أفضل أيام الدنيا
محمد بن خالد الخضير
الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله، تقسُو القلوب وتَجفُّ الألسنة، يحلُّ الفتور وتتمكَّن الغَفلة، ويؤزُّ الشيطان النفسَ إلى هَواها أزًّا؛ {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}فيَحتاج العبْد في أيَّام دَهرِه إلى مَواسِم روحانيَّة يُجدِّد معها إيمانَه، ويُحاسِب فيها تقصيرَه، وينفض غبار الغَفلَة عن قَلبِه، وينمِّي في رُوحِه إحساسَ العبوديَّة الحقَّةِ لله - تعالى.
نحنُ فيِ أيَّامٍ فضَّل اللهُ زمَانَها، وعَظَّم اللهُ شأنَها، وأقْسَمَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: ((وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ))
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: اِحمَدُوا اللهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم وَتَفَضَّلَ بِهِ، مِن مَوَاسِمَ لِطَاعَتِهِ وَأَيَّامٍ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيهِ، وَاجعَلُوا شُكرَكمُ إِيَّاهُ عَمَلاً صَالِحًا يُرضِيهِ عَنكُم، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِن أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِن هَذِهِ الأَيَّامِ". يَعني أَيَّامَ العَشرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟! قَالَ: "وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ ثم لم يَرجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ".
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم:(أفضَلُ أيَّام الدنيا أيَّام العشر)) رواه أبو يعلى والبزَّار وصحَّحه الألباني.
وَيَعُودُ سَبَبُ تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأيَّامِ عِبَاد اللَّهِ،لأنه اجتمعت فيها أمهات العبادة، وهي الصلاة والصيام والحج والصدقة، ولا يتأتى ذلك في غيرها من الأيام، كما أن فيها يوم عرفة، وهو أفضل أيام العام،فحَرِيٌّ بأهل الإيمان، ومَن تَحدُوهم الجنَّة والرِّضوان، أنْ يستَعِدُّوا لهذه الأيَّام استِعدادَها، ويَقدُروها في النُّفوس حقَّ قدرِها.
إخوةَ الإيمان: وأفضَلُ أعمال الأبرار التي تُقدَّم في هذه الأيَّام حجُّ بيت الله الحرام، مَن أدَّاه بنيَّة خالصة واتِّباع صحيح، فهنيئًا له تكفيرُ السيِّئات، والفَوْز بالجنَّات؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((مَن حجَّ فلم يرفث ولم يَفسُق، رجَع كيوم ولدَتْه أمُّه))؛ رواه البخاري.وفي الصحيحين أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والحجُّ المبرور ليس له جَزاء إلاَّ الجنَّة)).
هذه الأيّام الفاضلةُ يُشرع صومها، ويتأكّد فضلُه فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال. وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي: [كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به] (البخاري).
وقال عليه الصلاة والسلام: " ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا" متفق عليه
وثبَت عن رسولِ الهدى - أتْقَى الناس وأعبَد الخلْق - أنَّه كان يصوم تسع ذي الحجة؛ رواه الإمام أحمد والنسائي، وصحَّحه الألباني.وَآكَدُ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَيَشْرَعُ صِيَامَهُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ ، قَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عرفةَ فَقَالٍ:(( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.وما من كيوم عرفة ترجى فيه مغفرة الذنوب ورحمة علام الغيوب فهو يوم من أيام العتق من النار، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) مسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك،)).
فلله تلك المواقف المشرفة، والبقاع المطهرة، والأزمنة المباركة!!
كم فيها من ضارع منكسر؟ كم فيها من حزين أسيف؟ كم فيها من نائح على ذنوبه باك على عيوبه؟ كم فيها من رجل بادر الله بالتوبة فبادره بالغفران؟ وخط بدموعه كتاب رجوعه فحط عنه وزر العصيان؟ ليت شعري .. كم ينصرف من هذا الموقف من رجال ما عليهم من الأوزار مثقال ذرة! قد ملأت قلوبهم الأفراح وعلت وجوههم المسرة؟
يا أصحابَ الأيادي البيضاء، وأهل الفَضل والعَطاء، هذا مَوسِم الإنفاق والإحسان، هذا مَوعِدٌ يُسَلُّ فيه الشُّحُّ من النُّفوس، فيا لله كم رسمَتْ أعطياتُكم البَسمة على الشِّفاه، وكم واسَتْ نفوسًا مَكلُومة، وكم كسَبَتْ قلوبًا ظلَّت وفيَّة لكم بالثَّناء والدُّعاء.تذكَّروا - يا رَعاكُم الله - أنَّ هذه الصدَقات زيادةٌ لكم في أموالكم، وأنَّ تلك الأعطيات هي في الحقيقة منكم وإليكم؛ {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}
إخوةَ الإيمان:
العَجُّ بالذِّكر وتَرطِيب الألسِنة بالتكبير والتهليل، شعارُ هذه الأيَّام، وعنوانٌ تتميَّز به، كيف لا؟ وقد خصَّهَا المولى - سبحانه - بأنها أيَّام ذكْرٍ لله؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: هي أيَّام العشر.
ولذا كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوصِي أصحابَه بقوله: ((ما من أيَّامٍ أعظَمُ عند الله ولا أحبُّ إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيَّام؛ فأكثِرُوا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد))؛ رواه الإمام أحمدُ وغيره.
بارَك الله لنا ولكم في القُرآن العظيم، ونفعَنِي وإيَّاكم بهدْي سيِّد المرسلين، أقول ما سمعتُم وأستَغفِر الله لي ولكم، فاستَغفِروه وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أَمَّا بَعْدُ،
عباد الله تَذَكَّرُوا أَنَّ بَينَ يَدَيكُم عِبَادَةً عَظِيمَةً تُؤَدُّونَها في يَومِ العِيدِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ، إِنَّهَا الأُضحِيَةُ، سُنَّةُ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ وَنَبِيِّكُم محمدٍ -عَلَيهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- دَاوَمَ عَلَيهَا الحَبِيبُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَلم يَترُكْهَا، امتِثَالاً لأَمرِ رَبِّهِ القَائِلِ -سُبحَانَهُ-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَرْ)، وَعَن أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِكَبشَينِ أَملَحَينِ أَقرَنَينِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ.
وَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِالمَدِينَةِ عَشرَ سِنِينَ يُضَحِّي. رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم جلّ في علاه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد كمَا صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد،
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الْشَّرِيِفَيْنِ لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائبَه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، وجازِهم بالخيرات على ما يبذُلُونَ لخدمةِ الحرمين الشريفَين وقاصِدِيهما.
اللهم وفِّق رِجالَ أمنِنا، والعاملين لخدمةِ الحُجَّاج والمُعتمِرين وقاصِدي الحرمين، وأجزِل لهم الأجرَ والثواب.اللهم وفِّق واحفَظ المُرابِطين على ثُغورِنا وحُدودِنا، والمُجاهِدين لحفظِ أمنِ بلادِنا ، اللهم كُن لهم مُعينًا ونصيرًا وحافِظًا..
اللهم وفِّق حُجَّاجَ بيتِك الحرام، وتقبَّل مِنهم حجَّهم وسائِرَ أعمالِهم، اللهم رُدَّهم إلى أهلِيهم سالِمين غانِمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا ،وارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا،
للهم إنا نسألُك رِضاكَ والجنة، ونعوذُ بك من سخَطِك والنار.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
المرفقات
أيام-الدنيا-3-12-1438
أيام-الدنيا-3-12-1438
أيام-الدنيا-3-12-1438-2
أيام-الدنيا-3-12-1438-2