أعمال تطيل الأعمار
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الَّذِي خَلَقَ الإنسان وهداه السبيل ابتلاءً وتمحيصا للشاكر من الكفور، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، أحمده -سبحانه وتعالى- وأشكره وأستعينه وأستغفره وهو الغفور الشكور، وأصلي وأسلم على محمدٍ النبيِّ الرسولِ والعبدِ الشكور، أَقْسَمَ اللهُ بِعُمُرِه تشريفًا له فقال {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ صَلَاةً وسلامًا يتَّصل تَكْرَارُهَا بالرَّوَاحِ والبُكُور. أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى الذي منَّ عليكم فخلقكم وبَرَاكُم، وللإسلام هداكم، وزاد وبارك في أعماركم، حَتَّى تَبْلُغُوا من الْعُمُرِ غَايَة آجالَكم، فارحموا أَنفسكُم من مُتَابعَة هَواهَا، ومساعدتها على نيل مُشْتَهَاهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
عباد الله.. إن الله تبارك وتعالى أثبت زيادة الأعمار ونَقصها، فقال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}. وأخبر اللهُ سبحانه وتعالى أنه يَمحو ما يشاء ويُثبت ما يشاء، فقال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. والزيادةُ والنقص في العمر إنما تكون بما في أيدي الملائكة من الصُّحُف التي كَتَبت، فهذا الذي يحصل فيه المحو والإثبات.
أما ما قُدِّر في اللوح المحفوظ فلا يُغيّر ولا يُبدّل ولا يُمحى منه شيء. فقضى الله سبحانه زيادةَ عُمِرِ الإنسان أو نقصانه إن هو عمل كذا وكذا، مما أخفاه عن الملائكة، وهو سبحانه قد كتب قبل خلق الخلائق مقاديرَ كلِّ شيءٍ في اللوح المحفوظ، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
عباد الله.. النفسُ بطبعها تريد البَّقَاءَ وطولَ الأَمَد، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: "وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" فبين النبي ﷺ أن المؤمن يكره الموت، فرغبةُ البقاء في الحياة الدنيا ليست مَنقصة ولكنها جِبِلَّةٌ جعلها الله في الآدميين جميعا، والمرء إذا طال عمره وكثر عمله فإنها علامةُ خيرية. ففي السنن أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ فقَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
وقد ورد في النصوص الشرعية ذكرُ أعمال تُطيل الأعمار:
فأولها: تقوى الله تعالى وطاعته، فالمرء إذا اتقى الله، فيعمل العمل وهو مراقبٌ لله جل وعلا، خائفٌ من عذابه، راجٍ ثوابَه، قال نوحٌ عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: يَمُدُّ فِي أَعْمَارِكُمْ، كما جاء عن ابن عباس، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ«.
ومن الأسباب أيضا لطول العمر: بر الوالدين، وقد ورد عن النبي ﷺ أكثر من خمسةَ عشر حديثاً تدل على أن بر الوالدين سببٌ لطول العمر والمدِّ فيه، كما الحديث المتقدم، وكما في حديث ثوبان أن النبي ﷺ قال: «لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ». ومعنى الحديث: التأكيد على أنَّ بِرَّ الوالدين أعظمُ سببٍ لِطُولِ العُمُر.
إنَّ المرءَ إذا أمضى وقته في مؤانستهما أو قضاء حوائجهما، بِرًّا بهما وإحسانًا إليهما، فإنَّ اللهَ يُخْلِفُ عليه وقتَه أضعافًا مضاعفة. فلا يَسْتَثقلُّ ولا يَستكثرُ المؤمنُ وقتًا يَقضيه مع والديه.
عباد الله.. ومما يطيل الأعمار: صلةُ الأرحام، فَيَصِلُ المرءُ رَحِمَه ويُحْسِنُ إليهم، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، وفي روايةِ الطبراني: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَطُولَ أَيَّامُ حَيَاتِهِ وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».
ومن ذلك: حسن الأخلاق، فقد ثبت عن النبي ﷺ قوله: «صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ». فإذا حسُن خُلُقُ المرءِ مع عموم الخلق وخاصة رَحِمَه وجارَه فإنَّ ذلك سببٌ لطول عمره.
