أظلم الناس

أَظْلَمُ النَّاسِ
4/5/1434

الحَمْدُ للهِ القَوِيِّ القَهَّارِ، العَزِيزِ الجَبَّارِ؛ شَيَّدَ لِدِينِهِ أَسَاسًا وَبِنَاءً، وَجَعَلَ لَهُ شِعَارًا وَدِثَارًا؛ فَشِعَارُهُ الإِسْلاَمُ، وَدِثَارُهُ الإِيمَانُ، وَلاَ يُنْجِي العَبْدَ إِسْلاَمٌ بِلاَ إِيمَانٍ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَنْزَلَ مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَى وَأَسْدَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ مَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ مُتَقَرِّبٌ بِخَيْرِ مَا شَرَعَ لَهُ، وَلاَ تَعَبَّدَ لَهُ مُتَعَبِّدٌ بِغَيْرِ شَرْعِهِ إِلاَّ بَعُدَ عَنْهُ؛ [أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ] {الزُّمر:3}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى هُدَى اللهِ تَعَالَى وَصِرَاطِهِ، وَقَاتَلَ النَّاسَ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ، فَنَصَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ المِلَّةَ، وَجَمَعَ الأُمَّةَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاحْذَرُوا ظُلْمَ النَّفْسِ بِالكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالمَعَاصِي، وَالْهَجُوا دَاعِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ القَوِيمِ، وَحُسْنِ الخَوَاتِيمِ، وَلاَ تَأْمَنُوا تَقَلُّبَ القُلُوبِ، وَالانْحِرَافَ عَنِ الحَقِّ؛ فَإِنَّ قَوْمًا أَمِنُوا فَهَلَكُوا، وَإِنَّ قَوْمًا خَافُوا فَسَلِمُوا؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] {الأنفال:24}.
أَيُّهَا النَّاسُ: لاَ ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَا الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ إِلاَّ كَذِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ المُشْرِكَ كَذَبَ حِينَ سَاوَى بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا يُعْبَدُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَكَذَبَ حِينَ صَرَفَ شَيْئًا مِنَ العِبَادَةِ لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ كَذِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى قَوْلُ فِتْيَةِ الكَهْفِ حِينَ فَارَقُوا قَوْمَهُمْ؛ [هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا] {الكهف:15}، فَجَعَلُوا مَا فِي قَوْمِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ تَعَالَى بِالكَذِبِ.
وَمَدَارُ أُمُورِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى الافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْ سَلَبُوا عَنْهُ مَا هُوَ مُتَّصَفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالوَحْيِ وَالعَقْلِ، وَنَسَبُوا لَهُ مَا لاَ يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِ مُعْجِزَاتِهِ، وَعَلَى رَمْيِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ بمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بُهْتَانًا وَكَذِبًا، فَكَانوُا بِمَجْمُوعِ الأَمْرَيْنِ وَضَعُوا أَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوَاضِعَهَا، فَكَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الإِمْكَانِ أَقْوَى مِنْ عَدَمِ الحُصُولِ.
وَفِي التَّصَاوِيرِ وَهِيَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
إِنَّ مَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَعْظَمَ الظُّلْمِ، وَذَكَرَ صُوَرَهُ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّاسِ، وَأَكَّدَ عَلَى أَنَّ الكَذِبَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَأَنَّ هَذِهِ القَضِيَّةَ الخَطِيرَةَ قَدْ عُولِجَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآيَاتِ، وَحَذَّرَ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا تَحْذِيرًا شَدِيدًا؛ لِئَلاَّ يَقَعَ النَّاسُ فِي أَعْظَمِ الظُّلْمِ.
