السببُ والنتيجة:
فمن المعلوم عقلاً أن لكل سببٍ نتيجة، ولكل نتيجةٍ سبب .. وقد أثبتنا سابقاً بعدة طُرقٍ مختلفة، أن الكون ليس أزلياً، وأن له بدايةً .. وكلُّ ما كان له بدايةٌ فيجبٌ أن يكونَ له مُبدِيء ومُوجِد .. ولا بدَّ أن يكون المبدئُ أكبرَ وأعظمَ من كلِّ ما أوجدهُ من مخلوقاتٍ .. قال تعالى : {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ..
دليلٌ عقليٌ ثالث: الإثبات مُقدمٌ على النفي: هناكَ قاعدةٌ منطقيةٌ تقول: إذا لم يكن عندنا في المسألة إلا خبران، أحدهما يثبتُ وقوعَ أمرٍ ما، والآخرُ ينفيه، فيُقَدمُ الـمُثْبِتُ على النافي، لأن معهُ زيادةُ عِلم، ولأن من علِمَ حُجةً على من لم يعلم .. على سبيل المثال: جاءك خيرانِ أحدهما يقول: جاء محمد، والآخر يقول: محمدٌ لم يأت .. فالقاعدةُ تقول: يقدَّمُ الـمُثْبِتُ على النافي لأن معهُ زيادةُ علم، ولأن من علِم حُجةٌ على من لم يَعلم .. وفي مسألة وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا: فإنه على طولِ الزمانِ وعرضهِ لم يأتِ أحدٌ يدَّعي أنه الخالقُ لهذا الكون، ولن يجرؤ أحدٌ على ذلك، لأنه سيُفتضحُ بعجزه .. بل العكس هو الصحيح, فجميع العُقلاء يُقرونَ بأن اللهَ عزَّ وجلَّ وحدهُ هو الخالقُ لهذا الكون بكل ما فيه .. حتى أشدُّ الناس كفراً قال عنهم القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .. هذا على فرضِ أنه لا يوجدُ أدلةُ أخرى، تثبتُ وجودَ الخالقِ جلَّ وعلا، فإذا جاء الملحدُ لينفي وجودَ الخالقِ تبارك وتعالى، فخبرهُ مرفوضٌ عقلاً لوجودِ خبرٍ مُثبتٍ يُعارضُهُ .. كيفَ وقد قال الله تعالى عن نفسه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .. ثم إن نفي الملحد لوجود الخالقِ جلَّ وعلا، ادعاءٌ لا سندَ لهُ من الجهةِ المنطقيةِ .. لأنَّ أثباتَ وجودِ ما هو موجودٌ سهلٌ جداً، أمّا نفيُ وجودِ الموجودِ فمن أكبرِ المستحيلات، فكيف إذا كانَ المنفيُ هو أكبرُ الأشياءِ وخالقها، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ..} .. فعلى سبيل المثال: يمكنُ أن يدَّعِي شخصٌ ما وجودَ الدينصورات، ويمكنُ أن يدَّعِي شخصٌ آخرَ عدمَ وجودها بتاتاً .. فالأولُ سيحتاجُ إلى دليلٍ واحدٍ فقط ليثبتَ صحةَ قوله .. أمَّا الذي يريد أن ينفي وجودها، فيجبُ عليه أن يُفتِشَ الأمكنةَ المحتملةَ كُلَّها، وأن يَتفَقدَها كُلها في وقتٍ واحدٍ ليتأكدَ قطعياً من خُلوها جميعاً .. وهذا من أبعدِ المستحيلات على مستوى الأرض .. فكيف لأيٍّ مَنْ كانَ أنّ يُبرهِنَ على عدم وجودِ اللهِ في الكونِ كله .. هذا من أمحل المحال، لا في العقلِ ولا في الخيال .. فما معشر الملحدين أين تذهبون ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ...    
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ....
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه واخوانه، وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب ..
معاشر المؤمنين الكرام: دليلٌ عقليٌ رابع على وجود الخالق جل وعلا: دليلُ التسخير: كُلنا نتفقُ مع الملحدِ أنَّ الصدفةَ لا تملكُ عقلاً ولا عِلماً ولا حِكمةً .. وكُلنا يعلمُ أنَّ الانسانَ والحيوانَ والنباتَ خُولِقوا محتاجينَ لأشياءَ كثيرةٍ، محتاجين للماء، وللهواء وللغذاء وللدواء، ولغيرها من الأشياء .. فإذا تأملتَ فإذا جُميعُ هذه الاحتياجاتِ قد تمَّ توفيرها لهم في البيئة التي يتواجدون فيها، وبالقدر الكافي لاستمرار حياتهم، بل وحياةِ نسلِهم من بعدِهم .. إذن فمن المنطقي أن الذي أوجدَ في الانسان والحيوان تلك الاحتياجاتِ الضرورية, هو الذي وفرَّها وسخرها في البيئة من حولهم، وبالقدر الكافي، ولا يفعلُ ذلك إلا عاقلٌ عليم، مبدعٌ حكيم .. والصدفةُ لا تملكُ عقلاً ولا علماً ولا حكمةً .. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
دليلٌ عقليٌ خامس: العلمُ لا يمكن أن يأتي ممن لا يعلم .. 
فمثلاً: جهاز الحاسب الآلي: يمكنُ أن يطبعَ مقالاً علمياً، ولكن جميعَ العقلاء يتفقونَ أنه ليس هو من أنتجَ تلك المقالةِ العلميةِ .. وأنَّ هناكَ شخصٌ عاقلٌ عليمٌ استخدمَ الحاسب لكتابة وطباعةِ تلك المقالةِ العلميةِ .. فإذا كان العلمُ لا يمكنُ أن يأتي ممن لا يعلم .. فإن الصدفةَ والطبيعةَ التي لا تعلمُ شيئاً، لا يمكنُ أن نقولَ بأنها هي التي أوجدت القوانينَ الطبيعيةَ، لأنَّ تلك القوانين أشدُّ تعقيداً من تلك المقالة، ولا يمكنُ أن يُوجدَها إلا خالقٌ عليمٌ خبيرٌ .. وإذا كان عقلُ الإنسانِ يستطيعُ أن يعرفَ الجيدَ من الرديء، وأن يميزَ بين الجيدِ والأجود، وأن يختارَ الأفضلَ من بين عدةِ خياراتٍ، فلا يمكنُ أن يُنسبَ هذا إلى الصدفةِ والطبيعةِ، لأنها تفتقرُ للعقلِ، وللعلمِ، وللحكمةِ، وللقدرةِ على التمييزِ بين البدائلِ، وإنما ننسبُها إلى المبدعِ الحكيم، والمدبرِ العليم، سبحانهُ وتعالى، القائلِ في محكم كتابهِ الكريم: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} ..
دليلٌ عقليٌ سادس: التصرفاتِ العقلانيةِ لا يُمكن أن تأتي من غيرِ العاقل:
تخيلْ أنَّ هناكَ عدة أطفالٍ صغار، كل طفلٍ معهُ مجموعةٌ من الأقلام الملونة، وأمَامهم ورقةٌ كبيرةٌ، ثم قاموا يخطِطونَ ويرسمون بتلك الأقلام الملونة على تلك الورقة الكبيرة، بطريقةٍ عشوائيةٍ غير مرتبة، فهل يمكنُ أن يخرجَ من تخطِيطِهم خريطةٌ كامِلة التفاصيلِ لمدينةٍ كبيرةٍ كالرياض أو جُدة .. فإذا كان العقلُ السليمُ يستبعِدُ حُدوثَ مثلَ هذا تماماً، ويعتبرهُ مُستحيلاً لا يمكنُ أنَّ يحدثَ أبداً، فلأن يكونَ الكونُ كُلهُ وجِدَ صُدفةً، أكثرَ اسْتِحَالةً، وأبْعدَ عَقلاً، لأنَّ تركيبَ الكونِ وتَفاصِيلِه, أعْقَدُ بملايين المراتِ من تركيبِ أيِّ خريطةٍ وجِدَت، {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ..
هذهِ ستةُ أدلةٍ لا شَكَّ ولا مِراءَ فيها، كُلُّها مِنْ نوعٍ واحِدٍ، وهناكَ أنواعٌ أخرى من الأدلَةِ، سنَقِفُ معها بإذن اللهِ في خطبةٍ قادمة، حتى لا يبقى من الحُجةِ شيءٌ، و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .. 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

اللهم صل ...

 
 
 
 
 
 
 
 
 


الحلقة الثالثة : الأدلة العلمية في إثبات وجود خالق البرية والرد على الملحدين والدهرية ..

.

