أَفَلَا شَقَقْتَ عن قلبِهِ؟!-12-12-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

محمد بن سامر
1444/12/11 - 2023/06/29 07:07AM

أَفَلَا شَقَقْتَ عن قلبِهِ؟!-12-12-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

 وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ، فَقَالَ: أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟ أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".

واللهِ إنَّه لدرسٌ كبيرٌ، وصرخةُ نذيرٍ، من رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-لحبيبِه وابنِ حبيبِه أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ-رضيَ اللهُ عنهما-، درسٌ لم يكنْ يحتملُ التَّأجيلَ ولا المجاملاتِ، درسٌ لا ينبغي فيه الإطالةُ ولا المُقدِّماتُ، إنَّها النِّيَّاتُ وما أدراكَ ما النِّياتُ، وهل يعلمُ النِّياتِ إلا ربُّنا السميعُ البصيرُ، الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ.

فهل لنا-بعدَ هذا الموقفِ الرَّهيبِ-أن نطعنَ في نيَّةِ صديقٍ أو قريبٍ؟ يقولُ سعيدُ بنُ المسيَّبِ-رحمَه اللهُ-: "كتبَ إليَّ بعضُ إخواني من أصحابِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-: أن ضَعْ أمرَ أخيكَ على أحسنِه، ما لم يأتِكَ ما يَغلبُكَ، ولا تظنَّنَّ بكلمةٍ خَرجتْ من امرئٍ مُسلمٍ شَرًّا، وأنتَ تَجدُ لها في الخيرِ مَحملًا".

إساءةُ الظَّنِّ بما في قلوبِ الآخرينَ، يُحزِنُ أفئدتَنا؟ ويُفسدُ فرحتَنا؟ ويُطفئُ ابتسامتَنا؟ ونَفقِدُ بسببِه أحبَّتَنا؟ وأعظمُ من ذلكَ معصيةُ ربِّنا وخالقِنا، الذي أوصانا وقالَ لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا)، ولذلكَ لا تجدُ مؤمنًا حقيقيًّا في إيمانِه، إلا وهو سليمُ الصَّدرِ لإخوانِه، يلتمسُ لهم الـمُسوغاتِ والأعذارَ، ولو من قاعِ المُحيطاتِ والبحارِ.

يقولُ جعفرُ بنُ محمدٍ-رحمَه اللهُ-: "إذا بلغَكَ عن أخيكَ الشيءُ تنكرُهُ، فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعينَ عذرًا، فإنْ أصبْتَهُ، وإلا قُلْ: لعلَّ له عذرًا لا أعرفُهُ"، هذه-واللهِ-أخلاقُ العُظماءِ الأكابرِ، الذينَ يؤمنونَ بيومٍ تُبْلَى فيه السَّرائرُ.

ولقد صدقَ القائلُ:

تأنَّ ولا تعجَلْ بلَومِكَ صاحِبًا*

                           لعلَّ له عُذرًا وأنتَ تَلومُ

أفلا شَققتَ عن قلبِ أخيكَ، لترى لماذا لم يَزُركَ أو لم يتَّصلْ بكَ؟!، ألا يمكنُ أن يكونَ مشغولًا في معاشِه؟! أو يكونَ طريحًا على فراشِه؟! فتلومُ وأنتَ الملومُ، وتَعتِبُ وعليكَ العتبُ، وحتى لو كانَ أخوكَ مُقصِّرًا وللخيرِ مانعًا، فلا تكنْ أنتَ لصلةِ الرَّحمِ الواجبةِ قاطعًا، فإيَّاكَ أن تسمعَ كلامَ عدوِّكَ الشَّيطانِ، فإنَّه يسعى بالتَّفرقةِ بينَ الإخوانِ، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)، وصدقَ القائلُ:

إذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَـاءَتْ ظُنُونُهُ*

                       وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِن تَوَهُّمِ

وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عُـدَاتِهِ*

                  وَأَصْبَحَ في لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ

أفلا شَققتَ عن قلبِ صاحبِكَ؛ لتعرفَ لماذا قالَ تلكَ الكلمةَ، أو لماذا فعلَ تلكَ الحركةَ، ألا يمكنُ أنْ يكونَ مازحًا، أو يكونَ ناصحًا؟ قد يكونُ أخطأَ واستعجلَ، وأنتَ للعفوِ والمغفرةِ أهلٌ، أو قد يكونُ خانَه التَّعبيرُ والكلامُ، أو قد يكونُ سُوءُ فِهمٍ منكَ فلا يُلامُ، "دخلَ الرَّبيعُ بنُ سُليمانَ على الشَّافعي-رحمَهما اللهُ-وهو مريضٌ فقالَ له: قوَّى اللهُ ضَعفَك"-أخطأَ في التَّعبيرِ-، فقال الشافعي: لو قوَّى اللهُ ضَعفي لقتلني، فقالَ الرَّبيعُ: واللهِ ما أردتُ إلا الخيرَ، قالَ الشَّافعيُّ: أعلمُ أنك لو شَتمتني لم تُرِد إلا الخيرَ".

