﴿أَفَأَمِنُوا ‌مَكْرَ ‌اللَّهِ﴾.

عاصم بن محمد الغامدي
1445/06/29 - 2024/01/11 21:44PM

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، ودبَّر عباده على ما تقتضيه حكمتُه وكان بهم لطيفًا خبيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا، أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.

مَنْ عَظَّمَ اللهَ عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَه، وَمَنْ وَقَّرَ اللهَ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخالِفَ أَمْرَه، وما أَدْمَنَ التوبةَ إِلا تَقِيّ، وما خَافَ الذُّنُوبَ إلا مُؤمِن، كان بعضُ السلفِ رحمهم الله يقول: يا عبادَ الله، لا تغتَرُّوا بطولِ حِلمِ الله عليكم، واحذروا أسفه، فإنه سبحانه قال في كتابه: ﴿‌فَلَمَّا ‌آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾.

عباد الله:

همَّ ملأٌ من بني إسرائيلَ أن يفتكوا بعيسى عليه السلام، وأرادوا به السوءَ والصلبَ، فتمَالؤوا عليه، ووشَوْا بهِ إلى ملكِ زمانِهِمْ، قائلين أنه يضلُّ الناسَ، ويَصدُّهم عن طاعَتِه، ويفسِدُ الرَّعايا، ويفرِّقُ بين الأبِ وابنِهِ، وغيرِ ذلكِ منَ الكذبِ الذي تقلَّدوهُ في رقابِهِمْ، وَرَمَوْا بهِ نبيَّ الله، حتَّى استثاروا غضبَ الملكِ، فبعثَ في طلبِهِ، ليأخذَه ويصلبَه وينكِّلَ به، فلما أحاطُوا بمنزِلِهِ، وظنُّوا أنَّهم قدْ ظفِروا بِهِ، نجَّاه الله سبحانه من بينِهِم، ورفعهُ إليهِ، وألقى شَبَهَهُ على رجُلٍ، فأخذَهُ الظالمونَ، وقتلوهُ وصَلبوهُ، ظانِّينَ أنَّهُ نبيُّ الله عليه السلام، وكان هذا منْ مكرِ الله عزَّ وجلَّ بهِمْ، مقابلةً لمكرِهِمْ، أنْ نجَّى نبيَّه مِنْ بينِ أظهرِهِمْ، وتركهُم في ضلالِهِمْ يعمهونَ، فللهِ سبحانه المكرُ، وهوَ ﴿‌أَسْرَعُ ‌مَكْرًا﴾، وهوَ ﴿‌خَيْرُ ‌الْمَاكِرِينَ﴾.

والمكرُ: إيقاعُ الضُرِّ خُفيَةً منْ حيثُ لا يشعرُ المرءُ، ﴿وَاللَّهُ ‌خَيْرُ ‌الْمَاكِرِينَ﴾؛ لأنَّ إملاءَهُ واستدرَاجَهُ للفجارِ والجبابرةِ والمنافقينَ يُشبه المكرَ في حُسْنِ الظاهرِ، وسُوءِ العاقبةِ، لكنَّهُ خيرٌ محضٌ، لا يترتبُ عليهِ إلا الصلاحُ العامُّ.

والمكرُ السيءُ لا يُحيطُ إلا بأهلِه، ولا يقعُ إلا عليهم، قال جلَّ جلاله: ﴿‌وَلَا ‌يَحِيقُ ‌الْمَكْرُ ‌السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، والمؤمنُ وإنْ كانَ يثق بوعدِ ربِّهِ إلا أنه لا يأمنُ غضبَهُ مِنْ جرَّاءِ تقصيرِهِ، ويخشى أنْ يكونَ تحقيقُ الوعدِ مُرْجَئًا إلى زمنٍ آخرَ، فإنَّ ما في علمِ الله وحكمتِهِ لا يُحاطُ به.

وإذا كانَ المكرُ ديدنَ الكافرينَ، وعادةَ الظالمينَ، فإنَّ مكرَ اللهَ بهمْ أسرعُ وأقوى؛ لأنَّ مكرَهُ يخفى عليهمْ، ومكرَهُمْ لا يخفى عليهِ، ﴿‌وَقَدْ ‌مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾، أي: عندَ الله علمُ مكرِهِمْ وجزاؤهُ، وما كان مكرُهم ليزيلَ الجبالَ، فلنْ يتمكَّنُوا منْ إزالةِ دينِ الإسلامِ؛ لأنَّ ثباتَه كثبوتِ الجِبالِ الرَّاسياتِ.

ولما كانَ المكرُ والخداعُ منْ صفاتِ الكافرينَ، كانَ التلبسُ بهما دليلاً على ضعفِ الإيمانِ، وهما من كبائرِ الذنوبِ، لما يترتبُ عليهما من التفرقةِ بينَ المسلمينَ، وبثِّ الشحناءِ والبغضاءِ بينَهم، ولذا فإنَّ مصيرَ المكرِ السيءِ وأهلِه في الآخرةِ إلى النارِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَوْلا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «‌الْمَكْرُ ‌وَالْخَدِيعَةُ ‌فِي ‌النَّارِ» لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ النَّاسِ.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:

فإنَّ من صفاتِ الله جلَّ جلالُه الفعليةِ، صفةَ المكرِ على من يمكرُ به أو بأولياءِه الصالحينَ، وهي صفةٌ لا يجوزُ وصفُه بها وصفًا مطلقًا، بلْ تُذكرُ في مقامٍ يكونُ مدحًا، وقدْ كانَ مِنْ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، ‌وَامْكُرْ ‌لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى لِي».

وإنَّ منْ كبائرِ الذنوبِ التي يجبُ الحذَرُ مِنها، الأمنَ منْ مكرِ الله، ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ‌فَلَا ‌يَأْمَنُ ‌مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وكفى بتأكيدِ الخسارةِ تحذيرًا وتنبيهًا.

والأمنُ من مكرِ الله يعني الأمنَ منِ استدراجِهِ للعبادِ، فإنْ كانَ أمنًا تامًّا، لا خوفَ معهُ فهو الكفرُ والعياذُ بالله، وإنْ كانَ أمنًا غالبًا، يخالِطُهُ شيءٌ من الخوفِ لا يمنعُ من الاسترسالِ في المعاصي فهو كبيرةٌ من كبائرِ الذنوبِ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أكبرُ الكبائرِ: الشِّركُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمةِ الله، واليأسُ ‌من ‌رَوحِ ‌الله".

لمَّا أمِنَ اليهودُ المحتلُّونَ في فلسطينَ من مكرِ الله، قَصَفُوا الآمنينَ، وروَّعوا المؤمنينَ، ولمْ يرعَوْا عهدًا، ولا اعتَبَرُوا ميثاقًا، والخِسَّةُ والدناءةُ مِنْ أصلِها لا تستغرَب، فأسلافُهم سَبقوهمْ في ذلك وورَّثوهُ لهم، فَقَدْ أمِنوا مكرَ الله فتجرؤوا عليه، ووصفوهُ بما لا يليقُ إلا بهم من أوصافِ النقصِ، وقتَلوا الأنبياء عليهمُ السلامُ، ولم يسلم منهم حتى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وكان من مكرِ الله بهمْ تمكينُ نبيِّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ وأصحابِه مِنْ تشريدِ بعضهِمْ، وقتلِ بعضِهِمْ، جزاءً وفاقًا، ﴿‌وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾، ونحنُ موقنونَ أنَّ مكرَ الله بأسلافِهِمْ، سيعقبُه مكْرُهُ بِهِمْ، وأنَّ العاقبةَ للمسلمينَ، والعزَّةَ لله ولرسولِهِ وللمؤمنينَ.

ومن صور الأمنِ منْ مكرِ الله أمْنُ المقصِّر في صلاتِهِ، والمنكبُّ على شهواتِه، والمنشغلُ بترَّهاتِه، والمضيعُ لأوقاتِه، والغافلُ عما خُلقِ لأجلِهِ، لِمَا يراهُ من توالي نعمَ ربِّه عليهِ، فهو يظنُّ ذلكَ من حُسْنِ عَمَلِه، وظاهرِ توفيقِه، فيستمرَّ في غوايَتِه، لا يرعى لصلاةِ الفجرِ قدرًا، ولا يبذلُ لإدراكِ الجماعةِ جُهدًا، ولا يحرِصُ على ما يقرِّبه من ربِّهِ، في وقتٍ يُتخطَّفُ فيهِ الناسُ، وتكثرُ فيهِ العبرُ والعظاتُ، وما يشعرُ أنَّ توالي النعمِ قد يكونُ منْ مكرِ الله به ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ‌فَإِذَا ‌هُمْ ‌مُبْلِسُونَ﴾.

والواجبُ على المؤمنِ أن لا يُغلِّبَ جانبَ الخوفِ فيقعَ في كبيرةِ القنوطِ من رحمةِ الله، ولا يغُلِّبَ جانبَ الرجاءِ فيقعَ في كبيرةِ الأمنِ منْ مكرِ الله، بل يكونُ بينهما كالجناحينِ للطائرِ، فهوَ خائفٌ من ربِّه راجٍ ثوابَهُ، إن وقعَ في ذنبٍ خافَ، وإن فعلَ طاعةً رَجَا، ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ‌وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾.

ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

المرفقات

1704998627_﴿أَفَأَمِنُوا ‌مَكْرَ ‌اللَّهِ﴾.docx

1704998635_﴿أَفَأَمِنُوا ‌مَكْرَ ‌اللَّهِ﴾.pdf

1704998635_﴿أَفَأَمِنُوا ‌مَكْرَ ‌اللَّهِ﴾ للجوال.pdf

المشاهدات 872 | التعليقات 0