أعمال تجري
عنان عنان
1436/05/07 - 2015/02/26 14:33PM
" الخُطبة الأولى "
عبادَ اللهِ، إنَّ الدنيا قصيرةٌ، والأعمارَ قليلةٌ، وخيرُ النَّاسِ من طالَ عُمره وحُسنَ عملُه، لقولِ النبي-صلى الله عليه وسلم-: " خيرُكم من طالَ عُمْرُه وحَسُنَ عملُه، وشرُكم من طالَ عُمْرُه وأساءَ عملُه " واللهُ-عزَّ وجلَّ-جوادٌ كريمٌ-يُعطي العبادَ أجوراً عظيمةً، وما ذلك إلا ليُدخلَهم جنةً عرضُها السمواتُ والأرضُ، اللهُ-عزَّ وجلَّ-يريدُ أن تدخلَ الجنَّةَ، كما قالَ سبحانه: " والله يريدُ أن يتوبَ عليكم، وأهلُ الشهواتِ يريدون أن تدخلَ النَّارَ، كما قالَ سبحانه: " ويُريدُ الذينَ يتبعون الشهواتِ أن تميلوا ميلاً عظيماً " بل من رحمتِهِ وعفوِهِ وغفرانِهِ، إنَّه إذا أذنبَ العبدُ ذنباً يرفعُ ملكُ الشمالِ الذي يكتُبُ سيئاتِك يرفعُ القلمَ ستَّ ساعاتٍ فإذا رجع العبدُ واستغفرَ وتابَ محاها عنهُ ولمْ يكتبْها عليهِ، فأحسنوا الظنَّ بهِ سبحانه فهو عندَ حُسنِ ظنِّ عبدهِ بهِ، قيلَ لإعرابيٍ: إشتدَّ فرحُه إنك ستموتُ، قالَ: وإلى أينَ يُذهبُ بي بعدَ الموتِ؟ قالوا: إلى اللهِ، قالَ: ويحكم فكيفَ أخافُ الذهَابَ إلى من لا أرى الخيرَ إلا من عنده ".
عبادَ اللهِ، من عِظمِ نعمةِ اللهِ وفضله ومنِّهِ على العبادِ، أن فتحَ لهم أعمالاً إذا عملوها جرتْ عليهم حسانتُهم بعد موتِهم، فأهلُ القبورِ إنقطعوا عن الدنيا، وهم مرتهنونَ في أعمالِهم، وسيجزونَ بها، إن كانت خيراً فخيرٌ، وإن كانت شراً فشرٌ،
والعاقلُ الذي يكونُ في دارِ الدنيا ويعملُ أعمالاً تجري بعدَ موتِه إلى يومِ القيامةِ،
عن أنسِ بنِ مالكٍ-رضي الله عنه-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " سبعٌ يجري للعبدِ أجرُهنَّ وهو في قبرِهِ بعدَ موتِهِ، علماً علَّمَهُ، أو أجرى نهراً، أو حفرَ بئراً، أو غرسَ نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّثَ مُصحفاً، أو تركَ ولداً يستغفرُ له بعدَ موتِهِ " [رواه البزَّار وحسنه الشيخُ الألباني-رحمه الله-].
تأملْ يا عبدَ اللهِ هذه الأعمالَ، واحرصْ أنْ يكونَ لكَ نصيبٌ منها، فأنتَ اليومَ في دارِ عملٍ وغداً ستكونُ في دارِ حِسابٍ بلا عملٍ.
عبادَ اللهِ، أولاً تعلُّمُ العلمِ، وهو العلمُ النافعُ الذي يُخرجُ النَّاسَ من الظُلماتِ إلى النُّورِ، فالعلماءُ هم ورثةُ الأنبياءِ، والأنبياءُ أخرجوا النَّاسَ من الظُلماتِ إلى النُّورِ، وكذلك العلماءُ فهم يُخرجونَ النَّاسَ من الظلماتِ إلى النُّورِ، العلمُ الذي يُعرَفُ به الحقُّ من الباطلِ، والهُدى من الضلالِ، والحلالُ من الحرامِ، وأفضلُ النفقةِ النفقةُ على طلابِ العلمِ الشرعيِّ، والذي ينفقُ على طلابِ العلمِ الشرعيِّ، فإنَّ الله يُكثِّرُ له مالَه ويُنمِّيه، عن أنسِ بنِ مالكٍ-رضي الله عنه-قالَ: كانَ أخوانِ على عهدِ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-فكانَ أحدُهما يأتي النبيَّ-صلى الله عليه وسلم--أي يتعلمُ العلم- والأخرُ يحترِفُ، فشكا المُحترفُ أخاهُ إلى النبيِّ-صلى الله عليه وسلم--أي شكا الذي يعمل لِطلِبِ المعيشةِ أخاه لرسولِ اللهِ لعدمِ مُساعدتِه إياه-فقالَ له رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:" لعلَّكَ تُرزقُ بهِ " [رواه الترمذي وصححه الشيخُ الألباني-رحمه الله-]. وهنيئاً لِكلِّ إنسانٍ يُعلِّمُ النَّاسَ ويعملونَ بهِ ولو أيةً أوْ حديثاً واحداً، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السمواتِ والأرضِ حتى النملةُ في جحرها وحتى الحوتُ، ليُصلونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرِ " [رواه الترمذي وصححه الشيخُ الألباني-رحمه الله-].
ثانيا: أو نهراً جراهُ، والمرادُ شقُّ جداولِ المياهِ من العيونِ والأنهارِ لكي تصلَ المياهُ إلى أماكنِ الناسِ ومزارعِهم، فيرتوي الناسُ، وتُروى مزارعُهم، وتَشربُ الماشيةُ، ويدخلُ في هذا مدُّ المياهِ عبرَ الأنابيبِ لكي تصلَ إلى الناسِ، ويدخلُ في هذا من وضعَ ثلاجةَ ماءٍ في مسجدٍ أو في أي مكانٍ مُباحٍ ليشربَ الناسُ، وقدْ قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " أفضلُ الصدقةِ سقيُ الماءِ " [حسنه الشيخ الألباني-رحمه الله-] فياله من عملٍ نبيلٍ!.
ثالثا: أو حفرَ بئراً، جاءَ في السُنةِ، أنَّ النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-قالَ: " بينما رجلٌ في طريقٍ فاشتدَّ عليهِ العطشُ، فوجدَ بئراً فنزَلَ فيها فشرِبَ، ثُمَّ خرجَ فإذا كلبٌ يلهثُ يأكلُ الثرى من العطشِ، فقالَ الرجلُ: لقدْ بلغَ هذا الكلبُ مثلَ ما بلغَ مني، فنزلَ البئرَ فملأ خُفَّهُ ماءً فسقى الكلبَ فشكرَ اللهُ لهُ فغفرَ له، قالوا يا رسولَ اللهِ وإنَّ لنا في البهائمِ أجراً؟ قالَ في كُلِّ ذاتِ كبِدٍ رطْبةٍ أجرٌ " [متفقٌ عليه]. فكيفَ بمن حفرَ بئراً وكان سبباً في وجودِه؟ حتى ارتوى منه خلقٌ وانتفعَ به كثيرونَ.
رابعاً: أو غرسَ نخلاً، فكلُّ إنسانٍ زرعَ شجرةً وأكلَ منها إنسانٌ أو حيوانٌ أو طيرٌ كانَ له من الأجرِ والحسناتِ في حياتِه وبعدَ موتِهِ ما لا يعلمه الا اللهُ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " ما من مُسلمٍ يغرسُ غرساً، أو يزرعُ زرعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، الا كان له به صدقةٌ " [متفقٌ عليهِ].