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الملكِ العزيزِ الجبَّارِ، {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، سبحانهُ وبحمده، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} ..
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، شاهدُ كلِّ نجوى، وسامعُ كلِّ شكوى، وكاشفُ كلِّ بلوى، {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ..
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، خيرُ البريَّةِ وأزكاهَا، وأبرّهَا وأتقاهَا، وأطهرهَا وأنْقاهَا، وأنْصحهَا وأولاهَا، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبهِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ..
أمَّا بعدُ: فأُوصيكم أُّيها النَّاسُ ونفسي بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ رحِمكمُ اللهُ، فقد صدقَ الزمانُ في صُروفِه وما كذبَ، ووعَظَ بتقلُّباتِه فأثارَ العجَبَ .. فالجِدَّ الجِدَّ تغنَمُوا، والبِدارَ البِدَارَ أن لا تندَمُوا .. {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: لا يزال الحديث موصولاً عن ظاهرة الالحاد، وقد ذكرنا في الخطبة الماضية ستةَ أدلةٍ عقليةٍ منطقية في إثبات وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا، وهناك أنواعاً أخرى من الأدلة منها الأدلة العلمية، وسأذكر منها أربعة أدلة فقط حتى لا يطول الأمر: نسأل الله العون والتسديد، والإخلاص والقبول ..
الدليل العلمي الأول: دليلُ الثبات: فنلاحظُ أنَّ خواصَ الأشياءِ والأنظمةِ ثابتةٌ لا تتغير .. فالأفلاكُ لها نظامٌ وخواصٌ لا تتغير، والمطرُ لهُ نظامٌ خاصٌ لا يتغير، النباتاتُ لها أنظمةٌ وخواصٌ لا تتغير .. النارُ من خواصها الثابتةُ الاحراق، ليسَ هناك نارٌ لا تحرق .. وهذه الأنظمةُ والخواصُ تظلُ موجودةٌ ولا تتخلف، ولا تستطيع المخلوقات أن تُغيِّر من نظامها أو خصائصها شيئاً .. فمن الذي أوجد هذه الخواص في الاشياء ؟ ومن الذي يحافظُ على وجودها واستمرارها ؟ .. أهي الصدفةُ أيضاً .. فهل تملك الصدفةُ عقلاً وحكمةً لتصمِّمَ مثلِ تلك الأنظمةِ المعقدةِ الثابتة، وأن ترتب الأشياء بطريقة دقيقة مُذهلة، وأن تُعطيها خصائصها الثابتة، ثم تجعلُها تحافظُ على هذه الخصائص والأنظمةِ جيلاً بعد جيل، وأزمنةَ بعد أزمنة دون أن تتبدلَ أو تتوقف: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ..
دليلٌ علميٌ ثاني: موتُ الطبيعة: فهناك المئات, بل آلاف من الأدلة المتواترة على موت الطبيعةِ وفنائِها .. كلُ شيءِ يموت ويفنى، النجومُ والأفلاكُ تنهارُ وتموت، مجراتٌ بمليارات النجوم والكواكب تبيدُ وتفنى، الأشجارُ كلها تموت، الحيواناتُ كلها تموت وتنقرض، الإنسُ والجنُ يموتون، أممٌ كاملة وحضاراتٌ هائلةٌ تولدُ وتموت، وصدق اللهُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، فإذا كانت الطبيعةُ تموت، فهذا دليلُ نقصِها وضعفِها .. ونقصُها وضعفُها دليلٌ أنها مخلوقةٌ مُدبرة، لا تملك من أمرها شيئاً .. ولو كانت هي من أوجدت نفسها، فلماذا تموتُ إذن، لماذا لا تعيش إلى الأبد .. يقول الملحدُ حين يَعجزُ عن الجواب: هكذا هي طبيعة الأشياء، فمن طبعها إذن، {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} ..
دليلٌ علميٌ ثالث: استحالةُ الصدفةِ حِسابياً ..
فلو تناولتَ عشرةَ كروتٍ، ورقمتها من الواحد إلى العشرة، ثم وضعتها في كيسٍ وخلطتها، ثم حاولتَ أن تخرجها مُرتبة من الكرت رقم واحد إلى الكرت رقم عشرة، بحيث تُعيد كلّ كرتٍ إلى الكيس بعد تناوله مرةً أخرى، فإن إمكانية أن تتناول الكرت رقم واحد من أول محاولةٍ هو واحد في العشرة، وأما إمكانية أن تخرج الكرت رقم واحد، ثم تخرج بعده الكرت رقم أثنين فهي واحد في المئة، وأمَّا إمكانية أن تخرج الكرت الأول، ثم الثاني ثم الثالث فهي واحد في الألف، أمَّا إمكانية أن تخرج الكروت العشرة مرقمة بالتسلسل من (1-10) فهي واحد من عشرة بلايين  محاولة .. يعني أن عليك أن تقوم بعشرة بلايين محاولة لربما يصادفك الحظ فتخرُجُ هذه الكروت مرتبة من (1-10) .. هذا يا عباد الله في عشرة كروت فقط .. فإذا علمت أن الخلية الحية في جسم الانسان لا تُرى تفاصِيلها إلا بالمجهر الضخم، وإذا علمت أن هذه الخلية تتكونُ من مجموعةٍ هائلةٍ من البروتينات والأحماض الأمينية، وغيرها من المكونات الدقيقة، فقد أثبت العالم السويسري تشارلز بوجين أن احتماليةِ تكوِّنِ بروتينٍ واحدٍ بالصدفةِ هي واحد إلى رقمٍ يتجاوزُ المائة والخمسون خانة، أي إنه رقمٌ لا يمكن قراءتهُ ولا التعبير عنه، فضلاً عن تخيله، وهو رقمٌ أكبر بكثير من عدد ذرات الكون كلِها، هذا في خلق بروتينٍ واحد، وهو من ابسط مكونات الخلية الحية، فكيف إذا تحدثت عن الخلية كلها، أو عن الانسجة, المكونَةِ من مليارات الخلايا، ثم الأعضاء المكونَةِ من مليارات الأنسجة، ثم انتقل إلى مليارات الكائنات الحية، ثم كونٌ هائلٌ لا يُعرف له طرف، عددُ مجراته بالمليارات، وكلُّ مجرةٍ فيها مليارات النجوم، فلا شكَّ أن ّحِساب مثل هذا، أمرٌ فوق طاقة العقل بل وطاقة أكبر كمبيوتر وجد إلى الآن، وبالتالي فالنسبة هي الصفر المحقق ..
أمرٌ آخر: فجسم الانسان العادي يُنتج في كلِّ ثانية أكثر من 25 مليون خليةٍ جديدة .. ويحتوى دماغهُ على أكثر من 100 مليار خليةٍ عصبية، وتحتوي كبدهُ على أكثر من 400 مليار خليةٍ كبدية، وتحتوي رئتهُ على أكثر من 700 مليون ِحويصلهٍ تنفسية، وتحتوي معِدتهُ على أكثر من 35 مليون غدةٍ هاضمةٍ للطعام، وتحتوي دِمائهُ على أكثر من 25 مليون كريةٍ حمراء، تجري في أوعيةٍ دمويةٍ يبلغُ طولها أكثر من من  100,000 كم، ويوجد في جسمه أكثر من 3 ملايين مُستشعِر للألم، ويمكن لأنفهِ أن يُميزَ أكثر من 50.000  رائحةٍ مختلفة .. هذه عينةٌ صغيرةٌ جداً من الاحصائيات الدالةِ على شدة تعقيدِ خلقِ الانسان .. فيا ويلكم أيها الملحدون، أكل هذا صدفة ؟! أفلا تعقلون .. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ..
دليلٌ علميٌ رابع: الاعجازُ العلمي والغيبيُ في القرآن الكريم: الإعجازُ العلميُ هو سبقُ القرانِ الكريم إلى ذكرِ عدد ٍكبيرٍ من الحقائقِ الكونيةِ التي يستحيلُ التعرفُ عليها دون استخدامِ أجهزةٍ علميةٍ متقدمةٍ جداً، لم تكن البشريةُ تملكها أبداً وقت نزول القرآن .. مما لا يدعُ مجالاً للشك في صدق القرآن الكريم، وأنه لا يمكن أن يَصدُر إلا من عند الخالق جلَّ وعلا .. فالآيات التي تتحدث عن الحقائق والظواهر الكونية في القرآن الكريم تزيد عن الألف آية، كلُّها تتطابقُ تماماً مع الحقائق التي أثبتها العلم بوسائله الحديثة، أما ما لم يثبت علمياً من النظريات والفرضيات فلا يلتفت إليه حتى يثبت، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}  ..
فمن هذه الآيات ما يتحدث عن أطوار الجنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .. ومنها ما يتحدث عن طبقات الجو العليا: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} .. ومنها ما يتحدث عن الجلد والنهايات العصبية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} .. ومنها ما يتحدث عن نشأة الكون: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، ومنها ما يتحدث عن نزول الحديد للأرض: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} .. ومنها ما يتحدث عن التقاء البحار وعدم امتزاجها: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} .. ومنها ما يتحدث عن ظلمة البحر: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .. ومنها ما يتحدث عن الجزء المغمور من الجبال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} .. ومنها ما يتحدث عن أخفض منطقة على سطح الأرض: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...}.. إلى غير ذلك من آيات الاعجاز المتنوعة الكثيرة ..
ولا زالت الأدلة تترى، نستكملها في الخطبة الثانية بإذن الله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .. بارك الله ..
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه واخوانه، وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب ..
معاشر المؤمنين الكرام: ومن أدلة الاعجاز، الاعجاز الغيبي، وهو إخبار القرآن بأمور ستقع في المستقبل، فتقع كما أخر، كما في قصة أبي لهبٍ، الذي كان هو وزجته يكرهان الإسلام كرهاً شديداً، وكانا على استعداد أن يفعلا أيَّ شيءٍ ليصُدا الناس عن دين الله، فقد كان أبو لهب يسيرُ خلفَ المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقول للناس: أنا عمه واعلم الناس به، لا تصدقوه فإنه كاذب، فيقول الناس، نعم عمه أعلم به، وكانت زوجته شاعرة، تعلن تكذيب الرسول في شعرها .. وقبل وفاة هذا اللعين باثني عشر سنة كاملة، نزل في القرآن خبرٌ قاطعٌ بأنَّ أبا لهبٍ وزوجته سيذهبان للنار, أي أنَّهما سيموتان كافرين ولن يدخلا في الإسلام .. لقد كانت فرصةً سانحةً لهما أن يهدما الاسلام في لحظةٍ واحدة، فقد كان بإمكان أي منهما أن يُعلن اسلامه أمام الناس ولو كذباً، وبذلك يثبت كذب القرآن .. ولكن ذلك لم يحدث أبداً، طوال اثني عشر سنة .. لأن هذا الكلام وحيٌ من الخلاق العليم، الذي يعلمُ أن أبا لهب لن يُسلم أبداً ..
نوعُ ثالث من الأدلة: وهو دليل الفطرة السليمة: فدِلالة الفطرة السليمة على وجود الله أقوى من كلِّ دليل .. أعرابي الصحراء ذو الفطرة السليمة يقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا يدلان على الصانع الخبير .. وهكذا فكلُّ إنسانٍ يُحسّ من تلقاء نفسه أنّ له رباً وخالقاً خلقه وأوجده، ويشعرُ بالحاجة والفاقة إليه .. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الِابْتِلَاءَاتِ وَالشَّدَائِدِ؛ وكل من يقع في ورطةٍ حقيقيةٍ ويصل إلى درجة الحرج يتجه تلقائياً بقلبه وكليته إلى السماء يطلب الغوث من ربه .. ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ ..
نوعٌ رابعٌ من الأدلة: الدليل اللغوي: فمن المعلوم في قواعد اللغة أن المعنى يسبق اللفظ، والمسمَّى يوجد قبل الأسم، فاذا لم يوجد المسمَّى والمعنى، فلا يوجد اللفظ والأسم، فكل اختراع يتم اكتشافه، فإن فكرته ومعناه لم تكن معروفة، ولذلك فلا يوجد له أسم، ومن ثمَّ يوضعُ له الاسم المناسب لمعناه بعد إيجاده .. على سبيل المثال: الجوال، التلفاز .. وكل المخترعات تجد أن المعنى دائماً يسبق الأسم .. ومع أن الله سبحانه وتعالى غيبٌ عنَّا ولم يره أحدٌّ، إلا أن لفظَ الجلالة ومرادفاته موجودٌ في كلِّ لغات العالم، والعقولُ كلها تفهمه، فكيف يمكن أن يحدث هذا؟ إلّا اذا كان في داخل الجميع ايمانٌ فطريٌ مغروس، وتصورٌ ذهنيٌ واضحٌ، لمعنى لفظ الجلالة ..
هذه أربعةُ أنواعٍ من الأدلة المختلفة، كلُّ منها يكفى لإثبات وجود الخالق جل وعلا، بلا شكِّ ولا مِراءَ، فإن بقيَ في نفس الملحد شيءٌ من شكٍّ، فهو محضُ كذبٍ أو هوى .. ومع ذلك فسنقف في الخطبة القادمة بإذن الله من بعض المناظرات المفحمة لكلِّ مُلحد .. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} ..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

اللهم صل …

 


جزاك الله خيرا

موضوع مهم يندر طرحه غائب عن المنابر والشباب في أمس الحاجة إليه 


الحلقة الرابعة : مناظرة بين مؤمن وملحد 
.
الحمدُ للهِ شهِدَت على وجودهِ آياتهُ الباهرةِ، ودلت على كرمِ جودهِ نِعمَهُ الباطِنةُ والظاهرةُ، {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} ..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، سبَّحت بحمده الأفلاكُ السائِرةُ، والنجومُ الزاهِرةُ، والسحبُ الماطِرةُ، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} ..
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، هدى اللهُ به العقولَ الحائِرةَ، وجمعَ به القلوبَ المُتنافِرةَ، فزهَّدَ في الدنيا ورغَّبَ في الآخِرة .. صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَك عليهِ، وعلى آله وعِترتهِ الطاهرةِ، وأصحابِه الأنجُمِ الزاهِرةِ، والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا منتهى لآخِره ..
أمَّا بعدُ: فأُوصيكم أيُّها النَّاس ونفسي بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ؛ فللهِ درُّ أقوامٍ إِذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصِرون، نظروا في عيوبهم فاستغفروا لذنوبهم، ولم يُصِروا على ما فعلوا وهم يعلمون، وللهِ درُّ أنفُسٍ أفاقت من غفلاتها، فاستعلت على شهواتِها، وتطهرت من لوثاتها، وبادرت الفرصَ السانحة قبل فوَاتِها، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: تحدثنا في خطبٍ ماضيةٍ عن ظاهرة الإلحادِ والجرأةِ على نفيِ وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا، وعرفنا أبرزَ الأسبابِ التي أدت لازدياد هذه الظاهرة الخطيرة، كما عرفنا بعض نتائِجها السيئة وثمارِها المرة، وعرَّفنا الصُّدفة التي يَنسِبُ إليها الملحدُ سببَ وجودَ كلِّ شيء، وعرفنا أنَّ الملحد حينَ أنكرَ وجودَ الخالقِ تبارك وتعالى زعَم أنَّ الطبيعةَ والكونَ أزليٌ قديمٌ لا بدايةَ لهُ ولا نِهاية، وذكرنا عِدة أدلةٍ دامغةٍ على أن الكون مُحدثٌ وليس بأزلٍي ولا قديم، وأنَّ لهُ بدايةً ونهاية، ثم فصِّلنا القولَ وسردنا مجموعةً كبيرةً من الأدلة العقليةِ والعلميةِ على وجودِ الخالقِ تبارك وتعالى، ونحنُ اليومَ على موعدٍ مع بعضِ المناظراتِ المفحمةِ ..
والمناظرةُ هي نقاشٌ وجدالٌ يُعقدُ بين مُتحدثين أو أكثر، حولَ قضيةٍ خِلافيةٍ مُعينةٍ، تُقدَّمُ فيها حُججٌ مُتَعارضةٌ، ينصُرُ كلُّ طرفٍ رأيهُ وما يذهبُ إليه ..
وقد أشادَ القرآنُ بهذا الأسلوبِ في كثيرٍ من الآياتِ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ..
كما احتوى القرآنُ الكريمُ على عدةِ نماذجَ من مُناظرةِ أهلِ الباطلِ، كقولهِ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} .. وغيرها من النماذج ..
وقد ناظر الأمام أبو حنيفةَ رحمه الله جماعة من الملحدين الدهريين، فقال لهم: قد ذكروا لي أن سفينةً في البحرِ عظيمةُ الصنعِ، فيها أنواعٌ كثيرةٌ من المرافقِ والمصالحِ والأقسام، إلا أنَّهُ ليس بها أحدٌ يُنظِمها ولا يُدبرها، وليس هناك من يسوقُها ولا يحرسُها، فهي التي تفعلُ ذلك كُله، وتُسيّرُ نفسَها بنفسِها، تذهَبُ وتجيء، وتخترقُ الأمواجَ وتعبرُ المحيطاتِ، وترسو في الموانئِ بنفسِهَا .. وتُوصِلُ الأحمالَ من غير أن يُسيِّرها أحدٌ، فقالوا: هذا شيءٌ مُستحيلٌ ولا يقولهُ عاقلٌ .. فقال: ويحكم فهذه الموجُوداتِ العظيمةِ بخلقِها البديع، ونظامُها الدقِيق، واتساعِها المذهل، وما فيها من عالمٍ عُلويٍ وسُفليٍ، وما اشتملت عليه من إحكامٍ وإتقانٍ عجيب، هل يعقلُ أنها تسيّرُ نفسَها بنفسِها وليس لها صانعٌ عاقلٌ، ولا مُدبرٌ حكيمٌ ؟ .. فبُهِت القوم ورجعوا إلى الحقِّ ..
ومن المناظرات الرائعة الماتعة ما جرى بين أحد علماء الأعجازِ العلمي وأحد كبار الملحدين الغربيين .. حيث بدأت المناظرة بقول العالم للملحد: إذا كنت لا تؤمن بالخالق جلَّ وعلا فمن أوجدك .. قال الملحد: أوجدتني الطبيعة .. قال العالم: هل تقصدُ بالطبيعة، الصدفةُ .. قال الملحد: نعم .. قال العالم: أليست الطبيعةُ صماءَ بكماءَ عمياءَ، ليس لها علمٌ ولا حِكمةٌ، وليس لها عقلٌ ولا تدبيرٌ .. قال الملحد: نعم .. قال العالم: أترى هذا المصباحَ الكهربائي، وأشار إلى مصباحِ الغرفة، لو أخبرتُك أن صانِعهُ عِندهُ زجاجٌ أتصدقني؟ .. قال الملحد: نعم .. وإلا كيفَ سيصنعه .. قال العالم: ولو قلت لك أن هذا الصانعَ لديهِ قُدرةٌ على تشكيل الزجاج كما يريدُ أتصدقني .. قال الملحد: نعم .. قال العالم: ولو قلت لك أن صانع هذا المصباح حكيمٌ مُتقنٌ، فقد استطاع أن يُحكمَ الغِطاء حول الزجاج، أتصدقني .. قال الملحد: نعم .. قال العالم: ولو قلت لك أنَّ صانع المصباح لديه علمٌ واسعٍ بالكهرباء، أتصدقني .. قال الملحد: نعم ، لا بدَّ أن يكونَ لديهِ علمٌ بالكهرباء وإلا لما استطاع أن يجعلهُ يُضيئ ..
قال العالم: إذن فأنت ودونَ أن ترى صانِعَ المصباحِ، تقرُّ وتشهدُ بأنهُ يتصفُ بصفاتٍ كثيرة: منها أن لديهِ زجاجٌ، وأنهُ قادرٌ على تشكيلِ الزجاجِ، وأنه مُتقنٌ لصنعتهِ، وأنَّ لديه علمٌ متقدمٌ بالكهرُباء .. قال البروفسور: نعم أقرًّ بكلِّ ذلك .. قال العالم: كيفَ تُقرُّ بصفاتِ صانعٍ لم ترهُ ؟! .. فأشارَ اللمحد إلى المصباح وقال: هذا صُنعهُ أمامي ..
قال العالم: إذن فأنت تقرُّ بأنَّ الشيءَ المصنوعَ سواءً كان مِصباحاً أو غيرهُ يدلُ على بعضِ صفاتِ صانِعهِ، فلا تُكونُ خاصيةٌ في الشيءِ المصنوعِ إلا وعندَ الصانعِ قُدرةٌ أوجدَ بها تلك الخاصية .. قال الملحد: نعم ..
قال العالم: فلنتحول من صنعُ المصباحِ إلي صُنعِكَ أنت .. فهل لا زلت تزعمُ أنك خُلقت عَبثاً، وأنَّ من خلقكَ ليس لديهِ علمٌ ولا حِكمةٌ ولا عقلٌ .. قال الملحد: نعم .. قال العالم: فما هو تعريفك للعين، وأشار العالم إلى عينه .. قال الملحدُ: جهازٌ يستقبلُ الضوءَ المنعكِسَ من الأجسامِ، فيترجمها في الدماغِ إلى صورٍ مُتتابعة .. قال العالم: أي أنهُ لا يعملُ في الظلام .. قال الملحدُ: بالطبع لا يعمل .. قال العالم: فأين صُنعت العين .. قال الملحدُ: في رحِم الأمِّ .. قال العالم: وهل في الرَّحِم ضوءٌ .. قال الملحدُ: لا .. قال العالم: فالذي صنعَ جهازاً خاصاً بالضوءِ في مكانٍ مُظلمٍ، وفي وقتٍ لم يكن الجنينُ بحاجةٍ إليه عِدةَ أشهُرٍ، هل يعلمُ بأنهُ سيستخدمها عندما يخرجُ للضوءِ، أم لا يعلم .. فاضطرب الملحدُ وعاندَ، وقال: لا يعلم .. لأنهُ لو قال يعلم فستنتهي خُرافةُ الطبيعةِ التي لا تعلم ..
قال العالم: فلنتكلم عن شيءٍ آخر، كم درجةُ حرارةِ الانسانِ الطبيعية .. قال الملحدُ: 37 .. قال العالم: أليست هذه الدرجةُ ثابتةٌ لكلِّ البشر صيفاً وشتاءً، في المناطق الباردةِ والحارةِ على حدٍّ سواء .. قال الملحد: نعم .. قال العالم: أليسَ في الجسمِ عوامِلَ لتحافظَ على توازن هذه الحرارة، فتجعلها ثابتةً طوالَ الوقتِ صيفاً وشتاءً، كإفرازِ العرقِ في الحرِّ، وحرقِ الطعامِ وتحويلهِ إلى حرارةً في البرد، ولذلك نُكثرُ من شُربِ الماء صِيفاً، ونأكلُ أكثرَ في الشتاءِ .. قال الملحدُ: نعم .. قال العالم: فهل من أوجدَ هذا الميزانَ الدقيقَ ليجعلَ حرارةَ الجسمِ ثابتةً بشكلٍ دائمٍ عند تلك الدرجةِ، حكيمٌ أم غيرُ حكيمٍ، فاستمر الملحد في غيهِ وقال، لا، ليس بحكيم .. لأنَّهُ لو قالَ حكيم، فسيهدِمُ عقيدته في الطبيعة التي لا عِلمَ ولا حِكمة لها ..
قال العالم: شيءٌ آخر: أليس هذا الجهاز الدقيقَ الخاص بضبطَ حرارةَ الجسمِ دائماً عند 37، أليس قد صنعَ في الرَّحم .. قال الملحد: نعم صنعُ في الرحم .. قال العالم: أليست درجةُ حرارةِ الرَّحِمِ أيضاً ثابتةٌ دائماً عند 37 .. قال الملحد: نعم، لأنها داخل جسم الأم .. قال العالم: فالذي صنعَ جهازاً خاصاً بضبط درجةِ حرارةِ الجسمِ مهما تغيرت الأجواء، صيفاً وشتاءً، وصنعهُ في مكانٍ لا تتغيرُ فيه درجةُ الحرارةِ، وفي وقتٍ لم يكن الجنينُ بحاجةٍ لهذا الميزانِ عِدةَ أشهُرٍ، يعلمُ بأنهُ سيحتاجُهُ عندما يخرجُ للأجواء الخارجية المتغيرة أم لا يعلم .. فاستمرَ الملحدُ في غيهِ وقال: لا يعلم ..
قال العالم: حسناً، أمرٌ رابع: كم نسبةُ الأُكسجينِ في الهواء .. قال الملحد: قرابة الخمس .. قال العالم: فهل هذه النسبةُ ثابتةٌ أم مُتغيرةٌ .. قال الملحد: بل هي ثابتةٌ دائماً .. قال العالم: فما الذي يضبطها هكذا، رغمَ كثرةِ استهلاكِ الأُكسجين من البشرِ والحيوانات .. فقال الملحدُ: النباتاتُ وتبخرُ البحارِ وغيرها من العوامِلِ .. قال العالم: فالذي صنعَ هذا التوازُنَ العجيبَ، وجعل هذا النسبةَ ثابتةٌ لا تتغيرُ في كلِّ بقاعِ الأرضِ، رغمَ كثرةِ الاستهلاك وتغيرِ البيئات، هل من فعلَ هذا وقدَّرهُ حكيمٌ أم غيرُ حكيم .. قال الملحد: لا ليس بحكيم .. قال العالم: فعلمتُ أنهُ سيتمرُ هكذا، إلا إذا احتلتُ عليه بحيلةٍ تُغلقُ عليه الطريقَ ... وهذا ما سنتعرف عليه في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى .. فبارك الله لي ولكم ...
.
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه واخوانه، وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: يستأنف العالم مناظرته فيقول: سألت الملحد: لماذا يلبسُ روادُ الفضاءِ تلك البدلةَ الغريبة؟ فقال الملحد: لأنهم بدونها لا يستطيعون البقاءَ في الفضاء الخارجي، حيثُ تختلفُ درجةُ الحرارةِ والضغطِ ويقلُ الاكسجينُ وتكثرُ الاشعاعات .. قال العالم: فاخبرني عمن صنعَ تلك الملابس؟ أهم علماءٌ أم أناسٌ عاديون .. قال الملحدُ: بل علماءُ متخصِصون .. قال العالم: لماذا ؟ .. قال الملحد: لأنهُ يجبُ أن تتوفرَ فيها مُواصفاتُ حماية خاصة، فتحميهم من الإشعاع الضَّار، والضغط الزائد، والحرارةِ العالية، وهذه أمورٌ لا يعلمها إلا عُلماءُ متخصِصون .. قال العالم: فأنت عندما كنت في بطن أمِّك، من أين كنت تتنفسُ وتأكلُ .. قال الملحدُ: عن طريق الحبل السُّري .. قال العالم: فأنت عندما كنت في بطن أمِّك مثلَ رائد الفضاء الذي زودهُ العلماءُ بتلك البدلة الخاصة، فهل الذي زودك وأنت في بطن أمك بالجهاز التنفسي والجهاز الهضمي، في وقتٍ لم تكن تحتاجُ لهذا الأجهزة، يعلمُ أنك ستستخدِمُها عندما تخرجُ إلى الفضاء الخارجِي أم لا يعلم، فضحك الملحد وقال: يعلم .. استسلم أخيراً وأقرَّ بأن خالق الانسان يتصف بالعلم ..
ثم تكلَّم العالم عن العظام وتداخلِها وتراكيبها المحكمة، وأنَّ كل عظمةٍ تتصل بأختها بكلِّ دقةٍ وإحكام، وعن الأسنانِ وتناسُقها وإحكامها، وتقسِيمها إلى قواطع وأنيابٍ وأضراسٍ مُتناسِقة مُتكامِلة، وعن الرموش، وكيف يتقوسُ شعرها مرةً للأعلى ومرةً للأسفل، وعن تناسق الأعضاء وتناسُبِها، فلا عينَ أكبرَ من عين، ولا أُذنَ أصغرَ من أُذن، ولا يدَ أطولَ من يد، ولا رِجلَ أقصرَ من رجل، مما يدلُ على حِكمةِ وإتقانِ وإبداعِ الصانعِ الحكيمِ سبحانه وتعالى، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ..
أحبتي الكرام: كما سمعتم فالمناظرةُ وسيلةٌ فعالةٌ للتعلُّمِ والفهمِ وتبادُلِ المعارفِ والمعلومات بأسلوبٍ مُقنعٍ وجذابٍ، ولها فوائدُ مهمةٌ، من  فوائدها إظهارُ الحقِّ بدليه، وكشفُ عَوارِ الباطلِ، وتبيينِ زيفهِ وفسادِه،  وفضحِ تدليسِ أهلِ الباطلِ وخِداعِهم، خُصوصاً لمن أغترَّ بزخرفِ كلامِهم وبهرجِ قولهم .. ومن فوائدِ المناظراتِ أنها تُبينُ قوةَ هذا الدِّينَ الحقِّ ومتانتهِ، وأنهُ ما شادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبهُ .. وتُبين كذلك مدى قوةَ وروعةَ ما في القرآنِ والسنة من أدلةٍ دامغةٍ، وحُججٍ قاطِعةٍ، وبراهينَ ساطعةٍ، تجعلُ الحقَ يعلُو ولا يُعلى عليه .. كما أنَّ من فوائِد المناظرةِ توضِيحُ أنَّ الحقَّ بحاجةٍ ماسةٍ إلى القوي الأمين، والذكيُ الفطين، الذي يعرف كيف يجلي الحق ويظهره حتى يرجِعَ إليهِ من يطلبهُ بصدق .. ويعرفُ كيف يحملُ على الباطلِ فيدمغهُ فإذا هو زاهقٌ .. ليهلك من هلك عن بينه، ويحيى من حيي عن بينه ..
وبقي معنا في موضوع الإلحاد ثلاثةُ محاور، الأول للرد على أبرز شُبهات الملحدين والتي طالما خدعوا بها ضعيفي العلم والإيمان، والمحور الثاني عن أقوى حجج الملحدين وأكثرها رواجاً، وهو ما يسمى بمشكلة الشر ودِلالاتها، والمحور الثالث: أسئلةٌ بدهيةٌ لا يستطيع الملحدون الإجابة عليها .. نسأل الله الكريم العون والتوفيق والسداد ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان .. اللهم صل ..  
 
