أطولُ اللذتين وأقصرُ الألمين
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ لله الدائمِ، الذي شاءَ أن يكونَ كلُّ شيءٍ زائلًا، إلا ما كان متصلًا به.
والصلاةُ والسلامُ على أعظمِ من آثرَ الباقيةَ الآجلةَ، على الفانيةِ العاجلةِ، وسلمَ تسليمًا كثيرًا.
أوصيكم، أحبتي وإيايَ، بتقوى اللهِ عز وجل؛ فمن اتقاه، فقد سلِمت عاقبتُه، في دنياه وأخراه.
قال تعالى: ﴿تلكَ الدّارُ الآخِرةُ نَجعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدونَ عُلُوًّا فِي الأَرضِ وَلا فَسادًا وَالعاقِبةُ لِلمُتَّقينَ﴾ [القصص: ٨٣].
وبعد،
أراد اللهُ سبحانه وتعالى، أن تكونَ هذه الحياةُ الدنيا دارًا مركَّبةً من اللذةِ والألمِ، لا فِكاك من أن يصيبَ كلُّ امرئٍ نصيبَه منهما.
ولمعرفةِ الناسِ بهذه الحقيقة، ويأسِهم من تجنّبِ الألمِ، فقصارى ما يسعونَ له هو تطويلُ وقتِ اللذةِ قدر استطاعتهم، وتقصيرُ وقتِ الألمِ.
ولهم في ذلك طُرقٌ ووسائل:
ومنها: سلوكُ طريقِ إغراقِ النفسِ في الشهواتِ والمُلذاتِ المُحرمةِ، ظنًّا من سالكِ هذا الطريقِ أنه سيحظى بالوقتِ الأطولِ للذةِ في حياتِه، وأن طريقَ التقوى وحجزَ النفسِ عن المحرماتِ طريقُ مكابدةِ الألمِ فيها يطول.
وإذا أردنا أن نقارنَ بينَ الطريقين، طريقَ الهوى، وطريقَ التقى، ليس من جهةِ الحلالِ والحرامِ، والثوابِ والعقابِ في الآخرةِ، ولكن من جهةِ أي الطريقينِ يحظى صاحبُه بأطولِ اللذتين وأقصرِ الألمينِ في الدنيا؟!
علّنا بهذه المقارنةِ من هذه الجهةِ، أن نضيفَ للأساليبِ التي تخاطبُ القلوبَ والضمائرَ، بالتذكيرِ بما عندَ اللهِ من الثوابِ والعقابِ، أسلوبًا يخاطبُ العقولَ، ويقودُ للإقناعِ، وترسيخِ الحقائقِ.
فإن هذه المقارنةَ ستسفر عن أن المغرِقين أنفسَهم في الشهواتِ المحرمةِ حَظوا بالوقتِ الأقصرِ للذةِ، وفاتهم الوقتُ الأطولُ لها، وكابَدوا طولَ الألمِ؛ بمعنى أنهم وقعوا فيما فروا منه، بسببِ قصرِ النظرِ والاغترارِ بظواهرِ الأمور.
بخلافِ الذين سلكوا طريقَ التقوى، وحجزِ النفسِ عن المحرمات، والإقبالِ على الطاعاتِ، فقد حظوا بالوقتِ الأطولِ للذةِ، وتجنبوا طولَ الألمِ.
وبيانُ ذلك: أن وقتَ مقارفةِ المعصيةِ هو الوقتُ الأقصرُ، مقارنةً بالوقتِ الذي يأتي بعدَها؛ فما هو إلا أن يفرغَ من معصيتِه، حتى يُكابِدَ بعدها ألمَ الندمِ، وعذاباتِ الضميرِ، ووحشةَ القلبِ، وضيقَ الصدرِ، والشعورَ المرَّ بضعفهِ أمامَ نفسه، مما هو معروفٌ ومجرَّبٌ، وكشفت عنه النصوصُ وبيّنته، في مثلِ قولهِ تعالى: ﴿وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى﴾ [طه: ١٢٤]، وقولهِ تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذينَ لا يُؤمِنونَ﴾ [الأنعام: ١٢٥].
وكما قال العاشقُ، وهو يصفُ سرعةَ ذهابِ وقتِ الوصالِ مع محبوبتِه، ثم مكابدةَ الألمِ بعده الذي يجده في قلبِه ونفسِه:
جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى
يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ
لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُما
في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ
وطَرٌ ما فيهِ منْ عيْبٍ سَوَى
أنّهُ مرّ كلَمْحِ البصَرِ
سدَّدَ السّهْمَ وسمّى ورَمى
ففؤادي نُهْبَةُ المُفْتَرِسِ
أما من سلكَ طريقَ التقوى وحجزَ النفسَ عن هواها، فإنه سيكابدُ ألمَ مدافعةِ المعصيةِ أولَ ما تعرضُ له، ومكابدةَ مجاهدةِ النفسِ على الطاعةِ، وهو الوقتُ الأقصرُ، لما يأتي بعده، ثم ينعمُ بعد ذلك بانشراحِ الصدرِ، واطمئنانِ القلبِ، وصفاءِ الذهنِ، والشعورِ بالانتصارِ على النفسِ وهواها، والتلذذِ بالطاعةِ والعبادةِ، وهو أيضًا أمرٌ مجرَّبٌ ومعروفٌ، نطقت به ألسنُ العارفين:
يقول إبراهيمُ بنُ أدهم رحمه الله: “لو علم الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحن فيه من السرورِ والنعيمِ لجالدونا عليه بأسيافهم”.