خامساً: أو بنى مسجداً، فالمساجدُ هي أحبُّ البقاعِ إلى اللهِ، فكلُّ إنسانٍ يأتي إلى هذا المسجدِ فيصلي فيه فيدخلُ أجرُهُ في ميزانِ حسناتِ الذي بنى المسجدَ لا ينقصُ من أجرِ المصلي شيئاً، وكلُّ خطيبٍ خطبَ به يدخلُ أجرُه في ميزانِ حسناتِ الذي بنى المسجدَ لا ينقصُ من أجرِ الخطيبِ شيئاً، وكلُّ أحدٍ القى به كلمةَ خيرٍ أو علم به علماً يدخلُ الأجرُ في ميزانِ حسناتِ الذي بنى المسجدَ، من غيرِ أن ينقصَ من أجورِهم شيئاً، وهناكَ هدايا ومنحٌ كثيرةٌ للذين يبنونَ المساجدَ أو يُساهمون في بناءِ مسجدٍ ولو ساهم في طوبةٍ واحدةٍ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-: " من بنى للهِ مسجداً ولو كمفحصِ قَطاةٍ-أي كعش العُصفورِ-بنى اللهُ له بيتاً في الجنةِ " [متفقٌ عليهِ]. أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ " في بيوتٍ أذنَ اللهُ أن تُرفعَ ويُذكرَ فيها اسمُهُ يُسبحُ له فيها بالغدوِّ والأصالِ رجالٌ لا تليهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يخافونَ يوماً تتقلبُ فيهِ القلوبُ والأبصارُ ليجزيَهم اللهُ أحسنَ ما عملوا ويزيدَهم من فضلهِ والله يرزقُ من يشاءُ بغير حسابٍ ".
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كُلِّ ذنبٍ فأستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
" الخُطبةُ الثانيةُ "
الحمدللهُ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الخلقِ سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعينَ
أما بعد فاتقوا الله عبادَ اللهِ واعملوا بطاعتِه ورضاه
سادساً: أو ورَّثَ مصحفاً، ويكونُ ذلك بطباعةِ المصاحفِ أو شرائِها ووضعها في المساجدِ، فكلُّ أحدٍ قرأ بهِ أو عمل بهِ يدخلُ أجرهُ في ميزانِ حسناتِ الذي إشترى هذا المصحفَ لا ينقصُ من أجرِ القارئِ شيئاً.
سابعاً: أو تركَ ولداً يستغفرُ لهُ بعدَ موتِهِ، فعلى كُلِّ أبٍ أن يحرصَ على تربيةِ أولادِه وبناتِه، ويحرصَ على صلاحِهم، حتى يكونوا أبناءً بررةً، يدعون لأبويهم بالخيرِ ويسالونَ لهما الرحمةَ والمغفرةَ، واعلمْ رعاكَ اللهُ أنَّ العبدَ يرتفعُ بمنازلِ الجنةِ بإستغفارِ ولدِهِ لهُ، عن أبي هُريرةَ-رضي الله عنه-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ الرجلَ لتُرفعَ درجتُه في الجنَّةِ، فيقولُ: أنَّى لي هذا؟ فيقولُ: بإستغفارِ ولدِكَ لكَ " [رواه مُسلم].
وعلى الأبِ أن يحرصَ على تربيةِ بناتِهِ، وعلى إختيارِ الزوجِ الصالحِ لهنَّ، وفي هذا الزمنِ كثيرٌ من النساءِ يشكونَ الظلمَ من أزواجهنَّ وعدمِ صلاحِه وتضيعهِ لأولادِهِ، جاءَ رجلٌ إلى الحسنِ البصريِّ-رحمه الله- فقالَ له: يا أبا سعيدٍ إنَّ لي إبنةً وكثُرَ خُطابُها فلمن أُزوجُها؟ قالَ: زوجها لمن يتقِ اللهَ، فإن أحبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمْها ". وفي هذا الزمنِ للأسف لا يزوجونَ إلا من كان غنياً وثرياً وإن كانَ فاجراً فهذه الفتنةُ والفسادُ الكبيرُ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إذا جاءكم من ترضون خُلُقَهُ ودينَهُ فزوجوهُ، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ " [متفقٌ عليهِ]. وقدْ تقدَّمَ شابٌ صالحٌ فقيرٌ لِخِطبةِ فتاةٍ فرفضوهُ، ثُمَّ تقدَّمَ لها شابٌ فاجرٌ غنيٌّ فقبلوهُ، وقالوا: سوفَ يهديهُ اللهُ، أقولُ: أوليسَ الهاديُ هو الرزاقُ؟.