إِنَّ الآيَاتِ المُثْبِتَةَ أَنَّ الكَذِبَ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَعْظَمُ الظُّلْمِ كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] {هود:18}، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، مَعْنَاهُ: لاَ أَحَدَ أَشَدُّ ظُلْمًا مِمَّنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ؛ لِبَيَانِ عَظِيمِ جُرْمِهِ، وَفَدَاحَةِ فِعْلِهِ.
وَعَابَ اللهُ تَعَالَى عَلَى الَيْهِودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي العَرَبِ عَدَمَ اتِّبَاعِهِمْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ، وَإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ؛ فقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلَامِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الصَّف:7}.
وَأَظْلَمُ النَّاسِ مَنْ يُكَذِّبُ بِالحَقِّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ، وَيَرُدُّهُ وَلاَ يَقْبَلُهُ، وَهُوَ قَسِيمُ مَنْ يَفْتَرِي عَلَى اللهِ الكَذِبَ؛ فَإِنَّ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ كَذَّبَ بِالحَقِّ، وَمَنْ كَذَّبَ بِالحَقِّ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ؛ [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمَا جَاءَهُ] {العنكبوت:68}، وَمِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ] {الزُّمر:32}.
وَمِنْ أَهْلِ الضَّلاَلِ مَنْ لاَ يَكْتَفِي بِتَكْذِيبِ الحَقِّ لَـمَّا جَاءَهُ، وَلاَ يَكْتَفِي بِافْتِرَاءِ الكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، بَلْ يَدَّعِي أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ البَاطِلِ وَحْيٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ، كَمَا قَدْ زَعَمَ ذَلِكَ بُولُّسُ مُحَرِّفُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَزَعَمَهُ رُؤُوسُ الفِرَقِ البَاطِنِيَّةِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مَا جَاؤُوا بِهِ مِنْ خُرَافَاتٍ وَانْحِرَافَاتٍ وَحْيٌ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الضَّلاَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَارِضُ القُرْآنَ بِكَلاَمٍ يَخْتَرِعُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّ القُرْآنَ كَلاَمٌ كَسَائِرِ الكَلاَمِ، وَقَدْ حَاوَلَ مُعَارَضَةَ القُرْآنِ أَقْوَامٌ فِي القَدِيمِ وَالحَدِيثِ، فَخَابُوا وَخَسِرُوا، وَبَقِيَ كَلاَمُ اللهِ تَعَالَى مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً، وَآيَةً بَاهِرَةً تَحَدَّى اللهُ تَعَالَى الجَنَّ وَالإِنْسَ مُجْتَمِعِينَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، أَمَّا أُولَئِكَ الجَهَلَةُ المَغْرُورُونَ بِكَلامِهِمْ، الزَّاعِمُونَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمِثْلِ القُرْآنِ، فَمَا حَالُهُمْ إِلاَّ كَحَالِ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ حِينَ قَالُوا: [لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] {الأنفال:31}.
إِنَّ كُلَّ أُولَئِكَ هُمْ أَظْلَمُ النَّاسِ، وَهُمْ مَنْ عَنَى اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ] {الأنعام:93}.
وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ هَدَفُ المُفْتَرِي عَلَى اللهِ كَذِبًا إِضْلَالَ النَّاسِ عَنِ الحَقِّ، وَغَمْسَهُمْ فِي البَاطِلِ؛ [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الأنعام:144}، وَبِهَذِهِ الآيَةِ نَعْلَمُ خُطُورَةَ القَوْلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِلاَ عِلْمٍ كَمَنْ يُسْرِعُونَ إِلَى الفَتْوَى وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَمَنْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا لاَ يُحْسِنُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَمَنْ يَنْسُبُونَ إِلَى الشَّرْعِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَمَنْ يَسُوقُونَ أَحَادِيثَ لاَ يَعْلَمُونَ صِحَّتَهَا، فَكُلُّ أُولَئِكَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ!
وَأَضَلُّ مِنْهُمْ مَنْ عَلِمُوا الحَقَّ، وَلَكِنَّهُمْ كَتَمُوهُ وَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعَارِضُ مَصَالِحَهُمُ الآنِيَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَفِي هَؤُلاَءِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ] {البقرة:140}.
وَأَضَلُّ مِنْ هَؤُلاَءِ وأَظْلَمُ مَنْ لَمْ يَكْتَفُوا بِكَتْمِ الحَقِّ، بَلْ رَاحُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى الكَذِبَ لِحَظْوَةٍ عِنْدَ البَشَرِ، وَلِمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ يَحُوطُونَهَا بِدِينِهِمْ، فَيُحِلُّونَ المُحَرَّمَاتِ، وَيُسْقِطُونَ الوَاجِبَاتِ، وَيُبَدِّلُونَ كَلاَمَ اللهِ تَعَالَى، وَيُغَيِّرُونَ شَرِيعَتَهُ؛ لِيَرْضَى عَنْهُمُ البَشَرُ فَيَصِمُوهُمْ بِالتَّنْوِيرِ وَالتَّيْسِيرِ وَفَهْمِ رُوحِ الشَّرِيعَةِ وَلُبِّهَا، وَنَحْوُ هَذَا الكَلاَمِ المُنَمَّقِ الَّذِي لاَ يَغْتَرُّ بِهِ إِلاَّ الضُّعَفَاءُ، أَوْ يَكْتُمُونَ الحَقَّ، وَيُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ، وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ، وَيُضِلُّونَ النَّاسَ؛ خِدْمَةً لِلْإِسْلاَمِ بِزْعَمِهِمْ لِيَرْضَى عَنْهُ الكُفَّارُ وَيَقْبَلُوهُ، وَلِيُثْبِتُوا أَنَّهُ يُقَرِّرُ الحُرِّيَّةَ بِأَثْوَابِهَا الغَرْبِيَّةِ، فَلاَ يَصْمِونَهَ بِأَنَّهُ دِينٌ مُتَشَدِّدٌ مُنْغَلِقٌ مُعَارِضٌ لِلْحُرِّيَّاتِ، مُهْدِرٌ لِحُقُوقِ الإِنْسَانِ! وَمِنْ أُولَئِكَ مَنْ أَلْغَوُا الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَنْتُجُ عَنْهُ مِنْ أَسْرِ الكُفَّارِ وَأَحْكَامِ الأَسِيرِ وَالرَّقِيقِ وَالجِزْيَةِ، وَمَنْ أَسْقَطُوا الحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَمَنْ غَيَّرُوا أَحْكَامَ اللهِ تَعَالَى فِي الأُسْرَةِ وَالمَرْأَةِ وَسَاوُوهَا بِالرَّجُلِ! كُلُّ أُولَئِكَ هُمْ مِمَّنْ يَفْتَرِي الكَذِبَ عَلَى اللهِ لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَمَا أَكْثَرَ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.
وَالمُحَرِّفُون لِكَلاَمِ اللهِ تَعَالَى، المُبَدِّلُونَ لِشَرِيعَتِهِ، يَسْعَوْنَ جُهْدَهُمْ لِرَدِّ النَّاسِ عَنِ الحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ عِلْمَ النَّاسِ بِالحَقِّ يُؤَدِّي إِلَى فَضِيحَتِهِمْ، وَعَدَمِ نَيْلِهِمْ مُرَادَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَعِبُوا بِدِينِ اللهِ تَعَالَى، وَفِي هَؤُلاَءِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ] {الأنعام:157}، فَهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الحَقِّ لَمَّا لَمْ يُوافِقْ أَهْوَاءَهُمْ، ثُمَّ صَرَفُوا غَيْرَهُمْ عَنِ هَذَا الحَقِّ بِتَزْيِينَ البَاطِلِ لَهُمْ.
وَإِنَّكَ لَتَرَى مَظَاهِرَ ذَلِكَ فِي هَذَا العَصْرِ جَلِيَّةً وَاضِحَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّوَازِلِ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى العِصْمَةَ وَحُسْنَ العَاقِبَةَ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ الحَيْلُولَةُ بَيْنَ أَهْلِ الحَقِّ وَبَيْنَ أَمَاكَنِ عِبَادَتِهِمُ الَّتِي يُظْهِرُونَ فِيهَا شَعَائِرَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ هَدْمُهَا وَتَخْرِيبُهَا، أَوْ نَشْرُ الخَوْفِ فِيهَا، كَمَا يَقَعُ الآنَ فِي بِلاَدِ الشَّامِ مِنْ هَدْمِ النُّصَيْرِيَّةِ مَسَاجِدَ المُسْلِمِينَ وَتَخْرِيبِهَا وَتَمْزِيقِ المَصَاحِفِ، وَقَتْلِ المُصَلِّينَ فِيهَا، وَكَمَا فَعَلَ المُشْرِكُونَ مِنْ صَدِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ عَنِ البَيْتِ الحَرَامِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الظُّلْمِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {البقرة:114}
وَمِنْ أَشْنَعِ الظُّلْمِ: الإِعْرَاضُ عِنْدَ التَّذْكِرَةِ؛ فَيُذَكَّرُ العَبْدُ بِكَلاَمِ اللهِ تَعَالَى وَكَلاَم ِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَاجِبٍ أَخَلَّ بِهِ، أَوْ مَعْصِيَةٍ وَقَعَ فِيهَا، فَيَشِيحُ بِوَجْهِهِ عَنِ التَّذْكِيرِ، وَلاَ يَرْفَعُ رَأْسًا بِالتَّنْزِيلِ، وَيَرْكَبُ هَوَاهُ، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ] {الكهف:57}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالانْتِقَامِ مِنْهُمْ: [وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ] {السجدة:22}.
فَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الظُّلْمِ كُلِّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ؛ فَإِنَّهُ لاَ عُذْرَ لِظَالِمٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ [فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ] {الرُّوم:57}.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ] {الأعراف:37}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا لِيَوْمِ القِيَامَةِ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِنَجَاتِكُمْ؛ [يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] {غافر:52}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: عَلَى المُؤْمِنِ وَهُوَ يَقْرَأُ أَوْ يَسْمَعُ الآيَاتِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (فَمَنْ أَظْلَمُ)، أَوْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَمَنْ أَظْلَمُ) أَنْ يَقِفَ عِنْدَهَا مَلِيًّا، فَيَتَدَبَّرَهَا، ويَنْتَبِهَ لِلْأَوْصَافِ المَذْكُورَةِ عَقِبَهَا؛ لِئَلاَّ يَكُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الأَوْصَافَ وَحَذَّرَ مِنْهَا لِئَلاَّ نَقَعَ فِيهَا.
وَكَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِلاَ عِلْمٍ، فَيَفْتَرُونَ الكَذِبَ وَيَكُونُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ؟
وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ أَهْوَاءَهُمْ! وَيَدْعُونَ غَيْرَهُمْ لِلتَّمَرُّدِ عَلَى هَذِهِ الأَحْكَامِ كَرَفْضِ الحِسْبَةِ، أَوْ رَدِّ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى فِي المَرْأَةِ وَحِجَابِهَا وَحِشْمَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ، وَلاَ يَظُنُّ مَنْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بِهَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ؟
وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ يُوعَظُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَيُذَكَّرُونَ بِهَا، فَيُعْرِضُونَ عَنْهَا وَلاَ يَتَذَكَّرُونَ، وَلاَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ؟
وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُمُونَ شَيْئًا مِنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى؛ تَصَنُّعًا لِلْخَلْقِ، أَوْ مُبَايَنَةً لِلْحَقِّ، أَوْ مُكَابَرَةً فِي مُنَاظَرَةٍ، أَوْ عِزَّةً فِي مُجَادَلَةٍ، وَلاَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ؟!
وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ حَجَرَ عَثْرَةٍ فِي مَشْرُوعَاتِ الخَيْرِ، فَيُعَطِّلُهَا وَيُعَرْقِلُهَا، أَوْ يُخَرِّبُهَا وَيُلْغِيهَا، أَوْ يَصُدُّ النَّاسُ عَنْهَا؛ لِمَصَالِحَ مُتَوَهَّمَةٍ، أَوْ خَوْفًا مِنْ مَفَاسِدَ مُصْطَنَعَةٍ، وَلاَ يَشْعُرُ هَؤُلاَءِ أَنَّهُمْ بِهَذَا الفِعْلِ يَكُونُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ.
وَالعَاقِلُ يَفِرُّ مِنَ الظُّلْمِ كُلِّهِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، فَكَيْفَ بِأَعْظَمِ الظُّلْمِ وَأَشْنَعِهِ وَأَقْبَحِهِ، وَلاَ يَقَعُ الإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ بِسَبَبِ الجَهْلِ أَوِ الهَوَى؛ فَإِنَّ الجَهْلَ آفَةُ العَمَلِ، وَإِنَّ الهَوَى يُعْمِي صَاحِبَهُ عَنِ الحَقِّ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الجَهْلِ وَالهَوَى، وَمِنْ مُضِلاَّتِ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنَسْأَلُهُ العَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَهْلِنَا وَأَمْوَالِنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

أظلم الناس.doc

أظلم الناس.doc

أَظْلَمُ النَّاسِ.doc

أَظْلَمُ النَّاسِ.doc

المشاهدات 3564 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


الأخ المكرم شبيب.. شكر الله تعالى مرورك وتعليقك على الخطبة وأسأل الله تعالى أن يجزيك خيرا..