أعمال القلوب
ناصر محمد الأحمد
أعمال القلوب
3/12/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: سر عجيب كان يمتلكه أبوبكر الصديق رضي الله عنه، الذي فاق الأمة في كل شيء.
لم يكن فقيراً كأبي ذر أو أبي هريرةن لكنه كان أفضل منهم.
لم يعذب كثيراً كخباب أو بلال أو سمية أو ياسر، لكن كان أفضل منهم.
لم يصب بدنه في الغزوات كطلحة أو أبي عبيدة أو خالد بن الوليد، لكنه كان أفضل منهم.
لم يقتل شهيداً في سبيل الله كعمر بن الخطاب أو حمزة بن عبدالمطلب أو مصعب بن عمير أو سعد بن معاذ، لكنه كان أفضل منهم.
إذن ما السر العجيب الذي صنع له هذه العظمة التي تتراجع عنها سوابق الهمم؟.
فلندع أحد التابعين الأجلاء يكشف لنا المضمر ويفضي لنا بالسر.
يقول بكر بن عبدالله المزني رحمه الله: "ما سبقهم أبوبكر بكثر صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه!". هذا هو السر! "ولكن بشيء وقر في قلبه".
إنها أعمال القلوب تلك التي بلغت بأبي بكر رضي الله عنه إلى حيث لا تبلغ الآمال والهمم.
أعمال القلوب هي التي جعلت إيمانه لو وزن بإيمان أهل الأرض لرجح كما يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
لقد تعلمنا أن الإيمان: عمل القلب وقول اللسان وفعل الجوارح والأركان. لكننا اجتهدنا في صور الأعمال وعددها، وقول اللسان وعمل الجوارح، وأهملنا لبّها وجوهرها وهو عمل القلب.
فصورة الصلاة: الركوع والسجود وبقية الأركان. ولبّها الخشوع.
وصورة الصيام: الكف عن المفطرات من الفجر إلى الغروب. ولبّه التقوى.
وصورة الحج: السعي والطواف والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار. ولبّه تعظيم شعائر الله.
وصورة الدعاء: رفع اليدين واستقبال القبلة وألفاظ المناجاة والطلب. ولبّه الافتقار إلى الله.
وصورة الذكر: التسبيح والتهليل والتكبير والحمد. ولبّه إجلال الخالق ومحبته وخوفه ورجاؤه.
إن الشأن كل الشأن في أعمال القلوب قبل أعمال الجوارح.
فغداً إنما: (تبلى السرائر). وغداً إنما يحصل: (ما في الصدور). وغداً لا ينجو: (إلا من أتى الله بقلب سليم). وغداً لا يدخل الجنة إلا: (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب).
إذا كانت مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، فمفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب.
أيها المسلمون: إن الله سبحانه قد أمر بتطهير القلب وتزكيته، وجعل ذلك من غايات رسالة الرسل أجمعين، وواجب علينا جميعاً أن نراجع حال قلوبنا مع الله سبحانه، وأن نسعى لتزكيتها وتطهيرها قال ابن القيم رحمه الله: في قوله تعالى: (وثيابك فطهر): جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا هو القلب، بل قال سبحانه عن الفاسدين والمبعدين عن رحمته وفضله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: من الآية41)، فجعل عدم تطهير تلك القلوب من أهم الأسباب الموجبة للعذاب. بل لزمنا جميعاً أن نتعرف على أعمال القلوب، ونعلم مقدار ما لدينا منها، وماذا ينقصنا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ" رواه البخاري ومسلم. وقال الله سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فقدم التزكية على التعليم من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إليها، فالأصل هي: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم) رواه مسلم، وهذه القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص ومحل أهم الأعمال وأعظمها.
والمراد بالأعمال القلبية عباد الله هي تلك الأعمال التي يكون محلها القلب، وترتبط به، وأعظمها الإيمان بالله عز وجل، ولذلك نجد آيات كثيرة تتحدث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال بلا ريب هو الإيمان، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم) [الحجرات:7] هذا بالإضافة إلى المحبة لربه، والخوف والرجاء والخشوع والتوكل والإنابة والصبر واليقين والخشوع، وما إلى ذلك، أما أعمال الجوارح فإنها لا تكفي من دون أعمال القلب، فالإيمان هو إيمان القلب، والتقوى هي تقوى القلب، كما قال الله سبحانه: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32] ويقول صلى الله عليه وسلم: "التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" رواه مسلم. وأعمال القلوب كأعمال الجوارح يتعلق بها الثواب والعقاب أيضاً، فكما أن المرء محاسب على قول لسانه وفعل جوارحه فهو محاسب على عمل قلبه، وقد علمنا الشرع الحنيف أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خرج من قلب سليم فقال سبحانه: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) (الشعراء:88، 89)، والقلب السليم هو الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وخلص عمله له وهو السالم من كل شبهة وشهوة تخالف أمر الله وخبره. ومن ظن أن أشد ابتلاء العبد هو ابتلاؤه في جسده فقد أخطأ إنما هو ابتلاء القلوب قال الله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم) (آل عمران: من الآية 154)، وقال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات: من الآية 3). وأعمال القلوب يتوقف عليها أعمال الجوارح، فالإخلاصُ مثلا وهو عملٌ قلبي إذا فُقد من عمل فإن ذاك العمل يَحبَط ويرجع على صاحبه فإن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وفي إحدى الغزوات قال الصحابة رضوان الله عليهم: ما قاتل من اليوم إلا فلان - من شدة قتله للمشركين -، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو في النار" فما لبث أن اتكأ على سيفه فقتل نفسه، والحديث في الصحيحين عن سهل الساعدي رضي الله عنه، وربما يكون ذلك مع وجود من هو من أهل الإيمان والتقوى ومن أهل الجنة في المعركة ولم يعمل مثله، فالله لا يقبل الأعمال التي يخالطها الإشراك فتصير عبادة العبد الظاهرة كالصلاة أو الصيام أو غير ذلك ليس له منها إلا التعب، ثم يعاقب عليها. كذلك فأعمال القلوب أنها أساس النجاة من النار والفوز بالجنة كالتوحيد فهو عبادة قلبية وسلامة الصدر للمسلمين عبادة قلبية، وقد ورد من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، فيتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فلا يجد له كثير عمل يتفضل به غير أنه يبيت وليس في قلبه شيء لأحد من المسلمين، فيقول له عبد الله: "هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ" رواه أحمد. كذلك فإن أعمال الجوارح كما ذكر ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين لها حد معلوم وأما أعمال القلوب لا حد لها، بل تضاعف أضعافاً، وذلك لأن أعمال الجوارح مهما كثرت وعظمت لها وقت معلوم، أما العبادات القلبية فإنها إذا استقرت في قلب العبد، فإنها تكون ملازمة له على كل حال.
عباد الله: ومن صور أعمال القلوب: النية الصالحة بالإخلاص لله سبحانه وحده لاشريك له، فهو رأس مال العبد الصالح ومدار سلامة قلبه، والتسليم له سبحانه، والرضا به رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وبالقدر ووقائعه، والمحبة له سبحانه ولدينه ولنبيه ولكتابه، والمحبة فيه سبحانه لعباده المؤمنين، والخوف والوجل منه سبحانه الذي هو أساس تقواه، والتوكل عليه سبحانه والصبر على طاعته الذين هما أساس البذل لدينه والثبات عليه.
أيها المسلمون: يظن فئام من المسلمين أن أعمال القلوب من فضائل الأعمال ومستحباتها، فمن قام بها فله أجر ومثوبة، ومن قصّر فيها فلا شيء عليه، وهذا مما يبين لنا سبب التقصير والخلل عند كثير من الناس في تعلم أعمال القلوب وتكميلها والقيام بها، كما يسعى أحدهم في تعلم وتكميل والقيام بأعمال الجوارح. إن أعمال القلوب عباد الله واجبة على كل مسلم كما تجب عليه أعمال الجوارح، بل إن أعمال القلوب أشد وجوباً من أعمال الجوارح وآكد منها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبات الأبدان وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات، فتراه يتحرَّج من تركِ واجب من واجبات الأبدان، وقد ترك ما هو أهمّ واجبات القلوب وأفْرَضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريماً وأعظم إثماً".
إن قيام العبد بأعمال القلوب بتوفيق الله سبب للثواب، والتقصير والتفريط فيها قد يكون سبباً للعقاب في الدنيا والآخرة، كما هو الحال في أعمال الجوارح. أما في الدنيا فالثواب عليها يكون بقبول الطاعات، واستجابة الدعوات، والطمأنينة والفرح في القلب والتوفيق للحق والثبات عليه وغيرها، وأما العقوبة فقد تكون حسية أو معنوية وذلك بعدم قبول الطاعات، أو حرمان التوفيق لها، والضيق والضنك في القلوب وغيرها. يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظن أنه لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة. وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة. وربما كان العقاب العاجل معنوياً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا ربِّ كم أعصيك ولا تعاقبني؟ قيل له: كم أعاقبك ولا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟". وأما في الآخرة فإن الله تعالى يقول: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، ويقول جل شأنه: (يوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ).