أفلا شَققتَ عن قلبِ زوجِكَ، لتعلمَ لماذا لم تسمعْ كلامَك، وأساءتْ إلى مقامِك، ألا يمكنُ أن تكونَ هي في قِمةِ الغضبِ وهذه بعضُ آثارُ الجُهدِ والتَّعبِ؟! أيُعْقَلُ أن تَنسى عِشرةَ السَّنواتِ بسببِ موقفٍ أو بعضِ كلماتٍ، اسمع كيفَ علَّمَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-رَجُلًا حُسنَ الظَّنِّ بزوجِهِ عندَ شكِهِ بـِها، "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ -أسمرَ أو رماديٍ-قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ".

أفلا شَققتَ عن قلبِ ذلكَ الـمُتَحَدِثِ لتعلمَ أَنَّ كلامَه للشُّهرةِ والرِّياءِ والسُّمعةِ، ألا يمكنُ أن يكونَ ممنْ إذا أصابَ فلهُ أجرانِ؟ أجرُ الاجتهادِ والإصابةِ، وإذا أخطأَ فله أجرٌ واحدٌ وهو أجر الاجتهادِ، قال النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، فإن أصابَ فمن توفيقِ الرَّحمنِ، وإن أخطأَ فمن نفسِه والشَّيطانِ.

أفلا شَققتَ عن قلبِ ذلك العابدِ والواعظِ لتعلمَ أن موعظتَه ودمعتَه كانتْ لغيرِ اللهِ، يقولُ مكحولٌ-رحمَه اللهُ-: "رأيتُ رجلًا يُصلي، وكلما ركعَ وسجدَ بكى؛ فاتهمتُه أنه يُرائي، فَحُرِمْتُ البُكاءَ سنةً"، واسمعْ لرسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-وهو يُحذِّرُ أمَّتَه فيقولُ لهم: "إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديثِ، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسَدُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا تَبَاغَضُوا، وكونوا عِبَادَ اللهِ إخوانًا".

وما أجملَ ظَنَّ أبي أيوبَ الأنصاريِّ-في أُمِّنَا عائشةَ-رضيَ اللهُ عنهما-في حادثةِ الإفكِ، فـ "عندما دخلَ على امرأتِه أمِّ أيوبَ-رضيَ اللهُ عنهما-، قالت له: يا أبا أيوبَ، ألا تسمعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بلى، وَذَلِكَ الكذبُ، أكنتِ يا أمَّ أيوبَ فاعلةً ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لا واللهِ مَا كنتُ لأفعله، قَالَ: فعائشةُ-واللهِ-خيرٌ منكِ"، فأنزلَ اللهُ-تعالى-: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ).

أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

فيا أخي الكريم: أفلا شققتَ عن قلوبِ النَّاسِ حولَكَ لترى ما فيها لكَ من الاحترامِ والتَّقديرِ، والحبِّ الخالصِ الكبيرِ، وتعلمَ ما فيها لكَ من القَدرِ العظيمِ، والمقامِ الكريمِ، ولكنَّ كثيرًا من النَّاسِ لا يستطيعُ التَّعبيرَ عن مشاعرِه الجَليلةِ، ولا يستطيعُ النُّطقَ بكلماتِه الجميلةِ، إمَّا حياءً أو خجلًا، وإما خوفًا أو وَجلًا، ولذلكَ ترى مشاعرَهم في قَسَماتِ وجوهِهم، وفي نظراتِ عيونـِهم، دونَ نُطقِ ألسنتِهم، فترى حُبَّهم مواساةً في الأحزانِ والأتراحِ، ومساندةً في الـمَسَرَّاتِ والأفراحِ، ويبذلونَ من أجلِك الأرواحَ؛ حُبًّا صامتًا عمليًّا لا قوليًّا.

فَأَحْسِنِ الظَّنَ بما في قلوبِ المسلمينَ، ولا تتَّهم ما لا تراهُ العينُ، واسمع إلى اعتذارِ النَّملةِ الرَّزينِ: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، فاعتذرتْ عنهم أنَّهم إن حَطَمُوكم فليسَ عن قَصدٍ منهم ولا شُعورٍ، فما أجملَ هذا الشُّعورَ!

فانظرْ إلى قلوبِ النَّاسِ نظرةً نظيفةً، واحملْ ما فيها على النَّوايا الشَّريفةِ، واجعلْ مشاعرَك تُجاهَهم خالصةً عفيفةً، يَذْهَبْ ما في قلبِك من الشَّكِ والرَّيبِ، وَتَحْلُو حياتُكَ بالسَّعادةِ وتطيبُ، وإذا ما أخطأَ عليكَ حبيبٌ يومًا واعتذرَ، فتذكَّرْ ما في العفوِ من الشَّهامةِ والأجرِ، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، نسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، يا ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.

اللهم أصلحْ لنا وللمسلمينَ الدِّينَ والدُنيا والآخرةَ، واجعلِ الحياةَ زيادةً في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً منْ كلِّ شرٍ.

اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمْهم واجعلْهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمينَ، اللهم إنَّا نسألك لنا ولوالِدينا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ.

اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، وانصرْ المسلمينَ وجنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.

اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمين.

المرفقات

1688011646_أَفَلَا شَقَقْتَ عن قلبِهِ؟!-12-12-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1688011646_أَفَلَا شَقَقْتَ عن قلبِهِ؟!-12-12-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 1365 | التعليقات 0