أغنى الناس

راكان المغربي
1445/03/18 - 2023/10/03 13:53PM

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

"كيفَ تصبحُ مليونيراً؟"

"عشرُ خطواتٍ لتصبح صاحبَ ثروةٍ"

"طريقُكَ نحوَ الثراءِ بضغطةِ زِرّ"

تلكَ بعضُ العباراتِ التي تمرُّ علينا خلالَ تصفّحِنا لصفحاتِ الانترنت ومواقعِ التواصلِ الاجتماعي.

جُملٌ رنّانةٌ يَنجذبُ لها كثير من الناس، بما جُبلوا عليه من حبِّ المال لطلبِ الغنى ورفعِ مستوى المعيشة، وتحقيقِ حياةٍ أفضل.

ولا شكّ أن المالَ قد يُحَصِّلُ به الإنسانُ شيئا من الغنى، فيستغني عن مسألةِ الناس وطلبِ الحاجات منهم.

ولكنْ ثمةَ غنىً هو أكملُ وأتمُّ وأشملُ من غنى المال، يصلُ الإنسانُ بهذا الغنى إلى مستوياتٍ عليا من السعادة، ويحقّقُ له حياةً مثلى، لا يمكن أن يصلَ إليها بالمالِ وحده.

ذلكمُ الغنى هو غنى النفس، بأن تقنعَ النفسُ بما آتاها الله، وترضى بما قسم لها من الرزق، قليلاً كان أو كثيراً.

قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ).

فكم من أصحاب الأموال والمتاع من لا يقنعُ بما أُوتي، فهو في نَهَمٍ مستمر، يلهثُ وراءَ متاع ِالدنيا، يجمعُ منها فلا يشبع، ويغترفُ منها فلا يرتوي، إذا أُعطِيَ وادياً من ذهب، مدَّ عينَه إلى الوادِ الآخر، وإذا أكرمه اللهُ بجبالٍ من النِّعم، أعمى بصرَه عنها وتطلعَ لما وراءَها، فهو كالفقيرِ المحتاجِ من شدّةِ حرصِه وتلهّفِه لمتاعِ الدنيا.

وأما غنيُّ النفسِ فلديه كنزُ القناعةِ الذي لا يفنى، ومعينُ الرضا الذي لا ينضب، فهو مطمئنٌّ سعيدٌ بما رزقه الله. يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ارْضَ بما قسم اللهُ لك تَكُنْ أَغْنَى الناسِ).

هذا هو الغنيُّ حقا، الذي يستمد غِناه من قلبه، برضاهُ عن قسمةِ ربه، فهو غنيٌّ تمام الغنى، سواء خسرَ الصفقةَ أو ربحها، فاتته الجائزةُ أم كسبها، فهو في كل الأحوال راضٍ برزق الله، قنوعٌ بفضل الله، فهو بذلك نال الفلاحَ في الدنيا والآخرة. قال النبيٌّ صلى الله عليه وسلم: (قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ).

ومن المكاسب الجليلة التي يحققُها القنوعُ محبةُ الله سبحانه، فالقنوع عَبَدَ الله بالرضا فاستحق بذلك محبّتَه. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يحبُّ العبدَ الغنيَّ التقيَّ الخفيَّ)، والغنيُّ هنا هو القنوعُ الراضي المستغني بالله عما سواه.

وحتى تحصلَ على هذا الغنى التام، فتعيشَ في راحةٍ وطمأنينةٍ، وسعادةٍ وسكينةٍ مهما كان مستواكَ المعيشي، ومرتبتُك الوظيفية، ودرجتُك الاجتماعية، فإليك بعضُ الوصايا:

أولا/ تيقنْ أنّ رزقَك مكتوبٌ، وأنك لن تموتَ حتى تستوفيَه كاملاً موفراً غيرَ منقوص. ولو فررتَ من رزقك لأدركَكَ كما يدركُكَ أجلُك. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ رُوحَ القدُسِ نفثَ في رَوْعي أنَّ نفسًا لنْ تموتَ حتَّى تستكملَ أجلَها وتستوعبَ رِزقها فاتقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلبِ). فما دام الأمرُ كذلك، فعلامَ الطمعُ والجشعُ؟ وعلامَ التوترُ والقلقُ؟