وقال آخر: إنه يمرُّ بالقلبِ أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهل الجنةِ في مثلِ هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ.
أيها الأحبة: هذا التفاوتُ بينَ الطريقين، في الدنيا، والذي كما استبانَ لك الغبنُ فيه كبير.
أما المقارنةُ في الآخرةِ، فالأمرُ أشدُّ، والغبنُ أعظمُ، فما هو وقتُ الدنيا بالنسبةِ للآخرةِ، فمن كابَدَ ألمَ الطاعاتِ وحجزَ النفسَ عن هواها، في هذه الدنيا القصيرة، كان مصيرُه دارَ النعيمِ المقيمِ، خالدًا فيها أبدًا، وأما من استلذَّ بحرماتِ الله، كان مصيرُه دارَ العذابِ المقيمِ، إلا أن يتداركَه اللهُ برحمتِه.
قال تعالى: ﴿فَأَمّا مَن طَغى وَآثَرَ الحَياةَ الدُّنيا فَإِنَّ الجَحيمَ هِيَ المَأوى وَأَمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوى﴾ [النازعات: ٣٧-٤١].
يروى عن الحجاج بن يوسف، كما نقله الجاحظ في “البيان والتبين” (١/٣٨٧) أنه قال: “أيها الناس، إن الكفَّ عن محارمِ اللهِ أيسرُ من الصبرِ على عذابِ الله”.
فالمتقي ليس زاهدًا في اللذةِ، ولكن يطلبُ أطولَها، فهو بهذا من أعقلِ الناس، حيث نظرَ إلى عواقبِ الأمورِ وبواطنِها، ولم تغرَّه بظواهرِها وسرعةِ تناولِها، فجمع اللهُ له بذلك، بين عقلٍ وافِر، ونعيمٍ دائم.
يقول ابنُ الجوزي، كما في “صيد الخاطر” (ص ٢٥٠): “العاقلُ لا يختارُ زيادةَ اللذةِ بنقصانِ العقل”.
أقولُ قولي هذا…
الثانية:
وبعد،
أيها الإخوةُ في الله، وهذه الطريقةُ في النظرِ للأمورِ، وإيثارُ اللذةِ القريبةِ القصيرةِ، على اللذةِ البعيدةِ الطويلةِ، ليس فقط في أمرِ الدين، بل حتى في أمرِ الدنيا.
فمن استعجلَ اللذاتِ فرارًا من المشاقِّ، فاته الكثيرُ من خيرِ الدنيا.
فَالَّذِي يُكَابِدُ مَشَقَّةَ تَحْصِيلِ العِلْمِ، وَيَصْبِرُ عَلَيْهَا، سَيَنْعَمُ بِنُورِهِ وَمَنْزِلَةِ أَهْلِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُجَنِّبُ نَفْسَهُ طُولَ حَيَاتِهِ مَرَارَةَ الجَهْلِ.
وَالَّذِي يُكَابِدُ مَشَقَّةَ تَحْصِيلِ المَالِ، وَيَصْبِرُ عَلَيْهَا، سَيَنْعَمُ بِحُصُولِهِ، وَيُجَنِّبُ نَفْسَهُ طُولَ حَيَاتِهِ مَرَارَةَ الفَقْرِ وَحُزْنَهُ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ نَجَاحٍ وَتَفَوُّقٍ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، يَعْقُبُهَا رَاحَةٌ طَوِيلَةٌ.
وَهَذِهِ حَقَائِقُ، عَبَّرَ عَنْهَا الأَوَّلُونَ بِأَمْثِلَةٍ وَحِكَمٍ قَصِيرَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: الرَّاحَةُ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ، وَقَوْلِهِمْ: مَن طَلَبَ الرَّاحَةَ فَاتَتْهُ الرَّاحَةُ، وَمَا أَصْدَقَ مَا قَالَهُ أَبُو تَمَّامٍ:
بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا
تُنَالُ إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
وَأَخِيرًا: هَا هُمَا الطَّرِيقَانِ قَدِ اسْتَبَانَا لَكَ، فِي أَمْرِ دِينِكَ، أَوْ أَمْرِ دُنْيَاكَ، لَا طَرِيقَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ وَبِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَإِنَّمَا الخِصَافَةُ كُلُّ الحِصَافَةِ، وَالتَّوْفِيقُ كُلُّ التَّوْفِيقِ، أَنْ تَكُونَ مِنْ أَرْبَابِ طُولِ النَّظَرِ، وَكَمالِ العَقْلِ، وَتَخْتَارَ: أَطْوَلَ اللَّذَّتَيْنِ، وَأَقْصَرَ الأَلَمَيْنِ.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا