أعورُ .. ولكن باختياره!
د. سلطان بن حباب الجعيد
أعور .. ولكن باختياره!
الحمدُ للهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، الذي أنزلَ الكتابَ والميزانَ؛ لِيَقُومَ الناسُ بالقِسْطِ.
وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، الذي أمره ربُّه بالإحسانِ والعَدْلِ، فقامَ به خيرَ قيامٍ، ولم يُخالِفْ ذلك قَطُّ.
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عددَ من أحبَّه واتَّبعَ طريقَه، وعددَ من خالفَه وتنكَّبَ صراطَهُ واشْتَطَّ.
أمَّا بعدُ:
عبادَ اللهِ، كونوا منَ المُتَّقينَ حتى تكونوا منَ النَّاجينَ، في يومٍ شَرُّهُ مُسْتَطِيرٌ، وعذابُهُ مُحيطٌ بالكافرينَ:
﴿وَإِنْ مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: ٧١-٧٢].
أخي - رحمَني اللهُ وإيَّاكَ -
اعلَمْ أنَّكَ مُحاطٌ بِشَبَكةٍ منَ العلاقاتِ كبيرةِ، وكلُّ علاقةٍ من هذهِ العلاقاتِ تُشَكِّلُ عَقْدًا - ولو لم يكن مكتوبًا - أنت مُلزَمٌ بتأديتِهِ والوفاءِ به، والوفاءُ بالعُقُودِ من شِيَمِ المؤمنينَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: ١].
فالصَّدَاقَةُ عقدٌ…
والأُخُوَّةُ عقدٌ…
والزَّوَاجُ عقدٌ، وهو أغلظُها…
والجِوَارُ عقدٌ…
والقَرَابَةُ عقدٌ…
وأُخُوَّةُ الدِّينِ والإِسْلَامِ عقدٌ…
وما معنى أن نصفَ هذهِ العلاقاتِ بأنَّها عقودٌ؟
معناهُ أنَّكَ لستَ وحدَك، فهناكَ طَرَفٌ آخرُ، تُبَادِلُهُ الحقوقَ والشروطَ والواجباتِ، فكما لكَ فَكَذَلِكَ عليكَ، تمامًا كَشَأْنِ عُقُودِ البَيْعِ والشِّرَاءِ والإِيجَارَةِ والعَمَلِ وخِلافِهِ.
وإذا كانتِ الحقوقُ التي يَنُصُّ الناسُ عليها في عُقُودِهِم هذهِ تكتسبُ أهميةً بالغةً، ويَلْزَمُ تنفيذُها، ويُحاسِبُ الناسُ بعضُهم بعضًا عليها، فما بالكَ بحقوقٍ وواجباتٍ تولَّى اللهُ سبحانَهُ وتعالى فَرْضَها على الناسِ ونَصَّ عليها؟!
يُفترض أنْ يجعلَنا ذلكَ في منزلةٍ عظيمةٍ ورَفيعةٍ، وأنْ نُحِيطَها بالاهتمامِ والعنايةِ والرِّعَايةِ، فهو سبحانهُ مَن سيتولَّى سُؤالَنا عنها كما تَوَلَّى فَرْضَها.
فكلُّ مسلمٍ قد قَرَّرَ الإسلامُ حقوقَهُ على الآخرينَ، إنْ كانَ زَوْجًا، أو أبًا، أو أخًا، أو جارًا، أو صديقًا، أو قريبًا، وكذلكَ رَتَّبَ عليهِ حقوقًا لهم.
إنَّ رِعَايَةَ هذهِ الحقوقِ وتأديَتَها لأصحابِها، من أكبرِ أسبابِ الاستقرارِ الاجتماعيِّ.
والعَبَثُ بها يُؤَدِّي إلى سِلْسِلَةٍ منَ المشاكِلِ والأزماتِ الاجتماعيةِ.
ومن أكبرِ صورِ العبَثِ والإِخْلَالِ بهذهِ الحقوقِ: أنْ يرى الواحدُ مِنَّا الحَقَّ الذي له، فيُلِحُّ في طَلَبِهِ، ويَلُومُ ويُعَاتِبُ ويُعَاقِبُ عليه، وهو في ذاتِ الوقتِ يَعْمَى عن الحَقِّ الذي عليه، ويتكاسلُ في أدائِهِ، ولا يَقْبَلُ لَومًا ولا عَتْبًا، فهو المحِقُّ دائمًا، وهو المَظْلُومُ دائمًا، وغيرُهُ هو الخَطَّاءُ والظَّلُومُ دائمًا!
النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، والذي أُوتِيَ جوامعَ الكَلِمِ، ضَبَطَ عمليةَ تَعَاطِي الحقوقِ وتَدَاوُلِها، وحَذَّرَ منْ هذا السُّلوكِ الذي أَشَرْنَا إليهِ بكلمةٍ واحدةٍ.
ففي الحديثِ المُتَّفَقِ عليهِ، عندَ البُخاريِّ ومُسْلِمٍ، والذي يَرْوِيهِ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ:
«إنَّ اللهَ تعالى حرَّمَ عليكم عقوقَ الأُمَّهَاتِ، ومَنْعًا وَهَات، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وكَرِهَ لكم قِيلَ وَقَال، وكَثْرَةَ السُّؤَال، وإِضَاعَةَ المَالِ».
والشاهدُ هو قولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «إنَّ اللهَ حرَّمَ عليكم مَنْعًا وَهَات»، أي أنَّ اللهَ يُحَرِّمُ علينا مَنْعَ الحَقِّ الذي علينا، وهو الذي أشارَ إليهِ بقولهِ «مَنْعًا»، ثمَّ بعدَ ذلكَ نُطَالِبُ بالذي لنا، أو ربَّما طالَبْنَا بما ليسَ لنا، وهو الذي أشارَ إليهِ بقولهِ «هَات».
إنَّ مُخالفتَنا لهذا الضابطِ الدقيقِ، في تَدَاوُلِ الحقوقِ وتعاطيها، أفرَزَتْ سِلْسِلَةً منَ المشاكِلِ الاجتماعيةِ، لا حَصْرَ لها ولا عَدَد.
ونحنُ نلمسُ ذلكَ في كُلِّ عقدٍ اجتماعيٍّ، على مستوى الأفرادِ، أو الجماعاتِ.
فالجميعُ يَشْتَكِي من الجميعِ، فالأزواجُ يَشْتَكُونَ، والزوجاتُ يَشْتَكِينَ، والصَّاحِبُ يَشْتَكِي، والقَرِيبُ يَشْتَكِي، والأَخُ يَشْتَكِي، والجَارُ يَشْتَكِي، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي، من هو الظَّالِمُ، ومن هو المَظْلُومُ؟!
ولكنْ يا تُرَى، مِمَّ يَشْتَكُونَ؟!
إنَّهُم يَشْتَكُونَ من ذاتِ الأشياءِ التي يُمَارِسُونَها على الآخرينَ، ولكنْ دونَ شُعُورٍ منهم!
فالجميعُ – إلا مَن رحم الله – له عينان؛ عينٌ مبصرةٌ، وهي التي يرى بها حقَّه، وعينٌ عمياءُ، وهي التي يرى بها حقَّ الآخرين عليه، وهذا هو العَوَر، والعَوَرُ قبيحٌ، ولكنَّ الغريبَ أنَّه عَوَرٌ فَعَلْناه بمحض إرادتنا واختيارنا.
والجميعُ له يدان؛ يدٌ طويلةٌ، وهي التي يأخذُ بها، ويدٌ قصيرةٌ، وهي التي يُعطي بها.
فيا أخي الكريم…
إن كنتَ زوجًا، فقبلَ أن تشتكيَ من إهمالِ زوجتكَ وغيابِ عاطفتها، فَتِّشْ في نفسِكَ، فلعلكَ تمارسُ نفسَ الدورِ؟!
وإن كنتَ أبًا، فقبلَ أن تشتكيَ من عقوقِ أولادكَ، دعْنا نَهْمِسُ في أُذُنِكَ: أين حنانُكَ وعطفُكَ وتربيتُكَ؟!
وإن كنتَ صديقًا، فقبلَ أن تشتكيَ من تغيُّرِ الأصدقاءِ وكثرةِ أخطائِهم، راجِعْ نفسَكَ، فلعلَّ ذلك رَدَّةُ فِعْلٍ منهم لما يجدونَه منك!
وإن كنتَ قريبًا، فقبلَ أن تشتكيَ من قطيعتِهم، بادرْ أنتَ بزيارتهم، فلعلَّ آخرَ زيارةٍ كانت من قِبَلِهم!
وإن كنتَ جارًا، فقبلَ أن تشتكيَ من أذيَّةِ جارِكَ، اسألْ نفسَكَ: أين خوفُكَ وحرصُكَ عليه، وحفظُكَ له في مالِهِ وولدِهِ وعِرْضِهِ؟!
