أعظم نعيم رؤية وجه الله تعالى
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/04/14 - 2017/01/12 14:32PM
أعظم نعيم رؤية الله
جمع واعداد عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، والجود والامتنان؛ عم بجوده الأنام، ودعاهم برحمته إلى دار السلام، أحق من عُبد، وأجل من ذُكر، وأرأف من مَلَك، وأنصر من ابتغي، وأسمع من دُعي، وأجود من أعطى، وأعدل من قضى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.... ﴾.
أيها الأحبة: تعالوا بنا نذهب بعيداً عن متاعب الحياة، وأنكاد الدنيا، وأكدار الأحداث، وتنغيصات الأخبار؛ تعالوا ننتقل من الأحزان إلى السلوان، ومن الإرهاق إلى الأشواق، ومن التعاسة والسياسة إلى الوناسة، ومن ضيق الأمور إلى انشراح الصدور، ومن جحيم الواقع إلى الزلال النافع، والدواء الناجع.
تعالوا نعيش في دوحة من الحب، وروضة من الهوى، وحديقة من الشوق، وواحة من الغرام؛ نعيش الحب حيث لا أجمل منه في إضفاء السرور، وإمتاع القلوب، وإشباع المشاعر، وطرد الهموم، وتذوق الحياة، ومداواة الجراح!.
أيها المحبون: أجزم أنه ما من أحد منكم إلا وله حبيب قد ملك فؤاده، وأسر قلبه؛ حبيب يطرب لرؤيته، ويأنس لحديثه، ويتشوق للقائه؛ إما زوجةً حسناء، وإما ولداً باراً، وإما والداً عطوفاً، أو والدة حنوناً، أو زوجاً صالحاً، أو غير ذلك.
أريد كل واحد منكم أن يستحضر الآن في قلبه أعز حبيب لديه، وأغلى إنسان إليه؛ تصور لو غاب عنك هذا الحبيب الذي أُتْرِعْتَ به حُبَّاً، ومُلئت له شوقا، تصور لو غاب أسبوعاً أو شهراً أو سنةً، ماذا يكون من أمرك؟ كيف لو غاب عشر سنين، أو عشرين سنة، أو أكثر، كم يكون بك من الشوق؟ كم يمر بك من الضنى؟ كم تتجرع من مرارة الفراق؟ كم ستدمع عينك؟ كم سيتمزق قلبك؟.
بل ربما تعمى العين من البكاء، ويتهالك الجسم من العناء، بل ربما تموت حسرة، وتقضي ندما، تعيش كل يوم وأنت تتمنى أن تظفر بنظرة أو بسمة أو كلمة، تمني النفس باللقاء، وتعلل الفؤاد بالرؤية، وتطمع القلب بالأمل.
ما رأيكم أن هنالك قوما لهم حبيب ينتظرونه عشرات السنين، ويطربون لرؤيته، ويشتاقون للقائه، قد شربوا من كؤوس حبه، وتضلعوا من زلال قربه، ذابت له المهج، وأريقت لأجله الدماء، وبيعت الأنفس، وتطايرت الرؤوس، وذوت الأجسام، وحفيت الأقدام، وشحبت الألوان، وبكت العيون، وحورب النوم، وهجر النعيم، وبذل الغالي والنفيس؛ لكي يظفروا بلقائه، وينعموا بوصاله، ويمتعوا بالنظر إلى وجهه الجميل، فمن هو؟! هو الله.. هو الله.
بِعْتُ ذَاتِي عَلَى حَبِيبٍ قَرِيبٍ *** مِنْ فُؤادِي وَمِنْهُ حُبِّي وَذَاتِي
تَاهَ لُبِّي وَذَابَ قَلْبِي لِرَبِّي *** فَهْوَ حُبِّي وسَلْوَتِي فِي حَيَاتي
ولَهُ كُلُّ ذَرَّةٍ في كِيَانِي *** وَمَمَاتِي ومَنْسَكِي وصَلَاتِي
قديماً كان هنالك محبٌّ صادقٌ عاش في نعيم الحب الإلهي، والقرب الرباني، كان يأنس بين الفينة والأخرى بلقاء حبيبه الذي أضفى عليه من مِنَن الحب، وكساه من حلل القرب، كان يستمتع بالحديث إليه مباشرة، فتنساب الكلمات الإلهية إلى قلبه كالجدول الرقراق، والنسيم العليل؛ إنه موسى -صلى الله عليه وسلم-، كليم الله.
لكن موسى الذي حظي بهذه المنزلة السامقة، والميزة الفائقة،لم يزد بالحديث إلى ربه إلا شوقا إلى رؤيته، لقد أراد أن يجمع إلى متعة السمع متعة النظر، فأتيحت له فرصة من فرص رضا الحبيب، وهتاف الجليل، في إحدى المكالمات الربانية، فتلطف إليه غاية اللطف، وظهر له في قمة الضعف، وتشفَّع إليه بأسمى كلمات الحب والرضا، متوسِّلاً إليه بحبه الجم، وعبوديته الحقة, وإخلاصه المتناهي, وشوقه الغلاب، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف:143].
فأتاه الجواب يحمل في طياته التلطف ومراعاةَ مشاعر هذا المحب؛ فلم يزجره، ولم ينهره، ولم ينكر عليه، لعلمه بما يحمله قلبه من الصدق والشوق لحبيبه، فقال له: (لَنْ تَرَانِي)، ثم تلطف معه ثانية بأن زاد في إقناعه، وبين له السبب، وأوضح له المانع؛ إنك يا موسى ببشريتك، بضعفك، لا تطيق أن ترى مالك الملك، خالق الكون، عظيم العظماء، فهذا أمامك جبل شامخ، وعلَمٌ راسٍ، وسوف أتجلى له، وسترى ماذا يحدث له على عظمته، ومع أنه جماد لا روح له ولا قلب بين جنبيه كقلبك المحب الضعيف، (قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].
بمجرد أن تجلى الله -جل وعلا- للجبل انهار الجبل واندكَّ وذهب فتاتا، فلم يتحمل موسى -صلى الله عليه وسلم- هول الموقف وفداحة الخطب؛ ثم يتواصل الحديث الرباني، والتلطف الإلهي، والتذكير لهذا المحب بجمائل حبيبه عليه، وما حباه من فيوضاته: (قَاَل يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف:144].
أيها المحبون: إن رؤية حبيبنا -جل وعلا- في الحياة الدنيا أمر مستحيل ممنوع لا يقوى عليه البشر
ولقدأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه لم ير ربه في الدنيا وقال: "نور أنى أراه" أخرجه مسلم.
عباد الله رؤية الله -عز وجل- مسألة عقدية هامة، زلت فيها أقدام، وتاهت أوهام، وكثرت آراء، وتعددت مذاهب، ولكن أهل السنة والجماعة -كما هم دائما- أهل المنهج الحق، والطريق الصدق، لا تذهب بهم الأهواء، ولا تغريهم الآراء، ولا تلعب بهم الشبهات، فهم أهل كتاب وسنة، يقبسون من نورهما، ويمضون على أثرهما.
فهنالك فرقاً ضالة أنكرت رؤية الله -عز وجل- في الدار الآخرة، وقالت بأن ذلك مستحيل عليه تعالى، وكأنهم أعلم بالله من نفسه، ومن رسله به! ومَن أنكر ذلك فقد كفر، فالأدلة أوضح من الشمس، وأبهى من القمر، وأضوأ من النجم، وليس هذا مجال مناقشة هذه الآراء والتفصيل فيها، فهو مبين في كتب العقائد والتفاسير،
والله لولا رؤية الرحمن في ال
جنات ما طابت لذي العرفان
أعلى النعيم نعيمُ رؤيةِ وجهه
وخطابه في جنة الحيوان
وأشد شيء في العذاب حجابه
سبحانه عن ساكني النيران
فمنتهى أمل المؤمن، وغاية قصده، ومنى عينه أن يظفر برؤية وجه ربه الذي خشاه في غيبه ومشهده مع عدم رؤيته، وخاف الرجوع إليه والوقوف بين يديه، ورجا الزلفى عنده والوفادة إليه، ورأى في حياته عظيم منته، وجليل صنعه، وقديم إحسانه، وتجدد آلائه، ولطيف حفظه. سنون مضت، أودع فيها من صالحات العمل ما يرجو به لقاء ربه، والتنعم برؤية وجهه، والتلذذ بالاستماع لخطابه في الجنة، لا حرمنا الله ذلك بفضله! قال الحسن البصري: " لو علم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا "، وقال الشافعي: " لو لم يوقن محمد بن إدريس - يعني نفسه - أنه يرى الله لما عبد الله - عز وجل - "، وقال أبو موسى الداراني: " أي شيء أراد أهل المعرفة؟ والله ما أرادوا إلا ما سأل موسى - عليه السلام -! "، أي: حين قال لربه: ﴿ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143].
عباد الله!
إن اعتقاد أهل السنة والجماعة راسخ على إثبات رؤية المؤمنين ربَّهم - سبحانه - في عرصات القيامة، وفي الجنة، كما قال الله - تعالى -: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، قال أبو سليمان الداراني: " لو لم يكن لأهل المعرفة إلا هذه الآية الواحدة لاكتفوا بها ". وقال الله - جل وعلا -: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]؛ لمّا حجب أعداءه عن رؤيته حين سخط عليهم؛ أكرم أولياءه برؤيته؛ لرضاه عنهم. وقال الله - سبحانه -: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وقد فسّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله - تعالى-.
أيها المسلمون!
ورؤية الله - جل وعلا - في الجنة لا يمنع منها إلا رداء الكبرياء على وجهه - تبارك وتقدس -، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» رواه مسلم.
وكشف ذلك الحجاب بيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ - عَزَّ وَجَلَّ - " ثم تلا رسول الله: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] رواه مسلم.
وسأل أبو رزين - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَرَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًا بِهِ؟ »، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَاللَّهُ أَعْظَمُ، وَذَلِكَ آيَةٌ فِي خَلْقِهِ» رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه فإليك ما تواترَ عن الصادق المصدوق من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد - رضي الله عنهم أجمعين - فاستمع يوم ينادي المنادي: "يا أهل الجنة إنَّ ربكم تبارك وتعالى يَسْتَزِيرَكُم، فحيَّ على زيارته، فيقولون سمعًا وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مُبَادِرِين، فإذا بالنجائبِ قد أُعدَّت لهم، فيستوون على ظهورها مُسْرِعِين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأَفْيَحِ الذي جُعِلَ لهم مَوْعِدًا وجُمعوا هناك، فلم يُغَادر الداعي منهم أحدًا, أَمَر الربُّ تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك، ثم نصبت له منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم على كثبان المسك، وليس فيهم دني، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إنَّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقِّل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة..
فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبَّار جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلامٌ عليكم، فلا تُردُّ التحية بأحسن من قولهم: "اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام"، فيتجلَّى لهم الربُّ تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟! فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن: قد رضينا، فارضَ عنَّا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف الرب جل وعلا الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره وينسون كل نعيم عاينوه، ولولا أن الله سبحانه قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في هذا المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته بالدنيا، فيقول: يا ربِّ ألم تغفر لي، فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه".
اللهمَّ إنَّا نسألك لذَّةَ النظرِ إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلَّة.
الخطبة الثانية
عباد الله!
إن لأهل الجنة موعدًا كلَّ جمعة يرون فيه ربهم، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض " رواه الدارقطني وصححه شيخ الإسلام. وأفضلهم منزلة من يُكرم برؤية ربه مرتين كلَّ يوم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " رواه الطبري وصححه الحاكم.
أيها المؤمنون!
الجنة نعيم دائم؛ لا يعتريه وكس، ولا انقطاع، ولا كدر بوجه من الوجوه، قد صفت من المرض، والأذى، والهرم، والسبات، وسدفة الليل، كما قال الله - تعالى -: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ [الرعد: 35]،
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا؛ فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا؛ فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا؛ فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا؛ فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ " رواه مسلم.
وأقل نعيمها عشرة أضعاف أعظم نعيم أهل الأرض قاطبة؛ وفق خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إنَّها الجنَّة - يا عبادَ الله - دار المتقين، ورغبة المخبتين، ومقصدُ الصالحين؛ قال الصادق الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم -: قال الله - عزَّ وجلَّ - [السجدة: 17].
((أعدَدْت لعبادي الصالحين - أي: في الجنة - ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب [السجدة: 17].بشر))، واقرؤوا إنْ شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتَّفق عليه: ((إنَّ أوَّل زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثُمَّ الذين يلونهم على أشدِّ كوكب دُرِّي في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوَّطون، ولا يتخمطون، آنيتهم فيها الذَّهب، ورشحهم المسك - أي: عرقهم المسك - ولكل واحد منهم زوجتان يرى مُخَّ ساقيهما من وراء اللَّحم من الْحُسْنِ، لا اختلافَ بينهم ولا تَبَاغُضَ، قلوبهم على قلب رجل واحد، يُسبِّحون الله بكرة وعشيًّا))،
ايها المسلمون انا اليوم ليس حديثي تشويقا عن الجنه
وانما حديثي عن اعظم نعيم الجنة
فمنتهى أمل المؤمن، وغاية قصده، ومنى عينه أن يظفر برؤية وجه ربه الذي خشاه في غيبه ومشهده مع عدم رؤيته، وخاف الرجوع إليه والوقوف بين يديه، ورجا الزلفى عنده والوفادة إليه، ورأى في حياته عظيم منته، وجليل صنعه، وقديم إحسانه، وتجدد آلائه، ولطيف حفظه.
أيها المؤمنون!
إن للظفر برؤية الله - تعالى –
سبلًا أبانها الوحي المصون، فمن رام إدراك ذاك النعيم فليسلك تلك السبل. وأجلّ هذه السبل توحيد الله وطلب الوسيلة إليه بالعمل الصالح، كما قال جل شأنه: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، قال عبدالله بن المبارك: " من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل صالحًا، ولا يشرك به أحدًا
". وحين يعبد العبد ربه بمقام الإحسان؛ بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، ويحسن إلى عباده بكف الشر عنهم وبذل الخير لهم؛ فإنه موعود بالنظر إلى ربه، كما قال سبحانه: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26].
وشدة الحرص على صلاتي الفجر والعصر وسيلة للفوز بتلك النظرة، قال جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه -: " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ -، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ ﴾ [ق: 39]، قَالَ إِسْمَاعِيلُ - أحد رواة الحديث -: «افْعَلُوا؛ لاَ تَفُوتَنَّكُمْ» رواه البخاري. والتبكير إلى صلاة الجمعة من سبل إدارك ذاك النعيم، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: " «سَارِعُوا إِلَى الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي الْكُثُبِ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ، فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْجُمُعَةِ، فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا»، وكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إِلَى الْجُمُعَةِ - رواه الدارقطني وصححه شيخ الإسلام، وقال: " مثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يقال بالتوقيف " -.
والجؤار والدعاء إلى الكريم - سبحانه - بطلب ذاك النعيم من أعظم سبل دَرَكه؛ فقد كان ذا هِجّيرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه؛ فقد كان من عظيم سؤله: " وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ " رواه النسائي وصححه الحاكم.
أيها الأحبة!
إن من سمت نفسه بطلب رؤية وجه الله - سبحانه -، وكَلَفَتْ روحه بالاشتياق إليه؛ تنزّه عمّا قد يحول بينه وبين ذاك النعيم، ولم يسلم قياده لضلال عقيدة تنفي رؤية وجه الله أو تحرفه عن حقيقته، ولم يعد أسيرًا لنظرة محرمة قد تحرمه لذة النظر إلى ربه جزاءً من جنس ما عمل.
جمع واعداد عبدالوهاب المعبأ
773027648
جمع واعداد عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، والجود والامتنان؛ عم بجوده الأنام، ودعاهم برحمته إلى دار السلام، أحق من عُبد، وأجل من ذُكر، وأرأف من مَلَك، وأنصر من ابتغي، وأسمع من دُعي، وأجود من أعطى، وأعدل من قضى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.... ﴾.
أيها الأحبة: تعالوا بنا نذهب بعيداً عن متاعب الحياة، وأنكاد الدنيا، وأكدار الأحداث، وتنغيصات الأخبار؛ تعالوا ننتقل من الأحزان إلى السلوان، ومن الإرهاق إلى الأشواق، ومن التعاسة والسياسة إلى الوناسة، ومن ضيق الأمور إلى انشراح الصدور، ومن جحيم الواقع إلى الزلال النافع، والدواء الناجع.
تعالوا نعيش في دوحة من الحب، وروضة من الهوى، وحديقة من الشوق، وواحة من الغرام؛ نعيش الحب حيث لا أجمل منه في إضفاء السرور، وإمتاع القلوب، وإشباع المشاعر، وطرد الهموم، وتذوق الحياة، ومداواة الجراح!.
أيها المحبون: أجزم أنه ما من أحد منكم إلا وله حبيب قد ملك فؤاده، وأسر قلبه؛ حبيب يطرب لرؤيته، ويأنس لحديثه، ويتشوق للقائه؛ إما زوجةً حسناء، وإما ولداً باراً، وإما والداً عطوفاً، أو والدة حنوناً، أو زوجاً صالحاً، أو غير ذلك.
أريد كل واحد منكم أن يستحضر الآن في قلبه أعز حبيب لديه، وأغلى إنسان إليه؛ تصور لو غاب عنك هذا الحبيب الذي أُتْرِعْتَ به حُبَّاً، ومُلئت له شوقا، تصور لو غاب أسبوعاً أو شهراً أو سنةً، ماذا يكون من أمرك؟ كيف لو غاب عشر سنين، أو عشرين سنة، أو أكثر، كم يكون بك من الشوق؟ كم يمر بك من الضنى؟ كم تتجرع من مرارة الفراق؟ كم ستدمع عينك؟ كم سيتمزق قلبك؟.
بل ربما تعمى العين من البكاء، ويتهالك الجسم من العناء، بل ربما تموت حسرة، وتقضي ندما، تعيش كل يوم وأنت تتمنى أن تظفر بنظرة أو بسمة أو كلمة، تمني النفس باللقاء، وتعلل الفؤاد بالرؤية، وتطمع القلب بالأمل.
ما رأيكم أن هنالك قوما لهم حبيب ينتظرونه عشرات السنين، ويطربون لرؤيته، ويشتاقون للقائه، قد شربوا من كؤوس حبه، وتضلعوا من زلال قربه، ذابت له المهج، وأريقت لأجله الدماء، وبيعت الأنفس، وتطايرت الرؤوس، وذوت الأجسام، وحفيت الأقدام، وشحبت الألوان، وبكت العيون، وحورب النوم، وهجر النعيم، وبذل الغالي والنفيس؛ لكي يظفروا بلقائه، وينعموا بوصاله، ويمتعوا بالنظر إلى وجهه الجميل، فمن هو؟! هو الله.. هو الله.
بِعْتُ ذَاتِي عَلَى حَبِيبٍ قَرِيبٍ *** مِنْ فُؤادِي وَمِنْهُ حُبِّي وَذَاتِي
تَاهَ لُبِّي وَذَابَ قَلْبِي لِرَبِّي *** فَهْوَ حُبِّي وسَلْوَتِي فِي حَيَاتي
ولَهُ كُلُّ ذَرَّةٍ في كِيَانِي *** وَمَمَاتِي ومَنْسَكِي وصَلَاتِي
قديماً كان هنالك محبٌّ صادقٌ عاش في نعيم الحب الإلهي، والقرب الرباني، كان يأنس بين الفينة والأخرى بلقاء حبيبه الذي أضفى عليه من مِنَن الحب، وكساه من حلل القرب، كان يستمتع بالحديث إليه مباشرة، فتنساب الكلمات الإلهية إلى قلبه كالجدول الرقراق، والنسيم العليل؛ إنه موسى -صلى الله عليه وسلم-، كليم الله.
لكن موسى الذي حظي بهذه المنزلة السامقة، والميزة الفائقة،لم يزد بالحديث إلى ربه إلا شوقا إلى رؤيته، لقد أراد أن يجمع إلى متعة السمع متعة النظر، فأتيحت له فرصة من فرص رضا الحبيب، وهتاف الجليل، في إحدى المكالمات الربانية، فتلطف إليه غاية اللطف، وظهر له في قمة الضعف، وتشفَّع إليه بأسمى كلمات الحب والرضا، متوسِّلاً إليه بحبه الجم، وعبوديته الحقة, وإخلاصه المتناهي, وشوقه الغلاب، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف:143].
فأتاه الجواب يحمل في طياته التلطف ومراعاةَ مشاعر هذا المحب؛ فلم يزجره، ولم ينهره، ولم ينكر عليه، لعلمه بما يحمله قلبه من الصدق والشوق لحبيبه، فقال له: (لَنْ تَرَانِي)، ثم تلطف معه ثانية بأن زاد في إقناعه، وبين له السبب، وأوضح له المانع؛ إنك يا موسى ببشريتك، بضعفك، لا تطيق أن ترى مالك الملك، خالق الكون، عظيم العظماء، فهذا أمامك جبل شامخ، وعلَمٌ راسٍ، وسوف أتجلى له، وسترى ماذا يحدث له على عظمته، ومع أنه جماد لا روح له ولا قلب بين جنبيه كقلبك المحب الضعيف، (قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].
بمجرد أن تجلى الله -جل وعلا- للجبل انهار الجبل واندكَّ وذهب فتاتا، فلم يتحمل موسى -صلى الله عليه وسلم- هول الموقف وفداحة الخطب؛ ثم يتواصل الحديث الرباني، والتلطف الإلهي، والتذكير لهذا المحب بجمائل حبيبه عليه، وما حباه من فيوضاته: (قَاَل يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف:144].
أيها المحبون: إن رؤية حبيبنا -جل وعلا- في الحياة الدنيا أمر مستحيل ممنوع لا يقوى عليه البشر
ولقدأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه لم ير ربه في الدنيا وقال: "نور أنى أراه" أخرجه مسلم.
عباد الله رؤية الله -عز وجل- مسألة عقدية هامة، زلت فيها أقدام، وتاهت أوهام، وكثرت آراء، وتعددت مذاهب، ولكن أهل السنة والجماعة -كما هم دائما- أهل المنهج الحق، والطريق الصدق، لا تذهب بهم الأهواء، ولا تغريهم الآراء، ولا تلعب بهم الشبهات، فهم أهل كتاب وسنة، يقبسون من نورهما، ويمضون على أثرهما.
فهنالك فرقاً ضالة أنكرت رؤية الله -عز وجل- في الدار الآخرة، وقالت بأن ذلك مستحيل عليه تعالى، وكأنهم أعلم بالله من نفسه، ومن رسله به! ومَن أنكر ذلك فقد كفر، فالأدلة أوضح من الشمس، وأبهى من القمر، وأضوأ من النجم، وليس هذا مجال مناقشة هذه الآراء والتفصيل فيها، فهو مبين في كتب العقائد والتفاسير،
والله لولا رؤية الرحمن في ال
جنات ما طابت لذي العرفان
أعلى النعيم نعيمُ رؤيةِ وجهه
وخطابه في جنة الحيوان
وأشد شيء في العذاب حجابه
سبحانه عن ساكني النيران
فمنتهى أمل المؤمن، وغاية قصده، ومنى عينه أن يظفر برؤية وجه ربه الذي خشاه في غيبه ومشهده مع عدم رؤيته، وخاف الرجوع إليه والوقوف بين يديه، ورجا الزلفى عنده والوفادة إليه، ورأى في حياته عظيم منته، وجليل صنعه، وقديم إحسانه، وتجدد آلائه، ولطيف حفظه. سنون مضت، أودع فيها من صالحات العمل ما يرجو به لقاء ربه، والتنعم برؤية وجهه، والتلذذ بالاستماع لخطابه في الجنة، لا حرمنا الله ذلك بفضله! قال الحسن البصري: " لو علم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا "، وقال الشافعي: " لو لم يوقن محمد بن إدريس - يعني نفسه - أنه يرى الله لما عبد الله - عز وجل - "، وقال أبو موسى الداراني: " أي شيء أراد أهل المعرفة؟ والله ما أرادوا إلا ما سأل موسى - عليه السلام -! "، أي: حين قال لربه: ﴿ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143].
عباد الله!
إن اعتقاد أهل السنة والجماعة راسخ على إثبات رؤية المؤمنين ربَّهم - سبحانه - في عرصات القيامة، وفي الجنة، كما قال الله - تعالى -: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، قال أبو سليمان الداراني: " لو لم يكن لأهل المعرفة إلا هذه الآية الواحدة لاكتفوا بها ". وقال الله - جل وعلا -: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]؛ لمّا حجب أعداءه عن رؤيته حين سخط عليهم؛ أكرم أولياءه برؤيته؛ لرضاه عنهم. وقال الله - سبحانه -: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وقد فسّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله - تعالى-.
أيها المسلمون!
ورؤية الله - جل وعلا - في الجنة لا يمنع منها إلا رداء الكبرياء على وجهه - تبارك وتقدس -، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» رواه مسلم.
وكشف ذلك الحجاب بيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ - عَزَّ وَجَلَّ - " ثم تلا رسول الله: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] رواه مسلم.
وسأل أبو رزين - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَرَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًا بِهِ؟ »، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَاللَّهُ أَعْظَمُ، وَذَلِكَ آيَةٌ فِي خَلْقِهِ» رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه فإليك ما تواترَ عن الصادق المصدوق من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد - رضي الله عنهم أجمعين - فاستمع يوم ينادي المنادي: "يا أهل الجنة إنَّ ربكم تبارك وتعالى يَسْتَزِيرَكُم، فحيَّ على زيارته، فيقولون سمعًا وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مُبَادِرِين، فإذا بالنجائبِ قد أُعدَّت لهم، فيستوون على ظهورها مُسْرِعِين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأَفْيَحِ الذي جُعِلَ لهم مَوْعِدًا وجُمعوا هناك، فلم يُغَادر الداعي منهم أحدًا, أَمَر الربُّ تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك، ثم نصبت له منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم على كثبان المسك، وليس فيهم دني، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إنَّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقِّل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة..
فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبَّار جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلامٌ عليكم، فلا تُردُّ التحية بأحسن من قولهم: "اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام"، فيتجلَّى لهم الربُّ تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟! فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن: قد رضينا، فارضَ عنَّا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف الرب جل وعلا الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره وينسون كل نعيم عاينوه، ولولا أن الله سبحانه قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في هذا المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته بالدنيا، فيقول: يا ربِّ ألم تغفر لي، فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه".
اللهمَّ إنَّا نسألك لذَّةَ النظرِ إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلَّة.
الخطبة الثانية
عباد الله!
إن لأهل الجنة موعدًا كلَّ جمعة يرون فيه ربهم، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض " رواه الدارقطني وصححه شيخ الإسلام. وأفضلهم منزلة من يُكرم برؤية ربه مرتين كلَّ يوم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " رواه الطبري وصححه الحاكم.
أيها المؤمنون!
الجنة نعيم دائم؛ لا يعتريه وكس، ولا انقطاع، ولا كدر بوجه من الوجوه، قد صفت من المرض، والأذى، والهرم، والسبات، وسدفة الليل، كما قال الله - تعالى -: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ [الرعد: 35]،
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا؛ فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا؛ فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا؛ فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا؛ فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ " رواه مسلم.
وأقل نعيمها عشرة أضعاف أعظم نعيم أهل الأرض قاطبة؛ وفق خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إنَّها الجنَّة - يا عبادَ الله - دار المتقين، ورغبة المخبتين، ومقصدُ الصالحين؛ قال الصادق الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم -: قال الله - عزَّ وجلَّ - [السجدة: 17].
((أعدَدْت لعبادي الصالحين - أي: في الجنة - ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب [السجدة: 17].بشر))، واقرؤوا إنْ شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتَّفق عليه: ((إنَّ أوَّل زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثُمَّ الذين يلونهم على أشدِّ كوكب دُرِّي في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوَّطون، ولا يتخمطون، آنيتهم فيها الذَّهب، ورشحهم المسك - أي: عرقهم المسك - ولكل واحد منهم زوجتان يرى مُخَّ ساقيهما من وراء اللَّحم من الْحُسْنِ، لا اختلافَ بينهم ولا تَبَاغُضَ، قلوبهم على قلب رجل واحد، يُسبِّحون الله بكرة وعشيًّا))،
ايها المسلمون انا اليوم ليس حديثي تشويقا عن الجنه
وانما حديثي عن اعظم نعيم الجنة
فمنتهى أمل المؤمن، وغاية قصده، ومنى عينه أن يظفر برؤية وجه ربه الذي خشاه في غيبه ومشهده مع عدم رؤيته، وخاف الرجوع إليه والوقوف بين يديه، ورجا الزلفى عنده والوفادة إليه، ورأى في حياته عظيم منته، وجليل صنعه، وقديم إحسانه، وتجدد آلائه، ولطيف حفظه.
أيها المؤمنون!
إن للظفر برؤية الله - تعالى –
سبلًا أبانها الوحي المصون، فمن رام إدراك ذاك النعيم فليسلك تلك السبل. وأجلّ هذه السبل توحيد الله وطلب الوسيلة إليه بالعمل الصالح، كما قال جل شأنه: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، قال عبدالله بن المبارك: " من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل صالحًا، ولا يشرك به أحدًا
". وحين يعبد العبد ربه بمقام الإحسان؛ بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، ويحسن إلى عباده بكف الشر عنهم وبذل الخير لهم؛ فإنه موعود بالنظر إلى ربه، كما قال سبحانه: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26].
وشدة الحرص على صلاتي الفجر والعصر وسيلة للفوز بتلك النظرة، قال جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه -: " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ -، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ ﴾ [ق: 39]، قَالَ إِسْمَاعِيلُ - أحد رواة الحديث -: «افْعَلُوا؛ لاَ تَفُوتَنَّكُمْ» رواه البخاري. والتبكير إلى صلاة الجمعة من سبل إدارك ذاك النعيم، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: " «سَارِعُوا إِلَى الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي الْكُثُبِ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ، فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْجُمُعَةِ، فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا»، وكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إِلَى الْجُمُعَةِ - رواه الدارقطني وصححه شيخ الإسلام، وقال: " مثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يقال بالتوقيف " -.
والجؤار والدعاء إلى الكريم - سبحانه - بطلب ذاك النعيم من أعظم سبل دَرَكه؛ فقد كان ذا هِجّيرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه؛ فقد كان من عظيم سؤله: " وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ " رواه النسائي وصححه الحاكم.
أيها الأحبة!
إن من سمت نفسه بطلب رؤية وجه الله - سبحانه -، وكَلَفَتْ روحه بالاشتياق إليه؛ تنزّه عمّا قد يحول بينه وبين ذاك النعيم، ولم يسلم قياده لضلال عقيدة تنفي رؤية وجه الله أو تحرفه عن حقيقته، ولم يعد أسيرًا لنظرة محرمة قد تحرمه لذة النظر إلى ربه جزاءً من جنس ما عمل.
جمع واعداد عبدالوهاب المعبأ
773027648