عبادَ اللهِ، ومنَ الأعمالِ التي تجري للعبدِ بعدَ موتِهِ، البيتُ لأبنِ السبيلِ وهو المسافرُ الذي انقطعَ عن بلدهِ ولمْ يجدْ نفقةً ينفقُها على نفسِهِ، عن أبي هُريرةَ-رضي الله عنه-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ مما يلحقُ المؤمنُ من عملِه وحسناتِه بعدَ موتِهِ، علماً علَّمه ونشرهُ، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناهُ، أو بيتاً لإبنِ السبيلِ بناهُ، أو نهراً أجراهُ، أو صدقةٍ أخرجها من مالِهِ في صحته وحياتِهِ تَلحقَهُ من بعدِ موتِهِ " [رواه ابنُ ماجه وحسنه الشيخُ الألباني-رحمه الله-]. ويدخلُ في خِصلةِ بيتِ السبيلِ، كلُّ من بنى بيتاً للفقراءِ والمساكينِ والأيتامِ فهذا من الحسناتِ الجاريةِ.
ومن الأعمالِ التي تجري للعبدِ بعدَ موتِهِ، من ماتَ مُرابطاً في سبيلِ اللهِ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " رباطٌ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامِهِ، وإن ماتَ جرى عليهِ عملُه الذي كانَ يعملُه وأُجريَ عليه رزقُهُ، وأمنَ الفتَّانَ " [رواه مسلم]. أي ينمو له عمله إلى يومِ القيامةِ ويأمنُ من فتنةِ القبرِ، فلا إله إلا اللهُ، إذا كانَ حالُ الذين يحرسونَ على ثُغورِ المسلمينَ فكيفَ بالمقاتلينَ؟ اللهمَّ لا تحرمنا خيرَ ما عندك بأسوءِ ما عندنا.
عبادَ اللهِ، كما تعلمونَ كلما اشتدت الفتنُ كلما اشتدَّ غضبُ اللهِ على العبادِ، فينبغي على المسلمينَ أن يُكثروا من الصدقةِ، لأنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-قالَ: " إنَّ الصدقةَ لتطفئَ غضبَ الربِّ كما يُطفئُ الماءُ النارَ " ولا تحقرنَّ من الصدقةِ شيئاً فقد تصدقَ أصحابُ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: بعنقودِ عنبٍ وكانوا يقولون: فيه موزاينُ عندَ اللهِ ثقيلةٌ، ويكفيك حديثُ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " اتقوا النَّارَ ولو بشقِّ تمرةٍ "
قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " ما من يومٍ يُصبحُ فيهِ العبادُ الا وملكانِ ينزلانِ، يقولُ أحدُهما اللهمَّ أعطِ منفقاً خلَفَاً ويقولُ الأخرُ: اللهمَّ أعطٍ ممسكاً تلَفَاً ". فأنفقوا عبادَ اللهِ يُنفقُ اللهُ عليكم وأحسنوا يُحسنُ اللهُ إليكم.
عبادَ اللهِ، كيفَ يصلُ للميتِ حسناتٌ وهو إنقطعَ عن دارِ العملِ؟ وقد يكونُ يُعذَّبُ في قبرهِ فتأتي هذه الحسناتُ وتُحميه من عذابِ اللهِ، عن عبادةَ بنِ الصامتِ-رضي الله عنه-قالَ: قلتُ لرسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-إنَّ أمي أفتلت-يعني ماتت فجاةً- وأظنُّها لو تكلمت لتصدقت، فهل لي أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قالَ: نعم " فهذا جوابٌ من رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-يُبينُ فيهِ أنَّ الصدقةَ تنفعُ الميتَ وتؤثِّرُ عليهِ تأثيراً شديداً، فليحرصْ كلُّ واحدٍ منَّا بأن يعملَ أعمالاً صالحةً ويهديها لِكُلِّ من ماتَ من أقاربِهِ، لأبيهِ أو أميه أو أخيه أو أختهِ أو من تحبونهم في الله أو من أحبكم في الله أو من له فضلٌ عليكم فإنَّ هذا شيءٌ يسيرُ ومن حقِّ أخيكَ المسلمِ عليكَ، فأجتهدوا عبادَ اللهِ في ذلكَ.