ما كُتبَ لك سيأتيك ولو حاولَ أهلُ الأرضِ كلهم منعَه عنك، وما لم يُكتبْ لك فلن يأتيَك ولو حاول أهلُ الأرضِ كلهم جلبَه لك. فاطمئن بالله وارضَ بما قسمه الله من الرزق تكنْ أغنى الناس.

 

ثانيا/ لا تمدّنَّ عينيك ولا تتطلعْ إلى ما عندَ غيرِك من الناس، بل صوِّب نظرَك إلى نفسِك، وتفكَّر في نعمِ اللهِ العظيمةِ عليك، وتأمّلْ في عظمتِها وكثرتِها وتنوعِها، فإنّ ذلك سيحملُك على شكرِ تلك النعمِ وعدمِ ازدرائِها، وستدركُ حينها فضلَ الله العظيمِ عليك، وستعلمُ أن ما أعطاكَ أضعافَ أضعافَ أضعافَ ما لم يعطِك، وحينها ستشعرُ بتمامِ الرضا، وعِظَمِ المنّة. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ) (فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ).

وفي زمنِ انتشارِ مواقعِ التواصلِ يتأكّدُ هذا التوجيهُ البليغ. فكم من الناسِ من يقضي يومَه في متابعةِ اليوميّاتِ التي ليس فيها إلا التباهي والتفاخرُ بمتاعِ الدنيا الزائل. فهذا اشترى مركباً فخماً، وهذا أكل في مطعمٍ فاخرٍ، وهذا سافر إلى بلدٍ خضراء، وهذه أهدت لها زوجُها حلةَ ذهب، وإلى آخر ذلك من الأحداث التي لا تنفعُ من يشاهدُها، بل كثيراً ما تضرُّه بأن تتطلعَ نفسُه إلى ما عندَ غيره، فيستَقِلُّ نعمةَ الله عليه، ويشعرُ حينَها بأنَّه مسكينٌ محرومٌ من كلِّ ذلك.

اعلم يا عبدَ اللهِ أنّ اللهَ قسمَ الأرزاقَ بين العباد، فكلٌّ منا في أصنافِ الرزق بين مقسومٌ له ومحرومٌ، فمنا من أُعطِي الجمالَ ومنا من حُرمَ منه، ومنا من أُعطِي المالَ ومنا من حُرمَ منه، ومنا من أُعطِي العافيةَ ومنا من حُرمَ منها، ومنا من أُعطِيَ صلاحَ الأولادِ ومنا من حُرِمَ من ذلك، وهكذا لو مررتَ على كلِّ النعم. فلا يوجدُ عبدٌ حازَ على كل النعم، ونال كل العطايا، فكلٌّ منا له نصيبُه من العطايا والحرمان. فما أعطاك الله فاشكرْه قولاً وعملاً، وما حرمَكَ منه فغضَّ الطرفَ عنه وسلِّم وارضَ بقسمةِ الله لك.

ولذلك جاءت الوصيةُ الربانيةُ من اللهِ سبحانه لحبيبِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقال له: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)

قال السعدي رحمه الله: " لا تمدَّ عينيك معجبا، ولا تكررِ النظرَ مستحسنا إلى أحوالِ الدنيا والمُمَتّعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كلَّه زهرةُ الحياة الدنيا... وإنما جعلها اللهُ فتنةً واختبارا، ليعلمَ من يقفُ عندها ويغترُّ بها، ومن هو أحسن عملا... ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾ العاجلِ من العلم والإيمان، وحقائقِ الأعمال الصالحة، والآجلِ من النعيم المقيم، والعيشِ السليم في جوار الرب الرحيم ﴿ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ لكونه لا ينقطع، أكلها دائم وظلها، كما قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾".