وإن كنتَ مسؤولًا، فقبلَ أن تشتكيَ إهمالَ مَن هم تحتَ ولايتِكَ وقِلَّةَ إنتاجِهم، فاسمحْ لنا أن نسألَكَ: أين التشجيعُ والحوافزُ التي تَحْدُوهم على النجاحِ والإنجاز؟!
إن سَرَيانَ هذا السلوكِ دونَ محاسبةٍ أو مراجعةٍ يَعْكِسُ نفوسًا نَزِقَةً، وذواتٍ متضخمةً، ونرجسيةً مقيتةً، وبُعْدًا عن العدلِ والإنصافِ الذي أمرَنا اللهُ به ولو على أنفسِنا:
﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُو۟لَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ [المطففين: 1-6].
اللهم بَصِّرْنَا بعيوبِنا، وقِنا شُحَّ أنفسِنا، واغفرْ لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلًّا للذين آمنوا، ربَّنا إنك غفورٌ رحيمٌ.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها الكِرام، نحنُ مُحتاجونَ دائمًا إلى اتِّهامِ أنفسِنا، وتوجيهِ اللَّومِ لها، وأن نَتَفَقَّدَ عيوبَنا قبلَ أن نَتَفَقَّدَ عيوبَ الناس، وأن نُشيرَ بأصابعِ الاتهام – هذه الأصابعُ التي طالما أَشَرْنا بها إلى الناس – أن نُحَرِّفَها ولو لمرةٍ إلى صدورِنا، ونعودَ بالاتهامِ على أنفسِنا، فليس من المعقولِ أنَّنا دائمًا على حقٍّ!
وما أجملَ خُلُقَ الاعترافِ والاعتذار! فإنَّ ذلك من أخلاقِ الكبارِ، ومن شِيَمِ الكِرام.
وإليكَ هذا النموذجَ، لكبيرَيْنِ وكريمَيْنِ، يَضرِبانِ فيه أروعَ الأمثلةِ لسرعةِ النَّدمِ على الخطأ، والاعترافِ به، والاعتذارِ مما بدرَ منهما:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
((كنتُ جالسًا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ أقبلَ أبو بكرٍ، آخذًا بطَرَفِ ثوبِه، حتى أبدى عن رُكْبَتِه، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “أما صاحبُكم فقد غَامَرَ”، فسلَّمَ، وقال: “إنِّي كان بيني وبينَ ابنِ الخطَّابِ شيءٌ، فأسرعتُ إليه، ثم نَدِمْتُ، فسألتُه أن يَغْفِرَ لي، فأبَى عليَّ، فأقبلتُ إليكَ”. فقال صلى الله عليه وسلم: “يغفرُ اللهُ لكَ يا أبا بكرٍ”، ثلاثًا. ثم إنَّ عمرَ نَدِمَ، فأتى منزلَ أبي بكرٍ، فسألَ: أَثَمَّ أبو بكرٍ؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسلَّم، فجعلَ وجهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّرُ، حتى أشفقَ أبو بكرٍ، فجَثَا على رُكْبَتَيْهِ، فقال: “يا رسولَ الله، واللهِ أنا كنتُ أظلمُ”، مَرَّتين. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ بعثَني إليكم، فقلتم: كَذَبْتَ، وقال أبو بكرٍ: صَدَقَ. وواساني بنفسِهِ ومالِهِ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟”، مَرَّتين. فما أُوذِيَ بعدَها)). [أخرجه البخاري].
أحبتي الكِرام…
نحتاجُ في أحيانٍ كثيرةٍ إلى تَرْكِ الامتزاجِ التامِّ مع أنفسِنا، وعلينا أن نتعاملَ معها كشيءٍ مختلفٍ عنَّا:
نَخافُها، ونَحذَرُها، ونَستنكِفُ من الانقيادِ لها، نَتَفَحَّصُ نُصْحَها، ونُسِيءُ الظَّنَّ بها، نُوَجِّهُ الاتهامَ لها.
تمامًا كما نفعلُ مع الأشخاصِ مِن حولِنا، وإلَّا ستوردُنا المهالِكَ:
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [يوسف: 53].
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزَكِّها، أنتَ خيرُ مَن زَكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين…
عبادَ الله…
صلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم الكريم، كما أمرَكم اللهُ بذلك في كتابِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
المشاهدات 1094 | التعليقات 2
اللهم آمين وإياك
منصور بن هادي
عضو نشطجزاك الله خير الجزاء
وجعلها الله في ميزان حسناتك
تعديل التعليق