أضرار الذنوب والمعاصي
د. محمود بن أحمد الدوسري
أضرار الذنوب والمعاصي
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام الأتمَّان على خاتم الأنبياء والمرسلين, نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: فإنَّ أضرارَ المعاصي وشؤمَ الذنوب عظيمٌ وخطير, ولها من الآثار القبيحة المذمومة, والمُضِرَّةِ بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلاَّ اللهُ تعالى.
فمِنَ أضرار الذنوب: حِرْمانُ العلم: فإنَّ العلمَ نورٌ يَقْذِفه الله في قلب عبده, والهوى والمعصية رِياحٌ عاصِفةٌ تُطفِئُ ذلك النور, قال الضَّحَّاكُ بنُ مُزاحِمٍ رحمه الله: (مَا مِنْ أَحَدٍ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ؛ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ). وقال ابن تيمية رحمه الله: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِمَّا يُعَاقِبُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الذُّنُوبِ: سَلْبَ الْهُدَى, وَالْعِلْمِ النَّافِعِ).
ومن أضرار الذنوب: حِرْمانُ الرِّزق: كما أنَّ التقوى مَجْلَبَةٌ للرزق, فترك التقوى مَجْلَبَةٌ للفقر. فما اسْتُجْلِبَ رِزقُ اللهِ بِمِثْلِ تركِ المعاصي, وأمَّا ما نراه من واقع الكفار أو الفاسقين من سَعَةِ رِزقٍ فإنما هو استدراجٌ؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ, فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]» صحيح – رواه أحمد.
ومن أضرارها: تَعْسِير الأُمورِ على العاصي: فمَن اتَّقى اللهَ جعلَ له من أَمْرِه يُسْراً, ومَنْ عطَّل التقوى جعل له من أَمْرِه عُسْراً؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]. فإنْ لم يحصلْ ذلك؛ دلَّ على أنَّ في التقوى خَلَلاً, فَلْيَسْتَغْفِر اللهَ, ولْيَتُبْ إليه.
ومن أضرارها: الطَّبْعُ على قَلْبِ العاصِي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً, نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ, فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ, وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ, وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]» حسن – رواه الترمذي.
ومن أضرارها: الخَسْفُ والزَّلازِل: قال الله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]. فما حَدَثَ لِلأُمم السَّابقة من الخَسْفِ والمَسْخِ والغَرَق؛ يمكن أنْ يَحْدُثَ في هذه الأُمَّة, إذا سلكوا مسالِكَهم, وانتهجوا مناهِجَهم.
ومن أضرارها: الاخْتِلافُ والتَّمَزُّق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا, إِلاَّ بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا» صحيح – رواه أحمد. وقد حذَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من اختلاف القلوب نتيجةً لعدم إقامة الصَّفِّ في الصلاة؛ فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قال: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ, فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ (ثَلاَثًا), وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ, أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» صحيح – رواه أبو داود.
ومن أضرار المعاصي: الهزائِمُ العَسْكَرية: في غزوة أُحدٍ كانت بداية المعركة لصالح المسلمين, ولَمَّا رأى الرُّماةُ إخوانَهم يتقاسمون الغنائم, ترك مُعظَمُهم الجبلَ, فكان ما كان, وحصل ما حصلَ, وكانت الهزيمة. فالنَّصْرُ قد ينقلب إلى هزيمةٍ إذا حصلت المعصية.
ومن أضرارها: أنها سببٌ لِهَوانِ العبدِ على ربِّه: ومتى ما هان العبدُ على اللهِ سبحانه, لم يُكْرِمْه أحدٌ؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18], ومَنْ ذا يُكْرِمُ مَنْ أهانه اللهُ؟! وإذا هان العبدُ على الله, انقطعتْ عنه أسبابُ الخير, واتَّصلتْ به أسبابُ الشر. ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ رَجُلاَنِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ, وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ» صحيح – رواه الترمذي.
ومن أضرارها: الابتلاءُ بِداءِ الأُمَم: لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ؛ هِيَ الْحَالِقَةُ, لاَ أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ, وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» حسن – رواه الترمذي. وقال أيضاً: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: «الْأَشَرُ, وَالْبَطَرُ, وَالتَّكَاثُرُ, وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا, وَالتَّبَاغُضُ, وَالتَّحَاسُدُ, حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ» حسن – رواه الحاكم.
ومن أضرار المعاصي: مَحْقُ البَرَكة: فلا تجد أقلَّ بركةً في عُمْرِه ودِينه ودُنياه مِمَّنْ عَصَى اللهَ؛ لذا فإنَّ تَرْكَ المعاصي والمُحرَّمات سببٌ من أسباب نزول البركات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
ومن أضرارها: أنها تُورِثُ الذُّل: فإنَّ العزَّ - كُلَّ العزِّ - في طاعة الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. فمَنْ كان يُرِيدُ العِزَّةَ, فَلْيَطْلُبْها بطاعة الله وذِكْرِه؛ من الكَلِمِ الطَّيِّب والعمل الصالح, فإنَّ المُطِيعَ لله عزيزٌ, وإنْ كان فقيراً ليس له أعوان, وفي دعاء القنوت: «إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ, وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» صحيح – رواه أبو داود. فمَنْ أطاع اللهَ فقد والاهُ فيما أطاعه فيه, وله مِنَ العزِّ بحَسَبِ طاعته, ومَنْ عصاه فقد عاداه فيما عَصَاهُ فيه, وله من الذُّلِّ بحَسَبِ معصيته. وفي الحديث: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» صحيح – رواه أحمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون .. ومن أضرار الذنوب والمعاصي: أنها تُزيل النِّعَم: وأعظمُ النِّعم هي نعمةُ الإيمان؛ فمَنْ أذنَبَ بالزنا أو السرقةِ أو شُرْبِ الخمر؛ فإنه يخرج عن دائرة الإيمان حال تَلَبُّسِه بهذه المعاصي؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ, وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ, وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ» رواه البخاري ومسلم. وقال أيضاً: «إِذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ, كَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ, فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ» صحيح – رواه أبو داود.
ومن أضرارها: أنها سببٌ في نُزولِ البلاء: قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30], فما أصاب العبادَ من مُصيبةٍ؛ في أبدانِهم, وأموالِهم وأولادِهم, وفيما يُحِبُّون, إلاَّ بسبب ما قَدَّمته أيديهم من السيئات, وما يعفو اللهُ عنه أكثر, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا اخْتَلَجَ عِرْقٌ [أي: تَحَرَّكَ واضْطَّرَب], وَلَا عَيْنٌ إِلَّا بِذَنْبٍ, وَمَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» صحيح – رواه الطبراني.
ومن أضرارها: زَوَالُ الأمْنِ والاطْمِئنان: قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. فهذه سُنَّةُ اللهِ في خَلْقِه في كلِّ مكانٍ وزمانٍ.
ومن أضرارها: أنها تُؤثِّر في القلوب: كتأثير الأمراض في الأبدان. والقلوبُ لا تُعطَى مُناها حتى تَصِلَ إلى مولاها, ولا تَصِلُ إلى مولاها حتى تكونَ صحيحةً سليمةً, ولا تكون كذلك حتى تُخالِفَ هَواهَا.
ومن أضرارها: أنَّ العاصي في أسْرِ شَيْطانِه, وسِجْنِ شَهَواتِه: فهو أسِيرٌ مَسْجونٌ مُقيَّدٌ بالذُّنوب والشَّهَوات, ولا سِجْنَ أضْيَقُ من سِجْنِ الهوى, ولا قَيْدَ أصعبُ من قيد الشهوة. والمحبوسُ من حَبَسَ قلبَه عن ربِّه, والمأسورُ مَنْ أسَرَه هواه.
ومن أضرارها: ظُلْمَةُ القلب: فإنَّ الطاعة نور, والمعصيةَ ظُلمة؛ فما شِئْتَ من بِدَعٍ وضَلالةٍ, واتِّباعِ هوًى, واجتنابِ هُدًى, وإعراضٍ عن أسبابِ السعادة, واشتغالٍ بأسباب الشَّقاوَة. وتَمْتَدُّ هذه الظُّلمةُ حتى تَصِلَ إلى قبره؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا, وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاَتِي عَلَيْهِمْ» رواه مسلم.
ومن أضرارها: أنها تُنسِي العبدَ نفسَه: قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]؛ وقال سبحانه – في المنافقين والمنافقات: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. فمَنْ نَسِيَ ربَّه, عاقَبَه عُقوبتين؛ إحداهما: أنه سبحانه نَسِيَه, والأُخرى: أنه أنسَاهُ نفسَه. فيُنْسِه عُيوبَ نفسِه, ونقصَها وآفاتِها, فلا يخطر بباله إزالتُها وإصلاحُها.
ويُنْسِيه أمراضَ قلبِه, فلا يَخْطُرُ بباله مُداواتُها. فأيُّ عقوبةٍ أعظمُ من عُقوبة مَنْ أهْمَلَ نَفْسَه وضَيَّعَها, ونَسِيَ مَصالِحَها, وأسبابَ سعادَتِها؟! وأكثَرُ الخَلْقِ نَسُوا حظَّهم من التِّجارةِ الرَّابِحَة, واشتغلوا بأسبابِ التِّجارة الخاسِرَة.
المرفقات
1639562102_أضرار الذنوب والمعاصي.docx