 

ثالث الوصايا لتحقيقِ الغنى/ لا تعلقْ قلبَك بالدنيا، واجعل همَّك الدارَ الآخرة، وتذكر أن الدنيا ليست دارَ جزاء، فليس كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُه، والله سبحانه يعطي الدنيا من يحبُّ ومن لا يحبُّ، وما فيها من متاعٍ فهو قليلٌ فانٍ، وما ينتظرُك في الآخرة أعظمُ وأدوم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واللَّهِ! ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟).

تأمل في هذا المثلِ يا عبد الله! واعلم أنه مهما فاتك من الدنيا فإنما هو جزءٌ من تلك القطراتِ اليسيرةِ التي خرج بها إصبعُك من البحر، فلا تكدرْ خاطرَك من أجلِ جزءٍ من قطرة، وانظر إلى البحرِ الخِضَمِّ واصرف همَّك إليه، فهو الآخرةُ والنعيمُ الذي ينتظركَ إن عبدتَّ الله حقّ عبادته، ورضيتَ بما قسمَ لك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ، جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ، وجمعَ لَه شملَهُ، وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ. ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ، جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ).

اللهم اجعلنا أغنى الناس بك وأفقر الناس إليك.

بارك الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

يقول الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، قال الحسن في تفسير هذه الآية: "الحياة الطيبة القناعة".

فاقنعْ بما آتاك الله يا عبدالله، وارضَ بما قسم الله لك، يؤتيك اللهُ حياةً هنيئةً، وسعادةً مديدةً، وراحةً أكيدةً.

ارضَ بجنسِك، ارضَ بلونك، ارضَ بمستوى ذكائك، ارضَ بأهلك، ارضَ ببيتك، ارضَ بمركبك، ارضَ باختيار الله لك، فهو خير والله من اختيارك لنفسك.

وليس معنى الرضا أن يقفَ الإنسانُ فلا يطلب الرفعةَ والزيادةَ في أمور الدنيا، فالسعيُ والبذلُ والأخذُ بالأسباب أمورٌ محمودةٌ ولا تتعارضُ مع القناعة، فخذ من أسباب الرفعة الدنيوية المباحة ما شئتَ، ولكن بعدَ ذلك وقبله ارضَ بقسمةِ الله سواءً أعطاكَ أو منعك.

عباد الله

قال الحسن في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ): "هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى نِعَمَ رَبِّهِ". فمن الناسِ من يعطيه اللهُ الألوفَ المؤلفةَ من النعم، ثم إذا ابتُليَ بِبَليّةٍ أو بَلِيَّتَين أو حُرمَ من نعمةٍ أو نعمتين، رأى نفسَه أنه هو المسكينُ المحرومُ، فيجحدَ فضلَ ربه، وينسى نعمَ مولاه التي لا تعدُّ ولا تُحصى.

والمؤمنُ يستحضرُ دائما نعمَ الله المتكاثرة، فلا تنسيه البلايا والحرمانُ النعمَ، بل يرى في ذاتِ البلايا نعماً من الله كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ما ابتُليت ببلاء إلا وجدت لله عليّ فيه أربع نعم: أنه لم يكن في ديني، وأنه لم يكن أكبر منه، وأنني لم أُحرم الرضا به، وأنني أرجو ثواب الله عليه".

والله! إن من يشعرُ بهذا الشعور، سيملأُ قلبَه بالغنى، وسيعمرُ صدرَه بالسكينةِ والطُّمأنينة. فهو سعيدٌ في حالِ السراء وحالِ الضراء، وحالِ النعماء وحالِ البلواء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له).

فاللهم ارزقنا الحياة الطيبة بالقناعة والرضا بما قسمت لنا، واجعلنا من الشاكرين لنعمك، المثنين بها عليك.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى..

 

المرفقات

1696330382_أغنى الناس.docx

1696330382_أغنى الناس.pdf

المشاهدات 1629 | التعليقات 0