وصلِّ اللهمَّ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عبادَ اللهِ، إنَّ الدنيا قصيرةٌ، والأعمارَ قليلةٌ، وخيرُ النَّاسِ من طالَ عُمره وحُسنَ عملُه، لقولِ النبي-صلى الله عليه وسلم-: " خيرُكم من طالَ عُمْرُه وحَسُنَ عملُه، وشرُكم من طالَ عُمْرُه وأساءَ عملُه " واللهُ-عزَّ وجلَّ-جوادٌ كريمٌ-يُعطي العبادَ أجوراً عظيمةً، وما ذلك إلا ليُدخلَهم جنةً عرضُها السمواتُ والأرضُ، اللهُ-عزَّ وجلَّ-يريدُ أن تدخلَ الجنَّةَ، كما قالَ سبحانه: " والله يريدُ أن يتوبَ عليكم، وأهلُ الشهواتِ يريدون أن تدخلَ النَّارَ، كما قالَ سبحانه: " ويُريدُ الذينَ يتبعون الشهواتِ أن تميلوا ميلاً عظيماً " بل من رحمتِهِ وعفوِهِ وغفرانِهِ، إنَّه إذا أذنبَ العبدُ ذنباً يرفعُ ملكُ الشمالِ الذي يكتُبُ سيئاتِك يرفعُ القلمَ ستَّ ساعاتٍ فإذا رجع العبدُ واستغفرَ وتابَ محاها عنهُ ولمْ يكتبْها عليهِ، فأحسنوا الظنَّ بهِ سبحانه فهو عندَ حُسنِ ظنِّ عبدهِ بهِ، قيلَ لإعرابيٍ: إشتدَّ فرحُه إنك ستموتُ، قالَ: وإلى أينَ يُذهبُ بي بعدَ الموتِ؟ قالوا: إلى اللهِ، قالَ: ويحكم فكيفَ أخافُ الذهَابَ إلى من لا أرى الخيرَ إلا من عنده ".
عبادَ اللهِ، من عِظمِ نعمةِ اللهِ وفضله ومنِّهِ على العبادِ، أن فتحَ لهم أعمالاً إذا عملوها جرتْ عليهم حسانتُهم بعد موتِهم، فأهلُ القبورِ إنقطعوا عن الدنيا، وهم مرتهنونَ في أعمالِهم، وسيجزونَ بها، إن كانت خيراً فخيرٌ، وإن كانت شراً فشرٌ،
والعاقلُ الذي يكونُ في دارِ الدنيا ويعملُ أعمالاً تجري بعدَ موتِه إلى يومِ القيامةِ،
عن أنسِ بنِ مالكٍ-رضي الله عنه-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " سبعٌ يجري للعبدِ أجرُهنَّ وهو في قبرِهِ بعدَ موتِهِ، علماً علَّمَهُ، أو أجرى نهراً، أو حفرَ بئراً، أو غرسَ نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّثَ مُصحفاً، أو تركَ ولداً يستغفرُ له بعدَ موتِهِ " [رواه البزَّار وحسنه الشيخُ الألباني-رحمه الله-].
تأملْ يا عبدَ اللهِ هذه الأعمالَ، واحرصْ أنْ يكونَ لكَ نصيبٌ منها، فأنتَ اليومَ في دارِ عملٍ وغداً ستكونُ في دارِ حِسابٍ بلا عملٍ.