 
 


الحلقة الخامسة من سلسلة خطبِ { أفي الله شكٌّ} : شبهاتٌ وردودٌ 
.
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ مُصرِّفِ الأحوالِ، مُقدِّرِ الآجالِ، المتفردِ بالعزَّةِ والعظمةِ والجلالِ، منْ لهُ الغنى كلُّهُ ولهُ مُطلقُ الكمالِ، {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} ..
وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ، المنعوتِ بأعظم الأخلاقِ وأشرفِ الخِصالِ، اللهم صلِّ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبهِ، خيرُ صحبٍ وخيرُ آلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل .. وسلَّم تسليماً كثيراً ..
أَمَّا بعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عباد الله: وأَطيعُوه، وعظِّمُوه ووقرِوه وسبحوه .. وجِدُّوا رحمكم الله واجتهِدُوا، فقد دنَتِ الآجالُ, وأزِفَ الارتِحالُ، سابقوا الأجلَ، وأحسِنوا العـمـلَ، ولا يغرنكـم طـولُ الأمـلِ، واعلموا {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ..
معاشِر المؤمنينَ الكِرام: تحدثنا عن ظاهرةِ الإلحادِ في أربع خُطبٍ ماضية، بدأً بأسباب هذه الظاهرة, ثمَّ آثارها، ثمَّ الأدلةِ المتنوعةِ على وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا، وكان آخرَ ما ذكرناه في الخطبةِ الماضيةِ إثباتُ وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا من خلال المناظرات العلمية، وبقي معنا ثلاثةُ محاور، أولها الردُّ على أبرز شُبهات الملحدين ووسائلُ الوقاية منها، وهو موضوع خُطبة اليوم بإذن الله ..
والشُبْهَةُ في اللغة: هي الالتباسُ والشكّ في صحةِ الأمرِ، وسميت شُبهةً لأنها تُشبهُ الحقَّ وهي ليست كذلك، وفي الحديثِ المتفقِ عليه: "مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ" .. وابتداءً فنحن حين نفصلُ الحديثَ في هذا الموضوع الشائِك، فأولاً من أجلِ حمايةِ وحصانةِ وتثبيتِ أهل الإيمان، ثمَّ عسى ولعل أن يكونَ من أولئك القوم من ينشدُ الحقَّ بصدقٍ فنكون سبباً في إيصالهِ إليه .. والملاحَظُ بوضوحٍ أنَّ الملحدين حين يُكثِرونَ من طرح الشُبهِ المضلِّلةِ، والأسئلةِ المغلوطة، فليسَ بحثاً عن الحقِّ, ولا رغبةً في اتباعه، وإنما جُحوداً وإنكاراً للحقِّ بعد معرفته، وصداً عن سبيل اللهِ، وسعياً في الإفساد .. قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ..
ولذلك فغالبِ شُبهِهم وأسئلتِهم التي يزعمون عدم القدرة على إجابتها، مبنيةٌ على مُغالطاتٍ منطقيةٍ، وتناقضاتٍ عقليةٍ .. فمن أشهرٍ الشبه التي يُكثِرون طرحها، رغم أنها قُتلت بحثاً وعلاجاً، قولهم: إذا كان اللهُ موجوداً، فمن أوجده، يعني (من خلقَ الخالق) .. ومثلها: إذا كان اللهُ أزلياً قديماً، فما الشيءُ الذي كان قبلهُ .. ومثلها أو قريباً منها: هل يستطيعُ اللهُ أن يخلقَ جبلاً لا يستطيعُ حمله .. كلُّ هذه الأسئلة وأشباهُها مبنيةٌ على مغالطاتٍ منطقيةٍ، وتناقضاتٍ عقليةٍ ..
ولكي نجيبَ عليها جواباً حاسماً، نحتاجُ لأن نفرقَ بين نوعين من المستحيل، المستحيلُ قُدرةً، والمستحيلُ عقلاً .. فالمستحيلُ قُدرةً: هو شيءٌ يعجزُ الانسانُ عن فِعلهِ، ولا يعجزُ عن تصوره، فمثلاً: طيرانُ الانسانِ بدون أدوات، يمكنُ تصورهُ عقلاً، لكن يستحيلُ فِعلهُ قُدرة، ومثله جميعُ المعجزاتِ .. تحولُ العصا إلى ثعبان، يمكن تَصورهُ عقلاً، لكن يستحيلُ فعلهُ قُدرةً، إبراءُ الأكمِهِ، إحياءُ الموتى، وغيرها من المعجزات .. كُلها أشياءٌ يمكنُ تصورها عقلاَ، لكن يستحيلُ على قُدرةِ البشرِ فِعلُها .. هذا هو المستحيل قُدرةً .. وأمَّا المستحيلُ عقلاً، فلا علاقة لهُ بالقدرة .. وإنما هو عدمٌ لا يملك العقلُ لهُ تصوراً .. والعدمُ ضدُّ الشيءِ .. وحين يقول اللهُ تعالى: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فهو يعني المستحيلُ قُدرةً، فالمستحيلُ قُدرةً: شيءٌ يَعجزُ الانسانُ عن فِعلهِ، ولا يَعجزُ عن تصوره، بينما المستحيلُ عقلاً هو عدمٌ لا يملكُ العقلُ لهُ تصوراً .. مثلاً لو كان أمامك كأسٌ ثابتٌ على الطاولة، فإنك تقدِرُ أن تُحركَ الكأسَ, أو أن تتركهُ ساكناً بلا حركةٍ .. لكنك لا تستطيعُ أن تجعلهُ سَاكناً ومُتحركاً في آنٍ واحِد .. إنها صُورتينِ مُتناقضتينِ, مطلوبٌ من العقل أن يتصور وجودهما معاً, وهو لا يملك ذلك، لا لعجز العقل وإنما لأن المطلوبَ نوعٌ من العدمِ غيرُ موجود .. مثالٌ آخر: إذا كان بإمكان العقل أن يتصورَ المثلثَ والمربعَ والدائرةَ والخطَ المستقيمَ، فإن من العدمِ والمستحيلَ العقلي أن يتصورَ العقل مُثلثاً لهُ أربعةُ أضلاعٍ، أو أن يتصورَ مُثلثاً دائِرياً، أو يتصورَ خطينِ مُتوازيينِ مُتقاطعين، إنها صورٌ معدومةٌ, لا يملك العقل لها تصوراً .. مثالٌ آخر: إذا كان بإمكان العقل أن يتصورَ رجُلاً في غاية الأمانةِ، أو أن يتصورَ رجُلاً لِصاً، فإن من العدم والمستحيلِ العقلي أن يتصورَ العقلُ رجُلاً أميناً سارقاً في آنٍ واحد ..  فالمستحيلُ العلقيُ إذن لا يعدو أن يكون مُغالطةً مبنيةً على وجودِ صفتينَ مُتناقضتينِ في آنٍ واحد .. وهذا عدمٌ ليس له تصورٌ في العقل ..
إذا فُهم هذا، فسيسهل الإجابةُ على كُلِّ جملة من أسئلة الملحدين وشبههم ..
فالسؤال الأول: من خلقَ الخالِقَ، هو سؤالُ مُغالطةٍ منطقيةٍ من قبيلَ العدمِ والتناقضِ العقلي المستحيل، حيثُ يتضمنُ وجودَ صفتينِ متناقضتيِن في آنٍ واحد، وهو أن يكون الإلهُ خالقاً ومخلوقاً في نفس الوقت .. وهذا مستحيلٌ عقليٌ، وعدمٌ ليس لهُ تصورٌ في العقل، فبطلَ السؤالُ من أساسه .. ومِثلهُ السؤالُ الثاني: إذا كانَ اللهُ أزلياً قديماً، فما الشيءُ الذي كان قبلهُ .. وأيضاً فهذه مُغالطةٌ منطقيةٌ، من قبيل العدمِ والمستحيلِ العقلي؛ مبنيةٌ على وجودِ صفتينِ مُتناقضينِ في آنٍ واحد، وهو أن يكونَ اللهُ قديماً وليس بقديمٍ في نفس الوقت، وهذا مُستحيلٌ عقليٌ لا يمكن تَصورهُ لعدميته، لا لعجزِ العقل، فبطلُ السؤالُ أيضاً .. ومثلهُ سؤالٌ آخر: هل يستطيعُ اللهُ أن يخلقَ جبلاً لا يستطيعُ حملُهُ .. وأيضاً فهذه مُغالطةٌ منطقيةٌ، من قبيل العدمِ والمستحيلِ العقلي؛ مبنيةٌ على وجودِ صفتينِ مُتناقضينِ في وقتٍ واحدٍ، وهي أن يكون لله صفةُ القدرةِ المطلقةِ، والقُدرةِ المحدودةِ، وهذا مُستحيلٌ عقليٌ, وعدمٌ ليسَ لهُ تصورٌ في العقل، فبطلٌ السؤالُ من أساسِهِ ..
ومن الشبهِ التي يروجُ لها الملحدونَ كثيراً قولهم: إذا كان الله يعلمُ ما سأكونُ قبل أن يخلقني, فلماذا يُقدِّرُ علي العذاب .. والجوابُ: أنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ أحداً وفقَ ما يعلمُهُ سُبحانهُ من حالهِ، وإنما وِفقَ ما يفعلهُ العبدُ أعمال حسنةٍ أو سيئةٍ، قال تعالى: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، وقد قامت حُجةُ اللهِ على عبادهِ بإرسال الرسلِ وانزالِ الكتبِ، فليس لهم بعد ذلك عذرٌ، قال تعالى عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}، فكل من يلقى في النار استحق العذاب بتكذيبه للنذير .. والله تعالى قد حرَّمَ على نفسهِ الظلم، فقال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .. وأكد أنه لا يكلفُ نفساً إلا وسعها .. ثمَّ إذا سَمحَ أحدٌ لنفسهِ بمثل هذا العذر، فلا بدَّ أن يَسمحَ لغيرهِ بمثله، وبالتالي فليس لهُ حقُّ أن يُنكرَ على من يظلِمهُ، ويتعدَّى عليه، ويأخذَ مالهُ، ويسلبُ حُقوقهُ، بل حتى إبليسَ، وفرعونَ، والأقوامَ الكافرة كُلهم بهذه الطريقةِ معذورون، لأن أفعالهم كُلَّها بعلم اللهِ وقَدرهِ، ومعلومٌ أن هذا لا يقبلهُ أحدٌ، ولو فعل الناس هذا لفسدت أحوالهم، ولما أمكن التفريقُ بين مؤمنٍ وكافر، ولا بين برٍّ وفاجِر .. فتبينَ بُطلانُ هذا القول عقلاً وشرعاً ..
ومن شُبهِ الملحدين قولهم: ما لا يُدرك بالحواسِّ فلا وجودَ له .. زاعمين أنَّ المنهجَ العلمي للمعرفة الانسانية يعتمدُ على الحواسِ المادية، كالبصر، والسمع، والحسِّ، وبما أنهُ لم يسبق لأحدٍ أن رأى الإلهَ بعينهِ ولم يسمعهُ بأذنهِ، ولم يُدركهُ بأيِّ وسيلةٍ حِسيةٍ .. فهو إنما ينطلقُ من إيمانٍ غيبيٍ بهذا الإلهِ, وليس من مُنطلقٍ عِلمي، فإنَّ هذا الإله بزعمِهم غيرُ موجودٍ عِلمياً .. والجوابُ بنفسِ المنطقِ والمنهج: فالملحدُ يؤمنُ بأنَّ الانسانَ قد تطورَ من سُلالةِ قِرد .. فهل سبقَ وأن رأى الملحدُ هذا التطوّر بعينه، أو سمعهُ بأذنه، أو لمسَهُ بيدهِ أو أدركهُ بأيِّ وسيلةٍ حِسيةٍ من حَواسِه .. وبما أنهُ لم يسبق لأحدٍ أن رأى عمليةَ التطوّرِ بعينه, ولم يُدركها بأيِّ وسيلةٍ حسيةٍ .. فهو إذن ينطلقُ من إيمانٍ غيبيٍ بهذا التطورِ الخيالي وليس من مُنطلقٍ عِلميٍ، وعليه فإنَّ عملية التطورِ غيرُ موجودةٍ عِلمياً .. ثمَّ ماذا عن وجود الجاذبيةِ الأرضية .. أليست شيئاً موجوداً ولا يمكنُ إدراكهُا بالحواس المادية .. فعدم ادراكنا الحسي بوجود الأشياء، لا يعني أنها غير موجودةٍ .. الإنسانُ إذا نامَ انتقلَ الى عالمٍ آخر، عالمٍ مجهولٍ تماماً .. فالنائمُ لا يشعرُ بالزمن، ولئن كانت عيناهُ مُغمضتان فإنه يمكن أن يرى، ولئن كانت قدماه ثابتتان, فإنهُ يمكنُ أن يمشي، ولئن كان فمه مطبقاً, فإنه يمكن أن يتكلمُ، ولئن كان نائماً لوحده, فإنهُ يمكن أن يعايش الآخرين ويخالطهم، ويفهمُ ويحفظَ ما جري له معهم، وربما سافرَ إلى أماكن لا يعرفها، وربما رأى أشياء لم يرها من قبل، وربما قابل أناساً لم يسبق له مقابلتهم من قبل، والعلمُ خارجَ هذه المنطقةِ تماماً، ولا يستطيعُ لها تفسيراً، وكلُّ ما وصل إليه العلماء انما هو تخميناتٌ بلا دليل .. وكذلك يقال للملحد، إنَّ في جسدكَ روحاً هي التي تجعلكُ حياً مُتحركاً، وبدونها تتوقفُ حركتك، وفي دِماغِك وعيٌ وذاكرةٌ تُدركُ بها الأشياء، وفي نفسِك مشاعرٌ مُتنوعةٌ، كالحبِّ والرحمةِ والرغبةِ والخوفِ وغيرها من المشاعِر .. وبما أنهُ لم يسبقِ لأيِّ مُلحدٍ أن أدركَ روحهُ أو عقلهُ أو مشاعِرهُ بأيِّ وسيلةٍ حِسيةٍ .. فإننا نستطيعُ أن نؤكدَ حسب منهجهم العلمي أن الملحدَ بلا عقلٍ وبلا روحٍ وبلا مشاعرٍ .. قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ..   
بارك الله لي ولكم ..
.
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه واخوانه، وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب ..
معاشر المؤمنين الكرام: بقي معنا شبهةٌ أخيرةٌ، يسمونها صخرةُ الإلحاد، وهي قولهم: أنَّ وجودَ الشرِّ يتعارضُ مع وجودِ الإلهِ الرحيم، ولأنَّ هذه الشبهةِ هي أقوى الشبهِ عندهم، وأكثرِها تشعُباً، وأخذاً ورداً، لذلك سنؤجلها للجمعة القادمة بإذن الله ..
وأما بقية هذه الخطبة فسنذكر فيها أهم وسائِل الوقاية من شُبهات الملحدين: فنقول مُستعينينِ بالله تبارك وتعالى: الوسيلةُ الأولى: هي الاهتمام بعبادة الذكرِ والتفكر في آيات الله الكونية والشرعية .. قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فبمداومة الذكر والتفكر يصلُ العبدُ إلى تنزيهِ اللهِ تعالى ونفي العبثيةِ والعشوائية .. {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} ..
والوسيلة الثانية: هي الثباتُ والتماسكُ أمام الشبهات، حيث أنه كثيراً ما يضطربُ المتشككُ حين يسمع الشبهةِ لأول مرة، ظناً منهُ أنه لا جوابَ لها، بينما لو سألَ من يثقُ بعلمه ورأيهِ فسيصلُ للإجابة الصحيحة بإذن الله ..
الوسيلة الثالثة: هي الاهتمامُ بالتأصيل الشرعي الكافي، ودراسةِ البراهينِ والأدلةِ الدامغةِ للرد على اعتراضات وشبه الملحدين المشككين، وذلك من خلال قراءة المراجع الخاصة بذلك، وهي كثيرةٌ ومتوفرةٌ بحمد الله ..
الوسيلة الرابعة: هي الحرصُ على تنمية الحسِّ النقدي، وعدمِ قبولِ أيِّ دعوى بدونِ دليلٍ صحيح .. والإلحادُ عموماً عقيدةٌ جوفاء فارغة، مبنية على النفي والرفض، ودليلها عدم الدليل، وهذا ما لا يقبلهُ عاقِلٌ مُنصف ..
الوسيلةُ الخامسة: هي معرفةُ طُرقِ البحثِ عن الحقِّ والصوابِ، ومعرفةُ طُرقِ التواصلِ مع المرجعيات العلميةِ والشرعيةِ الموثوقةِ والمتخصصةِ في حلِّ الإشكاليات التي لم يستطع أن يحلها بنفسه .. وكذلك التعرفَ على المواقعِ المتخصصةِ على الشبكة، كموقع المحاور, وموقعِ هداية الملحدين، وموقعِ التوحيد، وبإذن الله سيجدُ فيها الإجابةَ الشافية لكل الأسئلة والاشكاليات التي قد تواجهه .. كما أنَّ هناك الكثير من العلماءِ المتخصصين في هذا المجال, والذين يمكنُ الوصولَ إليهم والتواصلَ معهم بسهولةٍ عن طريق مُعرفاتِهم ومواقِعهم ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .. فنسأل الله أن يكون فيما قلناه إظهاراً للحقِّ, ونُصرةً له, ودِلالةً عليه، وإزهاقاً للباطلِ, ودحضاً لهُ, وتنفيراً منه ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان .. اللهم صل .. 


الحلقة السادسة : وجود الشرِّ لا يتنافى مع وجود الخالق جلَّ وعلا ..

.

الحمدُ للهِ الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} .. والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هادياً ومبشِّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً منيراً، صـلوات اللهُ وسلامهُ عليـه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ الأخيار، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنّهار، وسلَّم تسليماً كثيراً ..

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والتزموا سنَّةَ نبيكم تهتدوا، وأخلِصوا للهِ تبارك وتعالى نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تربحوا .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ..

معاشِر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ السادِسةُ من سِلسِلَةِ حلقاتَ الرَّدِّ على الملحدين، وسنُخصِصُها للرَّدِّ على ما يصرحُ به كثيرٌ من الملحدين أنَّ وجودَ الشرِّ هو السببُ الأكبرُ في الحادِهم, وأنهُ حُجتَهم الكبرى، بل ويسمونهُ صخرةُ الإلحادِ .. ودائماً ما يكونُ أولَ سُؤالٍ يطرحهُ الملحدُ، لماذا وجدَ الشرُّ ؟؟ لماذا وجِدَ المرضُ والألمُ والظلمُ .. فوجودُ الشرِّ بزعمِهم يتنافى مع وجودِ إلهٍ رحيمٍ قديرٍ عليمٍ، وإلا كيفَ يقبلُ إلهٌ كاملُ القدرةِ كاملُ الرحمةِ كاملُ العلمِ بوجود كلِّ هذهِ الشرورِ .. فإذا أثبتنا أنَّ وجودَ الشرِّ ليسَ فساداً من كُلِّ وجهٍ، وانَّ الشرَّ قد يُوصِلُ إلى خيرٍ أعظمَ منهُ، أو إلى دفعِ شرٍّ أشدَّ منهُ، وأنَّ وجودَ الشرِّ لهُ حِكمٌ جليلةٌ وفوائدُ عديدةٌ، فقد دُحِضَت حُجتُهم وبطُلَ زعمُهُم ..