ومن الأسباب أيضاً: طلب العلم، وخصوصاً القرآن والسنة، فعن ابن عباس وغيره: " مَن قرأَ القرآن لم يُردَّ إلى أرذلِ العُمُرِ لكيلا يعلمَ من بعدِ علمٍ شيئًا"، مَعْنَاهُ: أَنه لَا يذهب عقله وَلَا يخرف، وقد جاء في الآثار عن السلف: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَخْرَفْ" "كان يقال: إن أبقى الناس عقولا قراء القرآن"، فمن حوى القران في قلبه حفظا وفهما واستنباطا وعملا قبل ذلك فان الله يحفظه من الخرف ويمد في عمره لينقل هذا العلم لمن بعده.
وفي طالبِ علمِ الحديثِ يقول النبي ﷺ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» ولذلك ذكر الحافظ ابن الصلاح عن الأَوْدني أنه قال: سَمِعت شُيُوخنَا يَقُولُونَ: دَلِيل طول عمر الرجل اشْتِغَاله بِأَحَادِيث الرَّسُول ﷺ. والناظر في السِّيَر والتَّراجِم إذا تتبع أعمار أهل الحديث يجدها في غاية الطول.
عباد الله.. ومما يطيل الأعمار: الصدقة وقد رُوي «إِنَّ الصَّدَقَة وَصِلَةَ الرَّحِمِ يزِيدُ اللَّهُ بِهَا فِي الْعُمُرِ، وَيَدْفَعُ بِهَا مِيتَةَ السُّوءِ، وَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا المكْرُوهَ وَالمحْذُورَ».
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعنا جميعا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول هذَا القول، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا به وتوحيدا. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما مزيدا. أما بعد: فإنَّ توقيرَ ذي الشيبة واحترامَه سببٌ بأمر الله في مَدِّ العُمُر، وقد جاء عند الترمذي أن النبي ﷺ قال: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ» قال الغزالي: وهذه بشارة [بطول] الحياة، فلا يُوَفَّق لِتَوقِيرِ المشايخِ إلا من قضى اللهُ له بطول العمر.
عباد الله.. ومما يطيل الأعمار: الدعاء، فإن المرء إذا دعا الله -عز وجل- فإن الله تعالى يجيب دعاءه، ولذلك يقول النبي ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ». والمراد بالقدر هنا كما تقدم: أي: القدر المكتوب في صحف الملائكة الذي يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت. وقد دعا النبي ﷺ لأنس بن مالك بأن يطيل الله في عمره. فقال: اللَّهمَّ أَكْثِر مالَهُ وولدَهُ وأطِل عمرَهُ واغفر ذنبَهُ. فكان من آخر الصحابة وفاةً.وإذا دعا المرء لغيره بطول العمر نحو أطال الله بقاءك وعمرك.
فالأفضل أن يُقيَّد بالطاعة فيقال: أطال الله عمرك على الطاعة والعافية.
وإنَّ المرءَ إذا كان سليمَ القلبِ لإخوانه فإنَّ هذا سببٌ بتوفيق الله لإثابته في الدنيا والآخرة، ولعل مما يثاب عليه في الدنيا أن يمد الله في عمره ويعافى في بدنه، فإن الحُسَّاد يأكل الحسد في أكبادهم ويُوهِنُ أجسادهم.
وبعدُ عباد الله. فليس الحديث في هذا للإغراق في التفكر في طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، فذلك يُضَيِّعُ الْعُمْرَ، وَيُسَوِّفُ فِي الْعَمَلِ. وإنما كما سمعتم هي أعمال طاعة، وتلك خيرُ بضاعة، ومُبعدةٌ عن الإضاعة، وهي من معِين الكتاب والسنة، فتمسكوا بهما وعَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، وعليكم بالجماعة، وإياكم والفُرقة، فإن يد الله على الجماعة ومَن شذَّ شذَّ في النار.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا بالصلاة والسلام على نبيه الكريم فقال جل وعلا قولاً كريماً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فأكثروا من الصلاة والسلام عليه يعظم الله لكم بها أجرًا، فقد قال ﷺ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا».
· الخطبة مستفادة من محاضرة للشيخ د. عبدالسلام الشويعر-جزاه الله خيرا- بتصرف
المرفقات
1702559534_أعمال تُطيل الأعمار.docx
1702559535_أعمال تُطيل الأعمار.pdf