عبادَ اللهِ، أولاً تعلُّمُ العلمِ، وهو العلمُ النافعُ الذي يُخرجُ النَّاسَ من الظُلماتِ إلى النُّورِ، فالعلماءُ هم ورثةُ الأنبياءِ، والأنبياءُ أخرجوا النَّاسَ من الظُلماتِ إلى النُّورِ، وكذلك العلماءُ فهم يُخرجونَ النَّاسَ من الظلماتِ إلى النُّورِ، العلمُ الذي يُعرَفُ به الحقُّ من الباطلِ، والهُدى من الضلالِ، والحلالُ من الحرامِ، وأفضلُ النفقةِ النفقةُ على طلابِ العلمِ الشرعيِّ، والذي ينفقُ على طلابِ العلمِ الشرعيِّ، فإنَّ الله يُكثِّرُ له مالَه ويُنمِّيه، عن أنسِ بنِ مالكٍ-رضي الله عنه-قالَ: كانَ أخوانِ على عهدِ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-فكانَ أحدُهما يأتي النبيَّ-صلى الله عليه وسلم--أي يتعلمُ العلم- والأخرُ يحترِفُ، فشكا المُحترفُ أخاهُ إلى النبيِّ-صلى الله عليه وسلم--أي شكا الذي يعمل لِطلِبِ المعيشةِ أخاه لرسولِ اللهِ لعدمِ مُساعدتِه إياه-فقالَ له رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:" لعلَّكَ تُرزقُ بهِ " [رواه الترمذي وصححه الشيخُ الألباني-رحمه الله-]. وهنيئاً لِكلِّ إنسانٍ يُعلِّمُ النَّاسَ ويعملونَ بهِ ولو أيةً أوْ حديثاً واحداً، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السمواتِ والأرضِ حتى النملةُ في جحرها وحتى الحوتُ، ليُصلونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرِ " [رواه الترمذي وصححه الشيخُ الألباني-رحمه الله-].
ثانيا: أو نهراً جراهُ، والمرادُ شقُّ جداولِ المياهِ من العيونِ والأنهارِ لكي تصلَ المياهُ إلى أماكنِ الناسِ ومزارعِهم، فيرتوي الناسُ، وتُروى مزارعُهم، وتَشربُ الماشيةُ، ويدخلُ في هذا مدُّ المياهِ عبرَ الأنابيبِ لكي تصلَ إلى الناسِ، ويدخلُ في هذا من وضعَ ثلاجةَ ماءٍ في مسجدٍ أو في أي مكانٍ مُباحٍ ليشربَ الناسُ، وقدْ قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " أفضلُ الصدقةِ سقيُ الماءِ " [حسنه الشيخ الألباني-رحمه الله-] فياله من عملٍ نبيلٍ!.
ثالثا: أو حفرَ بئراً، جاءَ في السُنةِ، أنَّ النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-قالَ: " بينما رجلٌ في طريقٍ فاشتدَّ عليهِ العطشُ، فوجدَ بئراً فنزَلَ فيها فشرِبَ، ثُمَّ خرجَ فإذا كلبٌ يلهثُ يأكلُ الثرى من العطشِ، فقالَ الرجلُ: لقدْ بلغَ هذا الكلبُ مثلَ ما بلغَ مني، فنزلَ البئرَ فملأ خُفَّهُ ماءً فسقى الكلبَ فشكرَ اللهُ لهُ فغفرَ له، قالوا يا رسولَ اللهِ وإنَّ لنا في البهائمِ أجراً؟ قالَ في كُلِّ ذاتِ كبِدٍ رطْبةٍ أجرٌ " [متفقٌ عليه]. فكيفَ بمن حفرَ بئراً وكان سبباً في وجودِه؟ حتى ارتوى منه خلقٌ وانتفعَ به كثيرونَ.
رابعاً: أو غرسَ نخلاً، فكلُّ إنسانٍ زرعَ شجرةً وأكلَ منها إنسانٌ أو حيوانٌ أو طيرٌ كانَ له من الأجرِ والحسناتِ في حياتِه وبعدَ موتِهِ ما لا يعلمه الا اللهُ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " ما من مُسلمٍ يغرسُ غرساً، أو يزرعُ زرعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، الا كان له به صدقةٌ " [متفقٌ عليهِ].