إن العبادات القلبية هي الأصل والعبادات البدنية تبع ومكملة لها، إذ إن العبادات القلبية روح العبادات البدنية. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى مبيِّناً أهمية أعمال القلوب في حديثه عن النية وأهميتها: "وإنما هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبعٌ ومكملة ومُتممةٌ، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد والأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث. فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها".
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: يتفاضل العباد عند الله تعالى بتفاضل ما في قلوبهم من أعمال القلوب، قال الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وأصل التقوى عمل القلب، قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا..". وقال أبو بكر المزني رحمه الله تعالى: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه".
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رغم أن إسلامه كان متأخراً بالنسبة للعشرة المبشرين بالجنة، إذ كان إسلامه في السنة السادسة من البعثة إلا أنه تقدم على غيره سوى أبي بكر الصديق، وقد أفاد شيخ الإسلام عن ذلك بقوله: "وكان عمر لكونه أكمل إيماناً وإخلاصاً وصدقاً ومعرفة ونوراً أبعد عن هوى النفس وأعلى همة في إقامة دين الله، مقدماً على سائر المسلمين غير أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين".
إن تفاضل أعمال العباد عند الله جل وعلا بتفاضل ما في قلوبهم من أعمال القلوب، فقد يعمل الرجلان عملاً واحداً، والفرق بين عمليهما عند الله كما بين السماء والأرض، لتفاضل ما في قلبيهما من أعمال القلوب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض". ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والله يضاعف ذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه، ونفع نفقته وقدرها، ووقوعها موقعها، فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيث عند النفقة".
إن لذة العبادة والطمأنينة فيها والأُنس بها، وقرة العين، وراحة النفس وانشراح الصدر لا تكون إلا بتحقيق أعمال القلوب أثناء القيام بتلك العبادة، لأن أعمال القلوب هي روح أعمال الجوارح، وبالروح تكون اللذة والطمأنينة والأنس، وإن فارقتها فأعمال الجوارح موات لا روح فيها ولا لذة وطمأنينة ولا أنس.
أيها المسلمون: ولا يعني التنويه بأهمية أعمال القلوب وأنها الأصل وأعمال الجوارح تبع ومكملة، لا يعني ذلك التقليل من شأن أعمال الجوارح، أو ترك أعمال الجوارح على حساب أعمال القلوب. فأعمال القلوب غالباً ما تقوم إلا بأعمال الجوارح، كما أن أعمال الجوارح لا تنفع وتقبل إلا بأعمال القلوب. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:"الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهرٌ بلا باطن له، ولا يُجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجزٍ أو إكراه خوف هلاك. فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليلٌ على فساد الباطن وخُلُوِّه من الإيمان، ونقصه دليلُ نقصه، وقوّته دليل قوّته".
إن أعمال القلوب منها قدر واجب، ومنها قدر مستحب، كما أن أعمال الجوارح منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ولا شك أن الواجب مقدم على المستحب سواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح. فمن أعمال الجوارح ما تركه كفر كالصلاة، ومنها ما لا يكون صلاح الأمة إلا به كالجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى سبيل الله جل وعلا وتربية الناس وتعليمهم وغيرها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً أقسام أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأفضلية أعمال القلوب في كل قسم: "وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديمة أو قليلة المنفعة".
إن أعمال القلوب وقيام القلب بها والسعي لتكميلها ليس أمراً مستحيلاً أو أمراً يصعب تحقيقه، لأن الله جل وعلا من رحمته بعباده لا يأمرهم ويوجب عليهم ما لا يطيقون. قال الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا). ولكنها تحتاج إلى تربية ذاتية وجهاد نفس، وقد قال جل وعلا: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
أيها المسلمون: ونحن مقدمون على أفضل أيام العام عندالله تعالى، ألا وهي العشر من ذي الحجة، فاحرصوا رحمكم الله على أعمال القلوب أكثر من أعمال الجوارح، وأفضل عمل من أعمال القلوب تقدمه في هذه العشر التوبة إلى الله من كل ذنب أو تقصير وقع منك خلال العام.
اللهم ..