وبداية نقول: أنَّ الاحتِجاجَ بوجودِ الشرِّ مُغالطةٌ منطقيةٌ، لا تصلحُ أنَّ تكونَ حُجةٌ لنفي الخالق .. لأنَّ الملحدَ حين يطرحُ هذه الشبهةَ، فهو يُدينُ نفسهُ، وينتقلُ بالمشكلةِ من كونها: هل الخالقُ موجودٌ أم غيرُ موجودٍ، إلى أن تكونَ: هل هو خالقٌ شِريرٌ أم غيرُ شريرٍ .. وهذا اعترافٌ ضَمنيٌ بوجودِ خالقٍ .. وعند التأمُّل سنجدُ أنَّ وجودَ الخيرِ والشرِّ ضروريَّانِ لحُريةِ الارادةِ والاختيارِ، وإلَّا كيفَ يكونُ الانسانُ مخيراً من غيرِ وجودِ الخيرِ والشرِّ معاً، وضروريَّانِ للابتلاءِ والاختبارِ، فهما مادةُ الابتلاءِ والامتحانِ, قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ... والخيرُ والشرُّ عموماً وجهانِ لعُملةٍ واحدة .. كُلٌّ منهما مُتممٌ ولازمٌ وضروريٌ لوجود الآخر .. ولا يكونُ أحدهما إلا بوجود الآخرِ .. فبوجوده يُوجدُ وبعدمِه ينعدِمُ .. وفي تضادِّ الخيرِ والشرِّ إبرازٌ لكُلٍّ منهما، فبضدِها تتميزُ الأشياءُ .. فلا يظهرُ جمالُ الخيرِ, ولا يظهرُ قبحُ الشرِّ إلا بوجودهما معاً .. فلا توجدُ الرحمةُ إلا في وجود الألمِ, ولا توجدُ الشجاعةُ إلا بوجود الخطرِ, ولا يوجدُ النبلُ والكرمُ إلا بوجود الحاجةِ, ولا يوجدُ الصفحُ والتسامحُ إلا بوجود الإساءةِ, ولا يوجدُ العدلُ والانصافُ والنُّصرةُ إلا بوجودِ الجورِ والظلمِ .. وقِس على ذلك، فلا معنى للصبر بلا مُصيبةٍ، ولا معنى للشبعِ من غير جوعٍ، ولا معنى للمواساةِ بلا مواجعٍ، ولا معنى للحبِّ من غير تضحيةٍ، وعليه فالشرُّ إفرازٌ طبيعيٌ لازمٌ وضروريٌ لوجود التضادِّ والاختلاف بين الأشياء ... وعند التأمُّلِ أكثر سنجدُ أنَّ غالبَ ما حولنا هو من قبيلِ الخير, وأنَّهُ هو الأصل، وأنَّ الشرَّ قليلٌ محدودٌ, بل هو استثناءٌ يؤكدُ دورَ الخيرِ ويُبرِزهُ .. فالمرضُ والألمُ استثناءٌ من الصحةِ والعافية، والجوعُ استثناءٌ من الشبعِ,  والقلق استثناءٌ من الطمأنينةِ, والخوفُ استثناءٌ من الأمن .. وهكذا فالخيرُ أصلٌ غالب, والشرُّ استثناءٌ محدودٌ .. وبالتالي فبإمكاننا أنَّ نقلبَ الطاولةَ على الملحد، فنسألهُ: من الذي جاءَ بكلِّ هذا الخير، والجواب: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ... ثم إنَّ الشرَّ قد لا يكونُ مقصُوداً لذاتِه، فالألمُ الذي يشعرُ به المريضُ نوعٌ من الشرِّ، لكنهُ ليس مقصوداً لذاته، بل هو تنبيهٌ وجرسُ إنذارٍ, يبدأُ خفِيفاً ثم يتدرجُ شيئاً فشيئاً حتى يصلَ إلى درجةٍ يصعبُ تحمُّلها,  كلُّ ذلك لكي لا يتراخى المريضُ في تعاطِي العلاجِ فتتفاقَمُ المشكِلةُ فيتعرضَ للهلاكِ .. فهل الشعورُ بالألمِ نِعمةٌ وحِكمةٌ وخيرٌ .. أم هو ظلمٌ وقسوةٌ وشرٌّ .. هل الشرُّ مقصودٌ لذاتهِ أم هو تدبيرٌ لطيفٌ من الرحيمِ الحكيمِ سبحانهُ وبحمده ... والخيرُ والشرُّ نِسبِيانِ متلازمان: وكلٌّ منهما خيرٌ من جهةٍ, وشرٌّ من جهةٍ أُخرى، ولو بنسبٍ مُتفاوِتة، لذلك قالوا في الأمثال: مصَائِبُ قومٍ عِند قومٍ فوائدُ .. المطَرُ مثلاً بِالنِّسْبَةِ لِلمَزَارِعِ خَيْرٌ، وَلكنهُ بِالنِّسْبَةِ لِصَانِعِ الفَخَّارِ شَرٌّ .. ذوبانُ الثلجِ وتحوُلِهِ إلى مَاءٍ عَذبٍ يَسقِي الزُّروعَ والحيواناتِ, هو خيرٌ من هذه الجهةِ، ولكنهُ قد يسببُ الفيضاناتِ المهلكةِ، النارُ والحرارةُ ضروريةٌ لحياة الانسانِ فهي خيرٌ من هذهِ الجهةِ، لكنها قد تُسبِبُ الحرائقَ والكثيرَ من الأضرار، الأمواجُ والرياحُ وغيرها من الأشياءِ كُلِّها لا يخلو خيرها الكثير من بعضِ الشرِّ والأذى .. حتى ابليسُ على ضلاله وإضلاله فهو ليس شرّاً محضاً,  ففي وجودهِ خيرٌ وحِكمٌ جليلةٌ منها: كونِه سبباً في استكمال المؤمنين لمراتب العبودِية للهِ، وذلك بمجاهدةِ عدوهِ، ومراغمتهِ والاستعاذة منه .. ومنها كونهُ عِبرةً لغيرهِ، وتخويفاً للمؤمنين من شؤم الذنوب، فإبليسُ بعدَ القربِ والرفعةِ والتكريمِ، آلَ إلى الطردِ والإهانةِ واللعنةِ، فمن يأمنُ على نفسه .. ومنها كونُه محكُّ اختبارٍ ليتميز الطيبُ من الخبيثِ .. وأن ينالَ الصالحون جزاء صلاحهم، وينالُ المجرمونَ جزاءَ إجرامهم .. ومنها كونُه سبباً في إظهار كمالِ قُدرةِ اللهِ وحِكمتهِ في خلقِ الاضدادِ, فكما خلقَ الله السماءَ خلقَ الأرضَ، وكما خلقَ النَّورَ خلقَ الظلامَ، وكما خلقَ الماءَ خلقَ النَّارَ، وكما خلقَ جبريلَ وميكائيلَ وبقيةَ الملائكةِ فكذلك خلقَ ابليسَ وذريتهُ من الشياطين، وغيرها من الحكم والفوائد ... وبعد ذلك فلا شكَّ أن لوجودِ الشرِّ حِكماً جليلةً أخرى، وفوائدَ عديدةٍ نذكرُ منها: أنهُ ضروريٌ لتطوير قُدراتِ الانسانِ: فمن طبيعةِ البشرِ مَيلِهم للراحةِ والكسلِ، وحُبِهم للتسليةِ والاستمتاع .. خصوصاً من يعيشُ في طراوةِ النعيمِ، بينما ترى الذين تربوا على الشدائِد والمعاناةِ والألمِ والمحنِ يصبحونَ نماذجَ فاخرةٍ في العطاءِ والانجاز، والايجابيةِ والتميزِ .. ففي بعضِ الشرَّ تربيةٌ نافعةٌ لبنى آدم, وتجاربُ الايامِ قد بينت للنَّاسِ أنَّ الشِدَّةَ انفعُ لهم مِن الرخاءِ في كثيرٍ من الأحيان .. ثم إنَّ السعادةَ والنعيمَ واللذاتِ والمتعِ عُموماً, لا يكادُ يسلمُ طالِبُها من ألمٍ وأذى، وكلمَّا ازدادت اللذةُ والمتعةُ زادَ الألمُ والأذى من جراءِ تحصِيلها .. يقول الشاعر: بصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنالُ إلا على جِسرٍ من التَّعبِ .. ويقول آخر: تُريدينَ إدراك المعالي رخيصةً .. ولابُدَّ دونَ الشَّهدِ من إبرِ النَّحلِ ..

وقد أكدت دراسةٌ لمتابعةِ حياةِ أكثرَ من 300 قائدٍ وزعيمٍ مؤثرٍ في التاريخ، أنهم عانوا جميعاً من طفولةٍ قاسيةٍ، أسهمت في صقلِ شخصيتِهم، وتنميةِ مهاراتِهم، وتعويدِهم على الجدِّيةِ وتحمُّلِ المسؤليةِ ..

ومن الحِكم في وجودِ الشرِّ: أن يكون سبباً في كسب الذنوب التي يُحبُّ اللهُ أن يغفِرها لعباده، فربنا العظيمُ الرحيمُ, عفوٌ كريمٌ يحبُّ العفو والمغفرة، ويفرحُ بتوبةِ التائبِ فرحاً لا تبلغُ العقولُ تَصورهُ، ويغفرُ لهُ ولو بلغت ذُنوبهُ عنانَ السماءِ، بل جاء في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يذنبون فسيستغفرون فيغفر الله لهم" .. فوجود الشرِّ يستظهِرُ معانيَ كثيرٍ من أسماءِ اللهِ الحسنى وصِفاتهِ العُلا، كالتوابِّ والغفورِ والعفو والرحيم والحليم وغيرها من الأسماء والصفات، وكذلك يستظهِرُ معاني الأسماءِ والصفاتِ التي تدلُ على انتقامِ اللهِ من الأشرارِ كالمنتقمِ والخافضِ والمذلِ وغيرها ... ومن الحِكم في وجودِ الشرِّ أنهُ ابتلاءٌ لرفعةِ الدرجاتِ وتكفيرِ السيئاتِ، وعلى كلا الحالينِ فهو عطاءٌ ورحمةٌ، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يصيبُ المؤمنَ من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذى حتى الشوكةَ يُشاكُها إلا كفَّرَ اللهُ بها من خطاياه", وفي الحديثِ الآخر: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ" رواه مسلم ... ومن الحِكم في وجود الشرَّ: اشعارُ المؤمنِ بحقارة الدنيا وأنها أتفهُ من أن يصرفَ لها همّهُ كلهُ، فإذا عضتهُ بعضُ المصائبِ بأنيابها, وأوجعتهُ بآلامِها, زالَت عنهُ سكرةُ حُبِّ متاعِها الزائِلِ، وعرفَ حقيقةَ قِيمتَها، وأنَّها كما جاء في الحديث لا تساوى عند الله جناحَ بعوضة ... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرِّ أنْ يُنتَقمَ بهِ من الظالمين، ويُعاقَبَ بهِ المفسِدين .. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .. وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرِّ أنهُ وسيلةٌ تُلجِئُ الانسانَ إلى خالقهِ ومولاه، وتضطرهُ للاستغاثةِ والاستعانةِ به جلَّ في علاه .. قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}.. فبسببِ ما يتعرضُ لهُ العبدُ من شُرورٍ وأذى، ينكسِرُ غُرورهُ، وترِقُ نفسهُ، وتنجلي عنهُ الغفلةُ، ويتيقنُ بأنهُ عبدٌ ضعيفٌ ليسَ له إلا أن يعودَ إلى خالقهِ ومولاه .. فالشرُّ هنا كالعلاج بالكي، يؤذي لكنهُ بإذن اللهِ يشفِي ..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ..

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الحمد لله كما ....

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين ..

معاشِر المؤمنين الكرام: من عقيدةِ المؤمِنِ أنهُ ليسَ في أفعالِ اللهِ شرٌّ، وأنَّ الشرُّ لا يُنسبُ لهُ أبداً، وإنَّما الشرُّ من أفعالِ مخلوقاتهِ .. واللهُ جلَّ وعلا إنَّما سمحَ بوجودِ الشرِّ لحِكمٍ سبقَ أنْ ذكرنا بعضها .. وحين يزعمُ الملحدُ أنَّ بعضَ الشرِّ الموجودِ لا حِكمةَ لهُ، كموت الحيواناتِ في الحرائقِ، أو جرائمَ اغتصابِ الأطفالِ وقتلِهم .. فمن وِجهةِ نظرِ الملحدِ ينبغِي للإلهِ الحكيمِ العليمِ الرحيمِ إنْ كانَ موجوداً أنْ يمنعَ مِثلَ هذهِ الشرورِ الفظِيعةِ ... وكثيراً ما يلجأُ الملحدُ إلى السؤال عن سببِ عدمِ إِخبارِ الرَّبِّ لنا عن حِكمةِ كُلِّ شرٍّ موجودٍ، وهو سؤالٌ بلا معنى، لأنَّ الشرَّ وجِدَ عموماً للابتلاءِ والاختبارِ، ولِـمَا ذكرناهُ سابقاً، ولأنَّ في طيِّ كُلِّ محنةٍ منحةٌ، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ... ولأنَّ العقلَ البشري قد يفوتُهُ إدراكُ الكثيرِ من الحِكمةِ لعجزهِ وقُصورهِ، فعقلُ الانسانِ عاجزٌ عن استيعابِ الكثيرِ من الحقائقِ الكونيةِ رغمَ وجودِها أمامهُ، فكيفَ يستوعِبُ عقلَهُ مفاهِيمَ وتفاصِيلَ العدلِ الإلهي والقَدَرِ خيرهِ وشرِّهِ، مع تعلُقِها بعالَم الغيبِ وما اختصَ اللهُ تعالى بعلمِهِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم "القدر سِرُّ الله" ... وقصورُ العقولِ وقِلَّةُ علمِها، يمكِنُ تخيُلهُ إذا تصورنا حيواناً يقعُ في مَصيدةٍ مُعقدةٍ، وحينَ يأتي انسانٌ ليخلِصهُ منها تجِدهُ يقاومُهُ بشراسةٍ, لظنهِ أنهُ يريدُ به شراً .. فبالرغم من ضخامةِ الفارقِ بين علمِ الانسانِ وعِلم الحيوانِ, إلا أنهُ لا شيءَ, مقارنةً بالفارق المتناهي بين علمِ اللهِ تعالى وعلمِ الانسانِ .. والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون .. ووجودُ الكثيرِ من الحِكمةِ لبعض أنواعِ الشرِّ بشكلٍ مُقنعٍ, يدلُ على وجودِ غيرها من الحِكمِ الكثيرةِ والمقنعةِ لبقية أنواعِ الشر، لكننا لا نعلمها لجهلِنا أو لقصورِ إدراكنا وعجزِ عقولنا ... ولله المثل الأعلى، فحين نجدُ في جهازِ الجوالِ قطعةً لا نعرفُ وظيفتها, فلا نقولُ أنها بلا فائدة، لأنهُ قد تراكم عندنا من تجاربَ سابقة, أنَّ الشركةَ المصنِعةَ لا تضعُ في جهازها قِطعةً إلا ولها حِكمةٌ وفائدة .. حتى ولو لم نعرفها ... والعقلاءُ قد استقرَّ في عقولهم اضطرادُ وتواترُ حِكمةِ اللهُ في خلقه، فإذا لم تظهر لهم الحكمةُ أحياناً .. فإنهم يردون ما جَهِلوه منها إلى ما استقرَّ في عقولهم, وما علِموهُ من حِكمتهِ المضطرِدةِ .. وفي قصةِ موسى مع الخضرِ عليهما السلام, عرفنا أنَّ خرقَ السفينةِ وهو شرٌّ ظاهرٌ كان هو السبب في سلامتها من شرٍّ أكبر, وأنَّ قتلَ طفلٍ صغيرٍ كان هو السببُ في رحمتهِ هو وأهلُهُ من شرٍّ أكبر لو أنهُ تُرِكَ حياً ... ثم هناكَ

أمرٌ أخيرٌ يغيبُ عن فهمِ الملحد, وهو أنَّ الغايةَ من خلقِ الانسانِ ومنحهِ هذه الحياةَ المؤقتةَ, ليست اسعادهُ وإنَّما اختباره، وأنَّ أيَّ شرٍّ يراهُ في الدنيا فهو ليس نِهايةَ المطافِ، وإنَّما هو الفصلُ الأول فقط، وحتماً هناك فصلٌ آخر مُتممٌ للقِصةِ، وهو يومُ القيامةِ، حيثُ ينالُ فيهِ الظالمُ والمظلومُ حقهُ بالقسط والعدلِ, قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .. 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

اللهم صل ..  


الحلقة السابعة والأخيرة من سلسلة حلقات { أفي اللهِ شكٌّ } : أسئلة لا يستطيع الملحدون الردَّ عليها ..
.
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ خالقِ كلِّ شيءٍ وهاديهِ، ورازقِ كلِّ حيٍ وكافيهِ، وجامعِ النّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيهِ، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ، ولا ربَّ لنا سواهُ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ..
وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ، النبيُّ المصطفى، والقدوةُ الـمُجتبى .. واللهِ ما ذرأ الإلهُ وما برى .. خَلْقَاً ولا خُلُقاً كأحمد في الورى ..  فعليه صلَّى اللهُ ما قــلمٌ جــرى .. أو لاحَ  بـرقٌ في الأبــاطِــح أو سَـرى .. والآلِ والصحبِ الكرامِ أوليِ النُّهَى، والتابعينِ وتابعيهم، ومن اقتفَى، وسلّم تسليماً كثيراً أنورا ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبُورُ تضمُّنا، وأرضُ القيامةِ تجمَعُنا، واللهُ يحكمُ بيننا، وهو خيرُ الحاكمين، {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} ..
معاشِر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ السابعةُ والأخيرة من سِلسِلَةِ حلقاتِ الرَّدِّ على الملحدين .. وأودُّ قبل أن أبدأ أنْ أذَّكرَ بالمغالطات التي بني عليها الملحدونَ عقيدتهم الإلحادية، فهم حين جحدوا وجودَ الخالقِ جلَّ وعلا استبدلوهُ بالصُدفةِ والطبيعةِ، ثمَّ زعموا أنَّ الكونَ أزليٌ قديمٌ لا بدايةَ لهُ ولا نهاية، ثمَّ فسَّروا نشأةَ الحياةِ ووجودَ الكائناتِ الحيةِ بنظريةِ النشوءِ والارتقاء، التي تُسمى نظريةَ داروين .. وملخصُها أنَّ جميعَ الكائناتِ الحيةِ نشأت في بداياتِها من أصلٍ واحدٍ، وهو كائنٌ بدائيٌ دقيقٌ, يُسمَّى وحيدَ الخليةِ, ظهرت هذه الخليةُ من العدمِ وتكوَّنَت بزعمِهِم في المستنقعاتِ، ثم أخذت هذه الخليةُ كما يزعمونَ تتغيرُ وتتطورُ وتترقي, عبرَ ملايين السنين، حتى وصلت إلى كلِّ أشكالِ وأنواعِ الحياة الموجودةِ الآن، بما فيها الانسانُ وسائرُ الحيوانِ .. وتزعُم هذه النظريةُ الخياليةُ أنَّ صفاتِ وأعضاءِ الكائناتِ الحيةِ تتغيرُ باستمرار، وأنها تتطورُ وترتقِي مع مرورِ الزمنِ, مكوِّنةً طفراتٍ جديدةٍ، تُمكِنُ الكائنَ الحيَّ من التكيَّفِ مع بيئتهِ بشكلٍ أفضلَ، وبالطبعِ فكلُّ هذهِ الطفراتِ والتغيراتِ تحدثُ صُدفةً .. ثمَّ إنَّ هذه الطفراتِ الناشئةِ، منها المفيدُ ومنها غيرُ المفيدِ، فإن كانت مُفيدةً استمرَ توريثُها في الأجيال القادمةِ، وإن كانت غير مُفيدةٍ فإنها تنقرِضُ وتفنى .. هكذا يا عباد الله: استبدلَ الملحدُونَ الجاحِدونَ وجودَ الخالقِ تباركَ وتعالى بهذه النظرياتِ الخرافية،  وحيثُ أنَّنا سبق وأن أثبتنا بأنَّ الكونَ ليس بأزليٍ ولا قديمٍ, وأنَّ لهُ بدايةً ولهُ نهاية، ودلَّلنا على وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا بشتى أنواعِ الأدلةِ، ورددنا على شُبهِ الملحدينَ الكاذبةِ، وبينَّا مُغالطاتِهم الزائِفةِ، وتدلِيسهم المضلل، ولم يتبقى إلا مِحورٌ أخيرٌ لتكتمِلَ أدلةُ الحقِّ الدامغةِ، وتنقطِعَ حُججُهم الباطِلِة من كلِّ وجهٍ .. وهو محورُ الأسئلةِ التي يعجرُ الملحدون أن يجيبوا عليها، وتبينُ في نفس الوقتِ تهافت مذهبهم، وبطلان مُعتقدهم .. وحيث أنَّ هناك أسئلةً كثيرةً جداً، فقد اخترتُ منها عشرةَ أسئلةٍ فقط، وحرصتُ أن تكونَ أسئلةً واضحةً مُباشرةً، ليس فيها تدليسٌ ولا مُغالطة .. ومع ذلك فلن يستطيع أيٌّ مُلحدٍ أن يجيبَ عليها ما لم يؤمن بوجودِ الخالقِ جلَّ وعلا ..
السؤال الأول: يزعمُ الملحدون أنَّ الطبيعةَ وعبرَ ملايين السنين, هي التي خلقت كلَّ الموجوداتِ بمنتهى الدقةِ والاتقانٍ، وهي التي تسيِّرُ كلَّ شيءٍ بانضباطٍ وثبات عجيب، فلماذا لا تتواصلُ الطبيعةُ مع مخلوقاتِها, وتبينُ لهم مُرادَها وغايتها من كل ذلك .. السؤالُ بطريقةٍ أُخرى: كيفَ تستطيعُ الكائناتُ التي خلقتها الطبيعة بزعمِهم أن تفعلَ ما لا تفعلهُ الطبيعةُ الخالقة، كيفَ تستطيعُ الكائناتُ المخلوقةُ أن تتواصل مع بعظها، وأن تعرفَ أهدافَها وحِكمةَ ما تقومُ به من أعمالٍ وانجازاتٍ، بينما تظل الطبيعةُ الخالقةُ كما يزعمون, بدون أية تواصلٍ مع مخلوقاتها .. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .. فيا معشر الملحدين: إنَّكم تزعمون أنَّ الانسان لا حِكمةَ من وجودهِ، بينما تُقرونَ أنَّ للحذاء حِكمةٌ، فهل يرضى عاقلٌ أن يكونَ حِذائُهُ خيرٌ منهُ ..
السؤالُ الثاني: يزعمُ الملحدُون أنَّ الصُدفةَ هي من أوجدَ كلَّ الكائناتِ الحيةِ, وأنَّ الطفراتِ والتغيُّراتِ النَّاشِئة, هي التي جعلتها تتطورُ وترتقي، وأنَّ هذه الطفراتِ تحدثُ كثيراً وباستمرار .. والسؤال هنا: لماذا توقفت الصُدفةُ تماماً عن أيجادِ كائناتٍ جديدةٍ .. لماذا لم يستطع العلمُ الحديثُ رغم تقدمِ وسائلهِ وامكانياتهِ أن يُسجلَ حالةَ نُشوءِ كائنٍ جديدٍ بطريقةٍ جديدةٍ .. مثلاً: لماذا لم يستمر تطورُ الانسانِ إلى مخلوقٍ آخرَ ارقى وأفضلَ مِنهُ، رغمَ مُضيِّ وقتٍ طويلٍ، ورغمَ أنَّهُ يملكُ الآنَ من الوسائلِ المساعدةِ، والعلومِ المتقدِمةِ ما لم يَكن يملكهُ وقتَ تطورهِ الأولِ كما يزعمون، السؤالُ بصورة أبسط: لماذا لم يتمكن العلمُ بُكلِّ وسائلهِ الحديثةِ من رصدِ تكوِّنِ أيِّ طفرةٍ أو تغيُّرٍ حديثٍ لأيِّ كائنٍ حيٍّ، سواءً كانت طفرةً مُفيدةً أو غيرَ مُفيدةٍ، في الطبيعةِ أو حتى في المُختبر ..
السؤال الثالث: يزعم الملحدون أنَّ الحيـاة على الأرض بدأت بظهور كائنٍ بدائيٍ دقيقٍ يُسمى وحيدُ الخلية .. نشأ كما يزعمونَ في المستنقعات في ظل ظروفٍ مناخيةٍ وبيئةٍ كيميائيةٍ مُناسبة .. والسؤالُ المحير هو: لماذا لم يستطع العُلماءُ رغم كل ما وصلوا إليه من تقدمٍ علميٍ كبيرٍ، ووسائلَ تقنيةٍ مُتقدمة .. أن يُنشئوا خليةً حيةً جديدةً من العدم، السؤالُ بصورة أبسط: لماذا لم يستطيع العُلماء بالرغم من سعِيهم الدؤوبُ وحرصِهم الكبير, أن يُهيئوا بيئةً وظروفاً مناخِيةً تصلحُ كما زعموا لنشوءِ الخلية من العدم مرةً أُخرى .. سواءً في الطبيعة أو في المختبر .. والجواب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ..
السؤال الرابع: لا يزالُ هناك أنواعٌ كثيرةٌ من الخلايا البدائيةِ المسماةِ بوحيدةِ الخلية، لا تزالُ كما هي, لم تتغير منذُ ملايين السنين ! فلماذا لم تتطور، أو تنقرض ؟ .
السؤال الخامس: يزعم الملحدون والمصدقونَ بنظرية النشوءِ والارتقاءِ، أنَّ الانسانَ تطورَ من سُلالِة قردٍ، والسؤالُ المحير: لمَ لا يوجدُ قابليةٌ لأن يتزاوجَ آخرُ القرودِ تطوراً مع الانسان .. لماذا لا يوجدُ قابليةٌ لأن يتزاوج رجلٌ بقردة, أو قردٌ بإمراءة .. كما يحدث بين الخيول والحمير، وبين الأسود والنمور، وبين الكلاب والذئاب .. لأنها من فصيلة واحدة ..
السؤال السادس: هناك أكثرُ من ثلاثةِ الآلافِ نوعٍ من القرودِ المختلفة، كلُّ نوعٍ منها لهُ شكلُهُ وتركيبهُ وأنسجتهُ المختلِفة، فلماذا بقيت هذه القرودُ قروداً ولم تتطور كما تطورَ الانسان، رغمَ وجودِ الامكانِيةِ كما يزعمون .. وفي المقابل فإنَّ جميعَ سُلالاتِ البشر القديمةِ والحديثةِ لها نفسُ الشكلِ والتركيبِ، وجيناتُها وأنسجتها كُلها مُتطابقةٌ تمام التطابق .. مما يُعارضُ بصورةٍ صارخةٍ عملية التطور المزعومة ..
السؤال السابع: بحسبِ نظريةِ الارتقاء، فهناكَ فارقٌ هائلٌ، وقفزةٌ تطوريةٌ ضخمةٌ بين تكوينِ الانسانِ وتكوينِ أرقى القرودِ، وبالتالي فلا بدَّ للملحدِين أن يُسلِّموا بوجود كائنٍ آخرَ بينهما، كائنٌ مميز، يكونُ أرقى من القرود, وأدنى من الأنسان، ليسدُّ هذا الفارقُ الهائلَ بينهما .. وهذا الكائن المميز يُفترضُ أنهُ ظهرَ قبل الانسان، وأنَّهُ كان في وقته هو الأفضلُ والأقوى والأذكى والأكثرُ تواجداً، لأنهُ حسبَ زعمِهم سيرتقي ويتطورُ ليُصبحَ انساناً .. والسؤالُ القاصِمُ للظهر: أين هو هذا الكائنُ المميزُ، لمَ لا يوجدُ لهُ أيُ أثرٍ ماديٍّ، ولو فُرضَ أنهُ أنقرضَ لسببٍ ما، فأين هي بقاياهُ وآثاره ؟ كيف استطاع العلمُ الحديثُ أن يجدَ بقايا حيواناتٍ منقرضةِ أقدمَ منهُ زمنًا, وأقلَ تطوراً, كالدينوصورات والماموث، ولم يجدَ لذلك الكائن المميزِ أيُّ أثرٍ .. السؤالُ بطريقة أخرى: إذا كان الانسانُ قد تطورَ من سُلالةِ قردٍ كما يزعمون، فلماذا لا توجدُ قرودٌ قريبةُ الشبهِ بالإنسان ولو جُزئياً، مثلاً: لمَ لا تُوجدُ قرودٌ تعيشُ واقفةً على قدميها كالإنسان، لمَ لا تُوجدُ قرودٌ تستطيعُ الكلامَ ولو بشكلٍ بِدائي، لمَ لا تُوجدُ قرودٌ ببشرةٍ وجلدٍ يشبهُ جِلدَ الانسانِ .. وغيرها من التساؤلات المشابهة ..
السؤال الثامن: يزعمُ الملحدون أنَّ وسيلةَ التطور في المخلوقات هي حُدوثُ الطفراتِ الجديدةِ، ويزعمون كذلك أنَّ ممَّا يُساهِمُ في ظهورِ وبقاءِ هذه الطفرات, حاجةُ الكائنِ الحيِّ لهذا التغيُّرِ .. والسؤالُ: لمَ لا يُولدُ أطفالٌ مختنونَ مع أنَّ اليهودَ والمسلمين يُختنونَ أبناءهم منذُ الافِ السنين، ولمَ لا يزالُ شعرُ الأبطينِ ينبُتُ بنفس الطريقةِ، رغمَ أنَّ أكثرَ الناسِ يُزيلونهُ باستمرار .. ولماذا لا تزالُ الزائدةُ الدوديةُ موجودةٌ عند جميعِ البشرِ بالرغم من أنها كما يزعمون عضو زائدٌ لا فائدةَ مِنهُ ..
السؤال التاسع: من المعروف عِلمياً أنَّ الحيوانات لا تميزُ بين الألوانِ، ولا تعرفُ معنى الجمالِ، فلماذا تختارُ بعضُ الحيواناتِ ألواناً وأشكالاً جميلةً جداً تتزينُ بها, كالطاووس وبعضِ الطيورِ الأخرى .. علماً بأنَّ هذه الصفات ليست ضروريةً لبقائها ..
السؤالُ العاشر: أجهزةُ الكائنِ الحيِّ المركبةِ من عدةِ أعضاء، كالجهازِ الدموي والعصبي والهضمي والتنفسي والتناسلي، تعملُ بنظام الوحدةِ المتكاملةِ، أيِّ أنها إمَّا أنْ تكونَ قد ظهرت بكلِّ أعضائها دفعةً واحدةً، وإمَّا أنَّ تطورها كان يسيرُ بخُطةٍ معلومةٍ مُحدَّدة, وكلاهما ينافي التَّطور العشوائي المزعوم ..
تلك عشرةٌ كاملةٌ .. فيا أيها الملحدون: هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين، وهاكم بُرهانُنا فإنَّا صادقون ..
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ..
بارك الله لي ولكم ....
.
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه ...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين, ومن {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: ينطلقُ المؤمنُ في حياتهِ من فطرةٍ سويةٍ، وعقيدةٍ نقيةٍ، تغمرُ قلبهُ بالطُمأنينةِ، وتملأ نفسِهُ بالسكينةِ، وتمنحُ روحَهُ الرَّوحَ والرَّاحةَ، وتنيرُ عقلهُ بصراً وبصيرةً .. والمؤمنُ يُوقنُ أيضاً أنَّ في القلبِ شعثًا لا يلمّهُ إلا الإقبالُ على الله، وفيهِ وحشةٌ لا يُزِيلُها إلا الأُنسَ بطاعتهِ، وفيهِ حُزنٌ لا يُذهِبهُ إلا السُرور بمعرفته وصدقِ معاملتهِ، وفيهِ قلقٌ لا يسكِّنهُ إلا إدامةُ ذِكرهِ .. وفيهِ نيرانُ حسراتٍ لا يُطفِئُها إلا الرِّضا بقضائهِ وقدرهِ .. وفيهِ فاقةٌ لا يسُدُّها إلا محبتهُ والإنابةَ إليهِ .. ولو أُعطيَ الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منهُ أبدًا .. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .. وأحسن من قال: 
بكَ أستجيرُ فمن يُجيرُ سِواكـا .. فأجِر ضعيفاً يحتمي بحِماكـا
يا مُدركَ الأبصارِ والأبصارُ لا .. تـدري لـهُ ولكنهِـهِ إدراكـا
إنْ لم تكن عينيِ تراكَ فإنَّنـي .. في كُلِّ شيءٍ أستبِيـنُ عُلاكـا
يا مُنبت الأزهارِ عاطِرةَ الشذا .. هذا الشذا الفواحُ نَفحُ شذاكـا
يا غافرَ الذنـبِ العظيـمِ وقابـلاً .. للتَّـوبِ قلـبٌ تائِـبـاً ناجـاكـا
ياربِّ عُدت إلـى رحابـِك تائبـاً .. مُستسلمـاً مستمسكـاً بُعـراكـا
إني أويت لكل مأوىًّ فـي الحيـاةِ .. فمـا رأيـتُ أعـزَّ مـنْ مأواكـا
وبحثتُ عن سِرِّ السعـادةِ جاهِـداً .. فوجدتُ هذا السِّـرَ فـي تقواكـا
أدعـوكَ يا ربـي لتغفـرَ زلتـي .. وتُعِينـنـي وتُمـدنِـي بهُـداكـا
فاقبل دُعائِي واستجِب لرجاوتـي .. ما خابَ يوماً من دعـا ورجاكـا
يا ربِّ هذا العصـرُ ألحـدَ عندمـا .. سخَّـرتَ يا ربـي لـهُ دُنيـاكـا
أوما درى الإنسانُ أنَّ جميعَ مـا .. وصلت إليهِ يـداهُ مـن نعماكـا
قُل للطبيبِ تخطفتهُ يـدُ الـردى .. يا شافيَ الأمراضِ من أرداكـا ؟
قُل للمريضِ نجا وعُوفي بعدمـا .. عجِزت فنونُ الطبِ، من عافاكا ؟
قُل للصحيحِ يموتُ لا مـن عِلـةٍ .. من بالمنايا يا صحيـحُ دهاكـا ؟
وإذا ترى الثعبانَ ينفـثُ سُمَّـهُ .. فاسألهُ من ذا بالسموم حشاكـا؟
واسألهُ كيفَ تعيشُ يا ثعبـانُ أو .. تحيا وهذا السـمُّ يمـلأ فاكـا؟
واسأل بطونَ النحلِ كيف تقاطرت .. شهداً وقلِ للشهدِ مـن حلاكـا؟
بل سائِلِ اللبنَ المصفى كانَ بين .. دمٍ وفرثٍ مـن الـذي صفَّاكـا؟
وإذا رأيتَ الحيَّ يخرجُ من ثنايـا .. ميـتٍ فاسألـهُ مـنْ أحيـاكـا؟
قُل للهواءِ تحسهُ الأيدي ويخفـى .. عن عيونِ الناسِ مـن أخفاكـا؟
وإذا رأيتَ البدرَ يسـري ناشِـراً .. أنوارهُ فاسألـهُ مـن أسْراكـا؟
وإذا رأيتَ النَّخلَ مشقوقَ النـَّوى .. فاسألُه من يا نخلُ شقَّ نواكـا؟
وإذا رأيت النـار شـبّ لهيبهـا .. فاسأل لهيب النار مـن أوراكـا؟
وإذا ترى الجبل الأشمَّ مناطحـاً .. قمم السحابِ فسله منْ أرساكـا؟
وإذا ترى صخراً تفجـرَ بالميـاهِ .. فسلهُ منْ بالماءِ شـقَّ صفاكـا؟
هذي العجائبُ طالما أخـذت بهـا .. عينـاكَ وانفتحـت بهـا أُذناكـا
واللهُ في كُـلِّ العجائـبِ مُبـدِعٌ .. إنْ لم تكُن لتـراهُ فهـو يراكـا
يا أيها الإنسـانُ مهـلاً ما لـذي .. باللهِ جـلَّ جـلالـهُ أغـراكـا؟
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صلِّ على محمد ....