خامساً: أو بنى مسجداً، فالمساجدُ هي أحبُّ البقاعِ إلى اللهِ، فكلُّ إنسانٍ يأتي إلى هذا المسجدِ فيصلي فيه فيدخلُ أجرُهُ في ميزانِ حسناتِ الذي بنى المسجدَ لا ينقصُ من أجرِ المصلي شيئاً، وكلُّ خطيبٍ خطبَ به يدخلُ أجرُه في ميزانِ حسناتِ الذي بنى المسجدَ لا ينقصُ من أجرِ الخطيبِ شيئاً، وكلُّ أحدٍ القى به كلمةَ خيرٍ أو علم به علماً يدخلُ الأجرُ في ميزانِ حسناتِ الذي بنى المسجدَ، من غيرِ أن ينقصَ من أجورِهم شيئاً، وهناكَ هدايا ومنحٌ كثيرةٌ للذين يبنونَ المساجدَ أو يُساهمون في بناءِ مسجدٍ ولو ساهم في طوبةٍ واحدةٍ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-: " من بنى للهِ مسجداً ولو كمفحصِ قَطاةٍ-أي كعش العُصفورِ-بنى اللهُ له بيتاً في الجنةِ " [متفقٌ عليهِ]. أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ " في بيوتٍ أذنَ اللهُ أن تُرفعَ ويُذكرَ فيها اسمُهُ يُسبحُ له فيها بالغدوِّ والأصالِ رجالٌ لا تليهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يخافونَ يوماً تتقلبُ فيهِ القلوبُ والأبصارُ ليجزيَهم اللهُ أحسنَ ما عملوا ويزيدَهم من فضلهِ والله يرزقُ من يشاءُ بغير حسابٍ ".
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كُلِّ ذنبٍ فأستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
" الخُطبةُ الثانيةُ "
الحمدللهُ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الخلقِ سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعينَ
أما بعد فاتقوا الله عبادَ اللهِ واعملوا بطاعتِه ورضاه
سادساً: أو ورَّثَ مصحفاً، ويكونُ ذلك بطباعةِ المصاحفِ أو شرائِها ووضعها في المساجدِ، فكلُّ أحدٍ قرأ بهِ أو عمل بهِ يدخلُ أجرهُ في ميزانِ حسناتِ الذي إشترى هذا المصحفَ لا ينقصُ من أجرِ القارئِ شيئاً.
سابعاً: أو تركَ ولداً يستغفرُ لهُ بعدَ موتِهِ، فعلى كُلِّ أبٍ أن يحرصَ على تربيةِ أولادِه وبناتِه، ويحرصَ على صلاحِهم، حتى يكونوا أبناءً بررةً، يدعون لأبويهم بالخيرِ ويسالونَ لهما الرحمةَ والمغفرةَ، واعلمْ رعاكَ اللهُ أنَّ العبدَ يرتفعُ بمنازلِ الجنةِ بإستغفارِ ولدِهِ لهُ، عن أبي هُريرةَ-رضي الله عنه-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ الرجلَ لتُرفعَ درجتُه في الجنَّةِ، فيقولُ: أنَّى لي هذا؟ فيقولُ: بإستغفارِ ولدِكَ لكَ " [رواه مُسلم].
وعلى الأبِ أن يحرصَ على تربيةِ بناتِهِ، وعلى إختيارِ الزوجِ الصالحِ لهنَّ، وفي هذا الزمنِ كثيرٌ من النساءِ يشكونَ الظلمَ من أزواجهنَّ وعدمِ صلاحِه وتضيعهِ لأولادِهِ، جاءَ رجلٌ إلى الحسنِ البصريِّ-رحمه الله- فقالَ له: يا أبا سعيدٍ إنَّ لي إبنةً وكثُرَ خُطابُها فلمن أُزوجُها؟ قالَ: زوجها لمن يتقِ اللهَ، فإن أحبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمْها ". وفي هذا الزمنِ للأسف لا يزوجونَ إلا من كان غنياً وثرياً وإن كانَ فاجراً فهذه الفتنةُ والفسادُ الكبيرُ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إذا جاءكم من ترضون خُلُقَهُ ودينَهُ فزوجوهُ، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ " [متفقٌ عليهِ]. وقدْ تقدَّمَ شابٌ صالحٌ فقيرٌ لِخِطبةِ فتاةٍ فرفضوهُ، ثُمَّ تقدَّمَ لها شابٌ فاجرٌ غنيٌّ فقبلوهُ، وقالوا: سوفَ يهديهُ اللهُ، أقولُ: أوليسَ الهاديُ هو الرزاقُ؟.
عبادَ اللهِ، ومنَ الأعمالِ التي تجري للعبدِ بعدَ موتِهِ، البيتُ لأبنِ السبيلِ وهو المسافرُ الذي انقطعَ عن بلدهِ ولمْ يجدْ نفقةً ينفقُها على نفسِهِ، عن أبي هُريرةَ-رضي الله عنه-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ مما يلحقُ المؤمنُ من عملِه وحسناتِه بعدَ موتِهِ، علماً علَّمه ونشرهُ، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناهُ، أو بيتاً لإبنِ السبيلِ بناهُ، أو نهراً أجراهُ، أو صدقةٍ أخرجها من مالِهِ في صحته وحياتِهِ تَلحقَهُ من بعدِ موتِهِ " [رواه ابنُ ماجه وحسنه الشيخُ الألباني-رحمه الله-]. ويدخلُ في خِصلةِ بيتِ السبيلِ، كلُّ من بنى بيتاً للفقراءِ والمساكينِ والأيتامِ فهذا من الحسناتِ الجاريةِ.
ومن الأعمالِ التي تجري للعبدِ بعدَ موتِهِ، من ماتَ مُرابطاً في سبيلِ اللهِ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " رباطٌ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامِهِ، وإن ماتَ جرى عليهِ عملُه الذي كانَ يعملُه وأُجريَ عليه رزقُهُ، وأمنَ الفتَّانَ " [رواه مسلم]. أي ينمو له عمله إلى يومِ القيامةِ ويأمنُ من فتنةِ القبرِ، فلا إله إلا اللهُ، إذا كانَ حالُ الذين يحرسونَ على ثُغورِ المسلمينَ فكيفَ بالمقاتلينَ؟ اللهمَّ لا تحرمنا خيرَ ما عندك بأسوءِ ما عندنا.
عبادَ اللهِ، كما تعلمونَ كلما اشتدت الفتنُ كلما اشتدَّ غضبُ اللهِ على العبادِ، فينبغي على المسلمينَ أن يُكثروا من الصدقةِ، لأنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم-قالَ: " إنَّ الصدقةَ لتطفئَ غضبَ الربِّ كما يُطفئُ الماءُ النارَ " ولا تحقرنَّ من الصدقةِ شيئاً فقد تصدقَ أصحابُ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: بعنقودِ عنبٍ وكانوا يقولون: فيه موزاينُ عندَ اللهِ ثقيلةٌ، ويكفيك حديثُ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " اتقوا النَّارَ ولو بشقِّ تمرةٍ "
قالَ رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: " ما من يومٍ يُصبحُ فيهِ العبادُ الا وملكانِ ينزلانِ، يقولُ أحدُهما اللهمَّ أعطِ منفقاً خلَفَاً ويقولُ الأخرُ: اللهمَّ أعطٍ ممسكاً تلَفَاً ". فأنفقوا عبادَ اللهِ يُنفقُ اللهُ عليكم وأحسنوا يُحسنُ اللهُ إليكم.
عبادَ اللهِ، كيفَ يصلُ للميتِ حسناتٌ وهو إنقطعَ عن دارِ العملِ؟ وقد يكونُ يُعذَّبُ في قبرهِ فتأتي هذه الحسناتُ وتُحميه من عذابِ اللهِ، عن عبادةَ بنِ الصامتِ-رضي الله عنه-قالَ: قلتُ لرسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-إنَّ أمي أفتلت-يعني ماتت فجاةً- وأظنُّها لو تكلمت لتصدقت، فهل لي أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قالَ: نعم " فهذا جوابٌ من رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-يُبينُ فيهِ أنَّ الصدقةَ تنفعُ الميتَ وتؤثِّرُ عليهِ تأثيراً شديداً، فليحرصْ كلُّ واحدٍ منَّا بأن يعملَ أعمالاً صالحةً ويهديها لِكُلِّ من ماتَ من أقاربِهِ، لأبيهِ أو أميه أو أخيه أو أختهِ أو من تحبونهم في الله أو من أحبكم في الله أو من له فضلٌ عليكم فإنَّ هذا شيءٌ يسيرُ ومن حقِّ أخيكَ المسلمِ عليكَ، فأجتهدوا عبادَ اللهِ في ذلكَ.
وصلِّ اللهمَّ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.